ياسمين آذار المخضب بالدم: الحلقة 54/ محمد فاروق الإمام

خطّة العميد رفعت الأسد للسيطرة على دمشق

كان العميد رفعت الأسد يستغل فترات ضغط الإخوان المسلمين على مرافق الدولة المختلفة ويطلب في ذروة الأزمة ضباطاً ومجندين إلى الوحدة، وكانت إدارة شؤون الضباط تستجيب له وكذلك شعبة التنظيم والإدارة الأمر الذي رفع تعداد الوحدة من ستة عشر ألفاً إلى أربعين ألفاً من مختلف الرتب، وقد ساعده في ذلك أن التطوّع كان مفتوحاً لديه ولهذا فانَّ كل مجند يأتي إلى الوحدة يكون زيادة على الملاك، وحتى تستوعب سرايا الدفاع، التي هي في الأساس (فرقة مدرعة) + لواء مشاة جبلي + ثلاثة أفواج إنزال + كتيبة (مغاوير خاصة + كتيبة دبابات مستقلة)، هذه الأعداد الكبيرة من الجنود، شكّل العميد رفعت بصورة غير نظامية أربعة ألوية مشاة أطلق عليها «الألوية المحيطة» وأعطاها أرقاماً من عنده وكلّف كل لواء منها بمهمة السيطرة على المحاور المؤدّية إلى دمشق وفقاً لما يلي:
اللواء الأول: محور حمص ـ دمشق. 
اللواء الثاني: محور بيروت ـ دمشق.
اللواء الثالث: محور القنيطرة ـ دمشق.
اللواء الرابع: محور درعا والسويداء ـ دمشق.
كانت الفكرة الأساسية للسيطرة على دمشق تقضي بإغلاق المحاور الأساسية في وجه الوحدات والتشكيلات الضاربة المتمركزة خارج دمشق والتي ولاءها معقود للقائد حافظ الأسد، وفي اللحظة نفسها تتحرّك ثلاث مفارز قوامها سرية دبابات + سرية مشاة ميكانيكية + فصيلة هندسة عسكرية بمهمة السيطرة على منـزل رئيس الجمهورية من قبل المفرزة الأولى، بينما تقوم المفرزة الثانية بالسيطرة على مقر القيادة العامة، والمفرزة الثالثة تقوم باحتلال مقر الإذاعة والتلفزيون وتعلن مباشرةً على العالم نبأ استلام «رفعت الأسد» مقاليد السلطة في البلاد، ولإشعار سكان العاصمة دمشق بأنّ القبضة التي استلمت الحكم هي قبضة فولاذية، تقوم كتائب المدفعية (ب م ـ 21) بقصف دمشق عشوائياً لإرهاب السكان وقطع أنفاس الناس حتى يصبح أهل الشام مثل أهل بغداد أيام «الحجّاج» سابقاً وأيام «صدّام» لاحقاً.
بعد ذلك تقوم مفارز المشاة من سرايا الدفاع بعملية نهب وسلب للمدينة المنكوبة وقد أبلغ العميد رفعت ضبّاطه وجنوده أنّ المدينة ستكون لهم حلالاً زلالاً مدّة ثلاثة أيام بلياليها، وبعدها لا يجوز أبداً أن يظلّ فقير واحد في سرايا الدفاع، وإذا طلب أي جندي بعدها مساعدة أو إكرامية ستقطع يده، ولذلك على من يكتبوا تاريخ سورية الحديثة أن يقدّروا مدى وأهميّة الحكمة البالغة التي استخدمها الرئيس حافظ الأسد بنـزع فتيل الأزمة على نار هادئة.
رفعت الأسد حزين لاضطراره إلى تدمير دمشق الرائعة الجميلة
يمكن لكتيبة واحدة من أن تطلق 720 طلقة في دقيقة وعشرين ثانية وهي الجيل المطوّر عن قذائف (الكاتيوشا) التي ابتكرها المهندسون الحربيون الروس في الحرب العالمية الثانية وكان لها دور مؤثر في الضربات النارية، وفي حديث هامس لأبي دريد «رفعت الأسد» مع مستشاره السياسي «محمد حيدر» وكانا يمشيان في ضوء القمر بمعسكرات القابون: «مو حرام وا أسفاه أن تهدم هذه المدينة الجميلة»، فأجابه محمد حيدر: «والله صحيح حرام وا أسفاه ولكن شو طالع بأيدينا غير هيك".
"علي عيد" يرسل مفرزة من اللصوص لنهب مدينة دمشق
في أوائل نيسان من العام 1984م وحوالي الساعة الرابعة بعد الظهر تلقيت اتصالاً هاتفياً من قائد قواتنا في طرابلس العميد سليمان حسن وأعلمني أن "علي عيد" جهز مفرزة من اللصوص قوامها حوالي مئتي عنصر مع عشرين سيارة متنوعة وهم مسلحون ببنادق كلاشينكوف ومدافع مضادة للدروع (آر. ب. ج.7) وقنابل يدوية ومسدسات. وهناك اتفاق ضمني مع "أبو دريد" يعني العميد رفعت الأسد بأن هذه المجموعة سوف تشارك في نهب محلات المجوهرات خاصة في دمشق عندما تحين ساعة الصفر لاستباحة المدينة ثم يهربوا بالمسروقات إلى لبنان (طرابلس الشام) وهناك تتم عملية الاقتسام.
اتصلت فوراً بقائد فرقة الدفاع الجوي بالمنطقة الوسطى اللواء أحمد غميض وأسندت إليه مهمة القبض على اللصوص وقلت له: إذا كنت غير قادر على مجابهتهم فأنا على استعداد لأن أعطي أمراً لمدير كلية المدرعات العميد فاروق عيسى لكي يضع تحت تصرفك سرية دبابات من فوج البيانات العملية. فأجابني لا لزوم لذلك فأنا قادر على مجابهتهم وإلقاء القبض عليهم.
وبعد ربع ساعة اتصل بي اللواء "غميض" وقال لي: لقد "لقد زمق" اللصوص إلى دمشق ولم نستطع الإمساك بهم..
قلت لقائد الفرقة: ألم أقل لك إذا كنت غير قادر على التنفيذ أعلمني حتى أسند المهمة لغيرك!. فأجابني: سيدي "زمقوا".. "زمقوا"..لم نستطع أن نعمل لهم شيء.. 
أنهيت المكالمة واتصلت على الفور باللواء شفيق فياض قائد الفرقة المدرعة الثالثة والمتمركزة في القطيفة وأسندت إليه مهمة القبض على اللصوص وطلبت إليه أن يحرك سرية مشاة ميكانيكية من اللواء عشرين وأن يضع عربة مدرعة على مفرق معلولا وعربة ثانية على المحور القديم، وباقي العربات على المحور الأساسي. وأن يكون الاتصال بالنظر بين الجميع. وكان جوابه: سيدي اتركوا لي التفاصيل وسوف تسمعون الأخبار الطيبة بعد أقل من ساعتين.
كان وصول اللصوص إلى دمشق سيشكل إهانة لسمعة القوات المسلحة إذ إنهم تمكنوا من خرق كافة الحواجز الأمنية على الطرقات. صحيح أنهم يرفعون أعلام الحزب وشعاراته على سياراتهم وصور رفعت الأسد ولكن هذا لا يغير من حقيقتهم.. وهو أنهم لصوص حقيرون لا يجوز أبداً أن نسمح لهم بدخول دمشق وممارسة مهام التخريب والسلب التي كانوا يمارسونها سابقاً في بيروت عندما أطلقوا على أنفسهم "فرسان البعث" وهم خليط من سرايا الدفاع وعناصر "علي عيد" وقد انسحبوا من بيروت إلى طرابلس الشام ولم يتصدوا للقوات الإسرائيلية أثناء اجتياحها للعاصمة اللبنانية في صيف عام 1982م. لذلك فإن قواتنا المسلحة الباسلة لا تحترمهم أبداً.. بل تحتقرهم.. وبعد ساعة ونصف الساعة تماماً اتصل اللواء شفيق فياض ليعلمني عن نجاح المهمة وأن اللصوص أصبحوا رهن الاعتقال بعد أن تم تجريدهم من أسلحتهم وذخائرهم وسياراتهم..
قلت للواء شفيق: يجب أن يعاملوا باحتقار كما يعامل البدوي الجمل الأجرب.. وكما يعامل الفلاحون الكلاب الشاردة. فقال: لا توصي حريصاً.. فهم موضوعين في العناية الثورية المشددة. وسينالون عقاباً وضرباً شديداً على مؤخراتهم بعد رشهم بخراطيم المياه.. حتى لا ينسوا هذا الحدث في حياتهم.
وتم احتجاز اللصوص شهراً ونيف ولم يطلق سراحهم إلا بعد أن انتهت الأزمة وسافر العميد رفعت إلى موسكو.
يتبع

كيف سيكون وضع فرنسا عام 2025؟/ د. صالح بكر الطيار

فيما اعلن السلفي التونسي كمال زروق ان فرنسا ستصبح عام 2025 " دولة اسلامية " فقد كانت حكومة جان ماري ايرولت تقدم امام الرئيس فرنسوا هولاند بعد انتهاء العطلة الصيفية اوائل شهر سبتمبر/ ايلول 2013 دراسات ترسم بموجبها ما ستؤول اليه فرنسا عام 2025 على المستوى السياسي والأمني والإقتصادي والإجتماعي.
فوزير الاقتصاد بيار مسكوفيسي رأى أن هناك إمكانية حقيقية لحل مشكلة البطالة بشكل نهائي مع حلول عام 2025 وأن تسترجع فرنسا "سيادتها المالية" كاملة شرط ان يتم إصلاح نظام التقاعد وإعادة التوازن للموازنة العامة، فضلا عن إصلاحات أخرى تخص عالم العمل وتجديد العلاقات بين أربابه ونقابات عماله.وتوقع في نفس الوقت تراجع اقتصاد فرنسا من المرتبة الخامسة عالميا حاليا إلى المرتبة التاسعة.
ومن جهته، تحدث أرنو مونتبور وزير التقويم الإنتاجي عن "ثورة صناعية ثالثة" في فرنسا، تلعب فيها "التقنيات الرقمية" دورا محوريا وتمكنها من تدارك التأخير الذي تشهده على المستويين الاقتصادي والاستثماري. ويرى مونتبور أن دعم "الثورة الصناعية" بالتقنيات الرقمية سيجعل فرنسا من بين الدول الأكثر استقطابا للطلبة والباحثين والمستثمرين العالميين ومن أشد المنافسين لشركات الإنترنت الكبرى مثل "غوغل" و"ياهو".
 أما بالنسبة لوزير الداخلية مانويل فالس، فهو يراهن على التكنولوجيا كوسيلة لتكثيف وتحسين خدمات قوات الأمن لكي تستجيب بشكل أسرع وأفضل لاحتياجات المواطنين الفرنسيين. وأكد فالس أن الرهان كبير في استعمال التكنولوجيا في مجال الأمن لتقريب الشرطة أكثر من المواطنين وإيجاد حلول لمشاكلهم الأمنية.
ونفس الرؤى راودت  وزيرة العدل كريستيان توبيرا التي تريد إصلاح المنظومة القضائية الفرنسية وجعلها أكثر شفافية وأقرب للمواطنين. وتعول توبيرا أيضا على التقنيات الرقمية وعلى الإنترنت لتبسيط الإجراءات القضائية للفرنسيين وكسب الوقت وتحسين خدمات وزارة العدل وتطويرها، إضافة إلى تخفيض أسعار الخدمات التي يقدمها كتاب العدل والمتخصصين في مجال المحاسبة وتوقعت سيسيل ديفلو وزيرة الإسكان، ان يتم توفير 6 ملايين شقة سكنية بحلول عام 2025 معتبرة أن العيش في هذه الشقق في المستقبل لن يكون أمرا صعبا أو اضطراريا، بل خطوة جميلة ومريحة في حياة أي مواطن فرنسي.
وتعهدت بالقضاء على المساكن القديمة وغير المجهزة، إضافة إلى تخفيض بدلات الإيجار وتطرق وزراء أخرون الى المشاريع المستقبلية التي يمكن لفرنسا ان تحققها ، ولكن أي من الوزراء لم يورد في دراسته تفاصيل عن كيفية تحقيق ما تصبو اليه فرنسا الأمر الذي دفع بالمعارضة الفرنسية الى انتقاد هذه الطروحات حيث قال لوران فوكييز، نائب رئيس "حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية" المعارض، "بدلا عن أن ترسم الحكومة الحالية صورة فرنسا 2025 ، من الأفضل أن تجد حلولا لتخفيض الضرائب المرتفعة وتوفير فرص عمل جديدة للعاطلين عن العمل".وقال إريك سيوتي، وهو نائب في نفس الحزب، "إن الندوة التي نظمتها الحكومة عبارة عن إستراتيجية إعلامية فقط هدفها إقناع الفرنسيين بأن الحكومة تنشط وتعمل وتحل مشاكلهم. لكن في الحقيقة هذه الحكومة لا تعرف الطريق الذي ستسلكه في الخريف المقبل".ونفس الانتقادات وجهها فرانسوا بيرو رئيس "حزب الحركة الديمقراطية" حيث صرح أنه رغم الخطابات والتصريحات، فالحكومة الحالية لم تنجح في تنفيذ أية خطة إصلاح حقيقية.في كل الأحوال فإن مجرد التفكير بوضع فرنسا عام 2025 هو خطوة هامة لأنها تحاول ان تستشرف مصير البلاد بعد 12 عاماً فيما معظم الدول العربية ليس لديها أي فكرة عن اوضاعها حتى بعد 12 شهراً

رئيس مركز الدراسات العربي الاوروبي .

دراسة لديوان "هدهد خارج نبوءة المَطر" للشاعر رشدي الماضي/ حاتم جوعيه

مقدّمة ٌ وتعريف :  الشَّاعرُ والأديبُ الكبير الأستاذ  " رشدي الماضي "  في طليعةِ  الشعراءِ  والأدباءِ المُبدعين  المحلِّيِّين ، ومن  أهمِّ  الأشخاص  الذين وَاكبُوا المسيرةَ والحركة َالثقافيَّة وساهَمُوا  بشكلٍ  فعليٍّ وجذريٍّ  في تطوير وَتألُّق ِالشِّعر والأدبِ المحلي، وبهم ارتقى الشعرُ الفلسطيني المحلِّي ( داخل الخط  الأخضر) إلى أبعادٍ  أوسع  وأشمل   .     أصلُهُ  من  قرية  "إجزم "  المُهجَّرة ، ويسكنُ في مدينة  حيفا - بعد عام النكبة ( عام 1948) .  حاصلٌ  على عدَّةِ شهاداتٍ جامعيَّةٍ  في الأدبِ العربي وغيرهِ ، عملَ في سلكِ التعليم  لفترةٍ  طويلةٍ  وكانَ مديرًا لمدرسةِ المتنبِّي الثانويَّة - حيفا -  وخرجَ  للتقاعد  قبلَ بضع سنوات .  نشرَ الأستاذ ُ رشدي الماضي إنتاجَهُ الإبداعي- الشِّعري والنثري- في معظم الصُّحفِ ووسائل الإعلام المحليَّةِ وخارج البلاد  وحققَ شهرة ً واسعة ً محليًّا وعربيًّا  وعالميًّا ... وأجروا  معهُ  الكثيرَ  من اللقاءاتِ الصحفيَّةِ  من  قبل وسائل الإعلام المختلفة خارج البلاد  .  وأمَّا  الآن  وبعد  خروجهِ للتقاعد أصبحَ  متفرِّغًا ويكتبُ  وينشرُ بشكل ٍ مُكثَّف . أصدرَ العديدَ من  الدَّواوين  الشعريَّةِ ،  وأحَدُ  دواوينهِ  أصدرتهُ    " دار العودة "  بلبنان  قبلَ  اكثر من سنة  .  وأمَّا  ديوانهُ الأخير  الذي بين أيدينا   فهو من  إصدار :" مؤسَّسَة الأفق  للثقافةِ  والفنون "- بإدارة الصَّديق الفنان الأستاذ  "عفيف  شليوط ".  يقعُ  هذا الديوان  في  68  من  الحجم المتوسطِ  الكبير ، مطبوعٌ  طباعة أنيقة وفاخرة وتحلِّيهِ  صورة ٌ جميلة ٌ على الغلاف  .  وعلى  الغلافِ من الوجهِ الإخر( الخلف ) توجدُ  مقدِّمة ٌ صغيرة  للكاتبِ الفلسطيني " زياد  خداش "  يشيدُ  فيها  بمكانةِ  ومقدرةِ  الأستاذ  " رشدي الماضي " الشِّعريَّةِ  وبما  يميِّزهُ  في عالم ِ الكتابةِ والمواضيع  التي  يطرحها ، وخاصَّة ً الجانب الإنساني  والقومي  والوطني ...  والمقدِّمة ُ  كُتِبَتْ  بلغةٍ  شاعريَّةٍ  مُؤَثِّرةٍ  ،  ويقولُ  فيها : ( "  رشدي الماضي شاعرٌ  فلسطيني ، من  إجزم  المسروقة تحديدا . وأن تكونَ من قريةٍ مسروقةٍ يعني أن تتخذ َمن الشِّعر ذريعة ً للبقاءِ  على قيدِ الدَّهشةِ  والحنين  والحلم .   بالشعر الحار  يقترفُ رشدي الماضي الحنينَ مُؤسطرًا باليوم  ومعمَّدًا  باللغةِ ومُسَربلاً  بالعشق .   ومن المؤَكَّدِ أنَّ الشِّعرَ لن يُعيدَنا إلى بلادِنا، ولكنَّهُ بالتأكيدِ سيُعَمِّقُ إحساسَنا بقدسيَّةِ  العودةِ .   هذا بالضَّبطِ  ما  يفعلهُ بنا  شعرُ رشدي الماضي  . 
مَدخَلٌ: ساتناولُ في هذهِ المقالةِ بعضَ القصائدِ من الديوان مع الإستعراض  والتحليل ِ... وأوَّلُ  ما سأبدأ بهِ  قصيدة (" لعنقاءِ القيامة صليب صديق  ومسامير صائبة "-  صفحة 7 – 9 ) ...  وهذهِ  القصيدة ُ من  الناحيةِ  الشكليَّةِ  تُدرَجُ ضمنَ الشعرالحديثِ الحرِّ ، وقريبة إلى شعر التفعيلة ،هي غير مقيَّدةٍ  بوزن  مُعيَّن ، لكن  يوجدُ فيها موسيقى داخليَّة أخَّاذة ، وهنالك  بعضُ المقاطع  فيها  جاءَت موزونة بشكل ٍ عفويٍّ، ومنها على بحر المتقارب في مطلع  القصيدة    (الوزن الذي يسمِّيه البعض الرومانسي الثوري)، والبعض على وزن الرجز والكامل، وفي الكثير من المقاطع والجمل يستعملُ عدَّةَ  تفاعيل مختلفة كتلوين على شكلِ  التقاسيم الموسيقيَّة ، وإيقاعات هذه القصيدةِ حلوة  ولها وقعُها وتأثيرُها في الأذن والعقل والقلبِ والخيال . وموضوعُ القصيدةِ  الرَّئيسي هو الإنسان  الفلسطيني المكافحُ والمناضلُ  والذي يحملُ  صليبَهُ  أكثرَ من نصف  قرن . والقصيدة ُ يكتنفها  الغموضُ  والطلاسمُ  والضبابيَّة ُ ويستعصي  فهمُهَا على الكثيرين  من الدارسين  والقرَّاءِ ، ويستعملُ   فيها   فيها  الشَّاعرُ  توظيفات  عديدة : لاهوتيَّة  وتاريخيَّة، ويوظفُ  شخصيَّة َ يسوع  للمسيح عليهِ  السلام  الذي هو محور وجوهر الموضوع  والقضيَّة  ظاهريًّا  وشكليًّا  ليصلَ من خلالِهَا إلى الأهدافِ والأبعاد  التي  يُريدُهَا .                                                                            ويقولُ الأستاذ رشدي الماضي في القصيدة :  
(" تسيرُ ... تسيرُ  "خُطاهُ " //  على  بُحَيْرةٍ   تغسلُ  //  آلامَهُ  وأرجلهُ ..//  
 تحملُ  على   كتفٍ   تقومُ    //   فداءً    مُخلِصًا   // " ) .  
   لأوَّل ِ وهلةٍ سيفهمُ  القارىءُ  هذا المطلع  على أنَّ  المَعني  بهِ  حرفيًّا  هو  يسوع المسيح ، حيث  خُطاهُ  تسيرُ ، ووضعَ  كلمة َ خُطاه  بين  قوسين لأنَّ    الكثيرين  من  البشر  ساروا على  خطاه  وعلى  طريقِهِ  لأجل ِ التَّحَرُّر من  عبوديَّةِ الآثام والخطيئةِ ولنيل غفران الخطايا وللخلاص الروحي والجسدي  والخُلود  في الملكوت السماوي  مع  القديسين والأبرار الأطهار  .   وخطاهُ سارت إلى بحيرةٍ تغسلُ آلامَهُ وأرجلهُ ..أي يقصِدُ آلامَ الصَّليبِ والمعاناة  في  سيره  المضني نحو الجلجثة  وقد  تعبَت رجلاهُ  في درب الآلام ... وغسيلُ الأرجلُ  يرمزُ إلى  النقاءِ  والتطهير من غبار ووحل هذا  العالم  ورواسِبهِ  - العالم  المادي -  ( قصَّة  يسوع  عندما غسلَ  أرجلَ  تلاميذهِ ، وفي  البدايةِ رفضوا أن يغسلَ  بنفسهِ  أرجلهم ،  فقالَ  لهم  :  من  يرفض  لا  يكون  له  نصيب معي في ملكوتِ السَّماء)، لقد غسلَ أرجلهم  كرمز للتواضع والأنكسار  وللمحبَّةِ والوداعةِ والنقاءِ والتطهير من غبار وأقذار  وأخطاءِ  هذا  العالم  . كلُّ هذه  المعاني التي ورَدت في القصيدةِ تنطبقُ على شخص يسوع المسيح .    ويقولُ الأستاذ رشدي الماضي  : (  تحملُ على كتفٍ تقوم  فداءهُ  مخلِّصا ) ...   أي على كتفهِ حملَ الصَّليب الثقيل .. صليب الفداء للبشر أجمعين  .  
  إنَّ هذه المعاناة ودربَ  الآلام  وعذابَ الصَّليبِ ينطبقُ  أيضًا على الإنسان الفلسطيني المُهَجَّر والمُشَرَد الذي أقتلعَ  بالقوَّةِ  من أرضِهِ ووطنهِ  وما  زالَ   يحملُ  صليبَ عذابهِ  ومُعاناتِهِ ولم  يجدْ  مَن  يُسعِفهُ ويمدُّ  لهُ  يدَ  العون في هذا  العالم ِ المليىءِ  بالخطيئةِ  والشُّرور .. وما عليهِ  إلاَّ  أن  يغسلَ  رجليهِ  من غبار هذا العالم ِ الخاطىءِ  .   وفي القصيدةِ  يظهرُ  أيضًا طابَعَُ  التفاؤُل وومضاتُ  والأمل الإشراق  .    فيقولُ الشَّاعرُ : 
( " أرسلتُ زاجلي //  بريدًا  سريعا  //   فعادت   قواربَ  //   
     بحُمولةِ الأحلام   كانت   ذاهِبَة   //   " )  .    
    إنَّ الحمامَ هو رمزٌ  للسلامِ والمحَبَّةِ ولنقل ِالأخبار السَّارَّةِ  منذ عهدِ  نوح  والطوفان (حمامة نوح التي رجعت بغصن ِ زيتون  مُعلنة ً ومُبشِّرة ً بانتهاءِ الطوفان ورجوع ِ الحياةِ  والخُضرةِ  للأرض  )  .  
 لقد أرسلَ زاجلهُ ( الحمام الزَّاجل ) كبريد  سريع  فرجعت القواربُ مُحَمَّلة ً  بالأحلام التي  كانت  ستذهبُ  وتتلاشَى ... أي  انَّ  الأملَ موجودٌ ، وتحقيق النصر والعدالة وإعادة الحق الضائع للفلسطيني المشرَّد أمر لا بدَّ  أن  يتحقَّقَ ، فحمولة ُ الأحلام  رجعَت  في  قواربها  بعد أن  كانت  مغادرة ً ومُبتعدة ،  وعلى الشَّعبِ  الفلسطيني المقهور والمنكوب  أن  يعرفَ  كيفَ  يستغلَّ  كلَّ الظروفِ والأوضاع ويتمسَّكَ بأحلامِهِ وآمالِهِ الضَّائعةِ  لإعادةِ حلمهِ المنشود  .  ( لقد استعمل الشّاعرُ  كلمة َ الزَّاجل لِوحدِها بدون كلمة حمام  كمرادف  لها )  .                                                                ثمَّ  يُتابعُ الشَّاعرُ رشدي الماضي حديثهُ فينتقلُ إلى مواضيع أخرى، ويتوغَّلُ  كثيرًا  في الغموض، وهنالكَ  بعضُ المقاطع  شبيهة ٌ بالطلاسم  وقد  تُشرَحُ وتفسَّرعلى عدَّةِ  وجوهٍ  وأشكال، ولا يُعرَفُ  بالضبط  ما الذي  يعنيهِ  ويقصدُهُ الشَّاعرُ منها ، مثل :   
( " خبَّأتُ   آباري   //  حتى تغادرَ  " بئرٌ " //  تشتهي  جسدِي   //     
     دَمًا    صَدِئا ً    //  نوافيرهُ   كاذبَة   //
   عنقائي !! الفتك    //    داخل الرَّماد -  رحلة   //  
   إلى الشِّتاء  ماضية  !!  //  
   أغلقي القميصَ  //   تفقَّدي  أزرارَهُ   عروة  عروة  //  " )  .  
 هذه المقاطعُ من القصيدةِ تحملُ الطابَعَ الشَّخصي والغنائي .. أي أن الشَّاعرَ يتحَدَّثُ عن نفسهِ ووجدانيَّاتِهِ، وفيها أيضًا الطابعُ الوطني والقومي، فيتحدَّثُ  عن الوطن ويتغنى بجمالهِ وآلامهِ وجراحِهِ وأجوائِهِ  وأبعادِهِ  الواسعة . ويتابعُ الشَّاعرُ  فيقولُ  :  
( "  كي  تكوني  يومَ  " تموتين "  //  قبرًا  فتيَّا  //  
      وَيومَ " تُبعَثينَ "   //  قيامة  ثوب    //   خبَّأ  "العشبة " !!   //
      فإن  عَبَسَت  " بئرٌ "..   //   في   وجهِ   الطريق ؟!  // 
      " هُدهُدُ " التيهِ  عادَ   "ماءَه "   //   ذئبا   أليفا   مُخلِصا !!! //  " )  .    يتحَدَّثُ  الشَّاعرُ هنا ويُخاطبُ  فتاتهُ  وهي  الوطن  والأرض " فلسطين " ،  وهذهِ البلادُ الأرض) تموتُ وتصبحُ  قبرًا جديدًا  فتيًّا ، ولكنها تتعافى وتقومُ من جديد  (  قيامة  ثوب ) .  ونتخيََّلُ  يسوع  المسيح عندما  صُلِبَ  وتنازعَ  الجنودُ  على  ثوبهَ  وتقاسموهُ  .        ويستعملُ  الشَّاعرُ  في نهايةِ  القصيدةِ بعض المعاني  والتعابير اللاهوتيَّة من الكتاب المقدس - العهد القديم ، مثل : ( وتحملُ " فرعون " جمرة ) -  وذلك  عندما  وضعَ  موسى  وهو  صغير الجمرَ في فمِهِ فلذعهُ عندما  كانَ أمامَ  فرعون  .  وبعضُ المعاني من العهد الجديد ، مثل : ( ترفع الصَّليب صديقا مساميرُهُ  صايئة ) ، ومثل:(" عشاؤُهُ " تجلًَّى جسَدًا وكلمة ) .  وجملة ُ يوم  تموتين ويومَ  تُبعثين  تذكِّرُنا بمَا جاءَ  في  القرآن  الكريم  عن  يسوع  المسيح : ( " وسلام عليَّ يومَ  أموت  ويومَ أبعثُ  حََيَّا  ")   .
  وفي نهايةِ  القصيدةِ  يظهرُ هدَفُ وفحوى الموضوع  بضوح ٍ أكثر، وفيها  الخلاصُ والنصرُ المنشود للإنسان  الفلسطيني  وللقضيَّةِ الفلسطينيَّةِ... وكما   انتصرَ المسيحُ  بصليبهِ  وآلامِهِ على كلِّ  قوى الشِّرِّ والظلام وعلى إبليس ،   وبصلبهِ  وقيامتِهِ  تحقَّقَ  الفداءُ  العظيم  وهو  تحرير الإنسان وخلاصه  من  عبوديَّةِ  الخطيئةِ  والجسدِ  ( كما جاء  في كتب الأناجيل - العهد  الجديد ) .    
  ويقولُ مثلاً : (" ترفع الصَّليبَ " صديقا " مساميره صابئة ) ..  والمقصودُ بالصابئةِ  ( عبدة  النجوم والكواكب ) ، والمعروفُ عندما  وُلِدَ  المسيح  جاءَ  بعضُ المجوس ( الصَّابئة ) إلى  بيت  لحم  ليروا المولودَ  المخلِّصَ  ، وهم  أوَّلُ من عرفَ  بهويَّةِ  هذا المولود وحقيقتِهِ  وببشرى  الخلاص  فابتهَجوا .  ووظَّفَ الشَّاعرُ  مصطلح  وعبارة ( صابئة  لمسامير الصَّليب ) ... أي  هم كانوا كمسامير الصَّليب ، نادوا وَبشَّروا وفرحُوا بالمولود الجديد - المسيح -  وقد استدلُّوا عليه وعرفوا مكانه  بواسطة نجم  في السَّماء الذي أوصلهم إلى المذود - مكان ولادتِهِ - وقدموا لهُ الهدايا الثمينة والأحجارالكريمة ، وبدون ِ الصَّليبِ وقيامةِ المسيح لا يكونُ  خلاصٌ  ونصرٌ  وفرحٌ  وسلامٌ  أبدي  . 
   وفي نهايةِ القصيدةِ  يتحدَّثُ  الشَّاعرُ عن العشاءِ  الأخير  و" الكلمة والجسد " ... أي لقد أقتطفَ  وأخذ َ بعضَ  المعاني  الواردة  في الإنجيل  ووظفها  هنا   في القصيدةِ . وجاءَ في إنجيل يوحنا: والكلمة ُ صارَ جسدًا ( يسوعُ المسيح )   وحلَّ  بيننا ...  وبعد الصَّلبِ  والقيامةِ  كما  وَرَدَ  في الإنجيل  تجلَّى  يسوع  بمجدِهِ الأسمَى  وفي لاهوتِهِ  جسَدًا وكلمة .   والإنسانُ الفلسطيني لا  بُدَّ  أن ينتصرَ في النهايةِ وسيُحَقِّقُ أحلامَهُ وأمنيتهُ وغايتهُ المنشودة َ ويتحرَّر وطنهُ  وبلادُهُ وتقامُ  دولتهُ العتيدة  بعد سنين ٍ وعقودٍ من المُعَاناة  والألم ِ والعذاب .    
   ولننتقل إلى  قصيدةٍ أخرى بعنوان : ( " القدس  مسرى  ومهدًا : - أيقونة  السَّماء " -  صفحة  10 - 11  ) .   والجديرُ بالذكر أنَّ القلائل من الشُّعراءِ  الفلسطينيِّين والعرب الذين كتبوا شعرًا لمدينةِ  القدس لوحدِها  وبشكل ٍ  مستقلٍّ  وَمُوَسَّع ٍ ، ومعظمُهُم  لم  يتطرَّقوا  إطلاقا  إلى الجوانبِ والمعالم  التاريخيَّةِ والحضاريَّةِ والتراثيَّةِ، والشَّوارع والزَّقاقاتِ وأماكن ودور العبادة (  الجوامع والكنائس) والأسواق والحوانيت .. إلخ . وأمَّا الشَّاعرُ الأستاذ رشدي الماضي  فيعيشُ ويتجسَّدُ ويتنفَّسُ عالمَ  وأجواءَ  وأريجَ  ورائحة َ القدس  ... ويتحدَّثُ عن كلِّ صغيرةٍ  وكبيرةٍ ، في هذهِ القصيدةِ ، في المدينةِ  المُقدَّسةِ  والأسيرةِ -  ورُبَّما  يكونُ هو الشَّاعرَ العربيَّ  الوحيد  الذي  اتَّخَذ َ هذا التوجُّهَ والنهجَ وخطى هذا المنحَى  .. ويقولُ  في القصيدةِ :  
( " أتركيهِ  يا  قدسُ  وصلِّي ... //   لأجيئكِ    مَسْرَى    //  
     لم  تعُد  دروبُهُ  حقيبة ً-  ولا   أسفارا ...  //     "  )   .                     يستعملُ الشَّاعرُ في هذهِ القصيدةِ  تقنياتٍ وتوظيفاتٍ جميلةٍ  وبشكل ٍ تكتيكيٍّ  وذكيٍّ ومتناغم ، فيتحَدَّثُ عن بوَّابَاتِ القدس ِ، وقامَ  بإدراج  اسم ِ ورقم  كلِّ  بوَّابةٍ ، وتحدَّثُ عن بعض ِالأشياءِ والأمورالأساسيَّةِ التي تتعلَّقُ بمدينةِ القدس ،  فيبدأ القصيدةَ ويستهلُّها  بالبوَّابةِ  الأولى ، فيقولُ :   
 البوَّابة ُ الأولى – 
( " دعيكِ من  نهار ٍ  تنتهرُهُ " أم  هاني "  //  
     ليلاً -  إلى  كهفهِ   لاذ َ ، لاذ َ  وَعَسعَس ...  //    
  فالثانية ( البوابة الثانية )    
( "  أتركيهِ  !!   //  أتركيهِ  يا  قدسُ  وصلِّي  ... //   
      لأجيئِكِ  مَسرى   //  لم  تعُدْ  دروبُهُ  حقيبة -  ولا  أسفارًا ...  // 
فالثالثة  (  البوَّابة  الثالثة )     
 ( "  إقرَعي  أجراسَكِ ، كي  ينهضَ  وَحيٌ   //  
       يهبط ُ  سُلَّما ...  //   
       فأنزل ، " فواتح "  تعلو :     
       " صخرة "   و "مهدًا  "  //  " قيامة "   و" أسوارًا " ...  //  " )  .  
   ويتابعُ الشَّاعرُ القصيدة َ هكذا  ( دواليك ) حتى البوَّابة  السَّابعة ، ويُوظفُ  الكثيرَ  من  الشّخصيَّاتِ  والمعَالم  والأمور المرتبطةِ  بالقدس ارتباطا  أبديًّا  (  كما  ُذكِرَ أعلاه ) ، مثل : المَسْرَى أو الإسراء والأجراس ، قبَّة  الصخرة وكنيسة المهد والقيامة وأسوار القدس، مريم البتول العذراء، الجلجثة ( المكان الذي صُلبَ  فيهِ  يسوع  المسيح )، غادة  كنعان " جدار طيطس " - ( القائد الروماني الذي هدمَ  مدينة  القدس وأسوارَها ، وطيطس أيضًا أحدُ  الشَّخصياتِ اللاهوتية الهامَّة في العهد الجديد والذي عُيِّنَ  من  قبل الرَّسول بولس للخدمةِ ولكرازةِ  الأنجيل ، وكانَ  يخدمُ  ويُبشِّرُ  في جزيرة  كريت)، ويوظف أيضًا المائدة والعشاء الأخير،  يسوع المسيح ، البراق ، خالد بن الوليد ، المسلول  ( سيف الله المسلول) ،   العازاريَّة ،  مسيلمه  الكذاب  .... إلخ  .   
  وبإختصار: إنَّ  أيَّ  قارىءٍ  يَطَّلعُ  على هذهِ القصيدةِ  سَيُحِس  ويشعر أنهُ   داخلَ مدينةِ القدس  ويمشي  في شوارعها  وأزقتها  وحاراتِها .... وسيذهبُ  بهِ  الفكرُ والخيالُ إلى الزَّمان ِ الغابر.. زمن المسيح والعشاء الأخير  وصلبه  ( الجلجثة ) .. وسيتخيَّلُ  أسوارَ القدس وكلَّ  الأماكن  المقدسة ودور العبادة  ويرى أمامَهُ  وبعقلِهِ  كنيسة المهد  والقيامة  وقبَّة  الصَّخرة  ويتخيَّل  البراق  والأسراءَ والمعراج ، ويتذكَّرُ عهدَ الفتوحاتِ وخالد  بن الوليد الذي لقبَ  بسيف  اللهِ المسلول  .     
   وهذهِ القصيدة ُ من أجمل  وأروع  القصائد التي  كُتِبَتْ  في  مدينةِ  القدس - عاصمة  فلسطين -  وربَّما  تكونُ  القصيدُة َ الوحيدة  التي  تحوي  وتضمُّ  كلَّ  هذا  الزّخمَ  من  التوظيف  اللاهوتي  والتاريخي  والتراثي  والإنساني   الواسع في داخلها ... والقصيدة ُ رمزيَّة  فيها  لمَحاتٌ  وشطحاتٌ  من التأمُّل والتَّصَوُّفِ  في  محرابِ الإيمان  وفيها  يتجلَّى لنا  التألُّق الروحي  والإتحاد  مع  الخالق  .   فهذه  المدينة ُ معقلُ  ومركزُ الدياناتِ السماويَّةِ الثلاثة  وقبلة الأمم، تسمُو بأهمِّيَّتِها ومكانتِهَا الدينيَّةِ  والتاريخيَّةِ ، وللشَّعبِ الفلسطيني هي  رمزٌ وشعارٌ لقضيَّتِهِ  لأنَّها عاصمة ُ فلسطين الأزليَّة  الأبديَّة   فعندما  يُذكرُ  اسمُ القدس نتذكَّرُ  فلسطين والعكس بالعكس  . وهنالك  العديدُ  من  الشُّعراءِ الذين  كتبوا شعرًا  لمدينةِ  القدس ، ولكن  قصائدَهم  لم  تتحدَّث  إطلاقا عن أجواءِ ومعالم القدس  وطابعها وتاريخها  وشوارعها ...إلخ . كما هو  الأمر عند  شاعرنا القدير  رشدي  الماضي ، ومثال على  ذلك :  قصيدة  للشَّاعر إبراهيم  طوقان ( شاعر فلسطين  قبل النكبة )  بعنوان : ( القدس ) ،  ولولا  هذا العنوان سيظِنُّ  كلُّ من  يقرؤُها  أنهُ  يتحدَّثُ عن بنايةٍ  كبيرة جدُّا  تضمُّ  مجمعًا  تجاريًّا وأسواقا ومراكز  ثقافيَّة  ومكاتبَ لأحزاب متعدِّدة  وغيرها ، ولا  يوجد  لها  أيَّة ُ علاقةٍ  مع  مدينةِ القدس ، ويُفهَمُ  من القصيدةِ  فقط  أنهُ  يتحدَّثُ  عن القضيَّةِ  الفلسطينيَّةِ  وكيف أنَّ  الأحزابَ  والزعامات  التقليديَّة والسِّياسيَّة في خلافاتِهم وتناحرهم على الزَّعامةِ والقيادةِ  آنذاك  ضيَّعوا هذه  القضيَّة .  ويقول إبراهيم  طوقان  في القصيدة : 
(" دارَ الزَّعامةِ  والأحزابِ  كانَ  لنا     قضِيَّة ٌ   فيكِ ،   ضَيَّعنا    أمانيها 
   قضيَّة ٌ   نبذوهَا   بعدَما     قتلتْ      ما  ضرَّ  لو  فتحُوا قبرًا  يُوَاريهَا ") 
         هُوَ  يتحدَّثُ عن  التطاحن ِ الحزبي الذي  تفشَّى  في  فلسطين  أنذاك (  زمن الإنتداب )، وكانت  القدس عاصمة َ البلاد  ومركزَ هذا التطاحن .
  ولننتقل إلى  قصيدةٍ أخرى  بعنوان : ( " قصائد  غادرَت  قطار  الخروج  ؟ !! " - صفحة 12 - 13 ) .. وهذهِ القصيدة ُ وجدانيَّة ٌ وذاتيَّة ٌ،  فيها  رُؤيا فلسفيََّة وتحليلٌ للحياةِ والكون والطبيعةِ ، ويَشُوبُهَا الحيرة ُ والتساؤُلُ والبحث  عن الذات وماذا على الإنسان  ( الشَّاعر) أن  يكون وفي أيِّ  موقع  وعقيدة وفكر ٍ ومذهب، وأيّ  نهج ٍ وطريق عليهِ أن ينتهج  . ويُوظفُ الشَّاعرُ في القصيدةِ  بعضَ الشَّخصيَّاتِ الأدبيَّةِ والتاريخيَّةِ ، مثل: الشَّاعر" ديك الجن الحمصي "  الذي أتّهمَ  بالسادِيَّةِ  والسُّكر والعربدةِ والشذوذ وبالعُقدِ النفسيَّةِ  وبقتل ِغلامِهِ وجاريتِِهِ ، وهو من  فحول الشعراء  في العصر العبَّاسي وكان أستاذا  لأبي تمام  في الشِّعر - حسب ما  يُروَى ، وَيُوظفُ أيضًا  شخصيَّة َ أبي  نوَّاس ،  ويقولُ الشَّاعرُ  في  القصيدةِ :   
( " حينَ  لم  تقبل المفصلة  //   الا   سفرًا   //   فوقَ عنق ِ لساني   // 
   حملتُ عزلتي على  كتفي //   وناديتُ    الحقائبَ   //   
   من  أقصَى  الخُروج !!   //   
   واصَلتُ المَسيرَ //  أبحثُ  عنِّي //  أطلبني  من غيري // 
   حانَ  لي  المَآبُ    //  " ) .                                                       أي هو موغلٌ  في السَّفر في سراديب ومتاهات هذهِ  الحياة وللبحثِ عن الذات  .   
ويقولُ  في القصيدة :                                                                              ( " أخرجتُ ظلِّي  عن  طورِهِ //    فلم  يعُدْ   يَكتم   صمتهُ   //  
     أنا  لستُ    أنتَ    //   ولستَ  حتى  سواك !!  //   
     إرتداني  التامُّلُ  البليل    //   ليمنعَ    سقوط َ   الذاكرة   //  
     ها   هُوَ   الليلُ   //   يقتحمُ    المدينة    //   
     وأنا  بطيش ِ  " ديك  الجنِّ "  ألهُو   //  
     لتظلَّ  لُغتي  خمرة  //   تونع   //    في  دالياتِ  الكلام ...  //  
     ألم   يُعلِّمني  النرجسُ  //   أن  أقرأني  في  كتاب  بئري    //    
     معزوفتي من  شبق؟!  //   لتندلقَ القواريرُ  صفحات  عطشَى //  
    وينهمر  " النُّواسيُّ "    //   دِنًّا   هائِجا  !!!     //  
    لم  أعد  حلما  خلّبا    //    
    فإن  نامَ  كلُّ   شيىءٍ  //   ستظلُّ   آثامي    //  
    تعانقُ   نورَ النافذة  //   وتتسقط   //  رذاذ  سفاد  الطيور  // "  )  . 
   هذه القصيدة ُحديثة ٌ ومتطورة ٌ بناء  وشكلا  ومضمونا ... وإبداعيَّة ٌحافلة  وَمُترَعَة ٌ بالتجديدِ  والتقنياتِ المستحدثةِ  ومفعمة ٌ بالصُّورِ الشِّعريَّةِ  الجميلةِ  والمعاني الصَّعبةِ والعميقةِ والسهلةِ أيضًا على الإدراك والفهم ، وخفيفة الدم والتي  يتقبَّلها الذوق  والمنطق . وفيها أيضًا  بعضُ المصطلحاتِ  والتعابير  اللغويَّةِ المتطوِّرةِ  والجديدة  التي استعملها الشَّاعرُ ، مثل : ( ان أقرأني  في كتاب  بئري ) ..  أي أن  أقرأ  نفسي ، والمقصودُ  هنا  أن  يتعلّمَ  كيفَ يقرأ قرارَة َ وأعماقَ  نفسِهِ  العميقة  كالبئر ويدركُ  ُكنهَهُ  وَوُجُودَهُ  ومنطلقهُ  في الحياةِ  ويعرف  ويرى  حقيقة َ ذاتهِ  وجدوى  وجودهِ  ومآلهِِ  ومصيره  كما يرى صورة َ وجهِهِ في المرآةِ أو البئر  .                                         ومنَ الصُّور الجميلةِ الجديدةِ والإستعاراتِ البلاغيَّة المستحدثةِ والموفقةِ ، مثل :   
( "أخرجتُ ظلِّي  عن  طورهِ ) -  وهذه الجملة الشِّعريَّة  قد  يطولُ تفسيرُها  وشرحُها وتحليلُها  فهي موضوع واسعٌ  وعميقٌ  بحدِّ  ذاتهِ .  وأيضًا  مثل :  " إرتداني  التَّأمُّلُ   البليل  ليمنعَ  سقوط َ الذاكرة  "  .  
      وفي هذهِ القصيدةِ أيضًا بعضُ المعاني والصُّور المُستهلكة  والمستعملة  كثيرًأ، مثل : " ها هو الليلُ  يقتحِمُ  المدينة " فالكثيرون من الشُّعراءِ  استعملوا  نفسَ التَّشبيه والجملة َ حرفيًّا  أو  ما  يُشابهُهَا ، ولكنَّ الشَّاعرَ يردفها  بجملةٍ وبصورةٍ  شعريَّةٍ  جديدةٍ  : ( أو أنا  بطيش ِ ديك  الجنِّ  ألهُو  - لتظلَّ  لغتي خمرة )  .     وفي نهايةِ القصيدةِ يخرجُ الشَّاعرُ من  كلِّ  حيرتِهِ  وتساؤُلاتِهِ - وحتى  لو نامَ  كلُّ  شيىءٍ  فإنَّ  آثامَهُ  ( والمقصود بها  حيرتهُ وانحصاره  وملله وسوداويَّته  وإحباطه ) ستظلُّ  تتعانق  مع  النور، وحتى النور القليل الذي يأتي  من  النافذةِ  وليسَ من البابِ الواسع ، والنور هو الفجرُ والحريَّة ُ  والإنعتاق  والإنطلاق  إلى المجدِ  وتحقيق  الذات والإنتصار على  كلِّ  شرٍّ  وسجن  وقيد  في هذه  الحياة . والقصيدة ُ قد  ُتفسَّرُ وَتُحَلَّلُ أيضًا من منطلق ٍِ وطنيٍّ  وقوميٍّ ...  فالشَّاعرُ الذي  يحيا  في حيرةٍ  وتساؤُل  ويحملُ  عزلتهُ  على كتفيهِ  ويُنادي الحقائبَ من أقصى الخروج  وَيُواصلُ  المسيرَ  ويخرجُ  ظلَّهُ عن طورهِ  ولم  يعد  يكتم  صمتهُ هو الإنسانُ  الفلسطيني المُشَرَّدُ والمُكافح  والمناضل ليُحقِّقَ  حلمَهُ المنشودَ  ويحيا  في أرضِهِ ووطنِهِ  ودولتِهِ المُستقلَّة . 
  وإلى قصيدةٍ أخرى من الديوان  بعنوان : ( " فُلك وغصن وتذكرة !! " - صفحة 14 - 15 ) .. وهذهِ القصيدة ُ طابعُهَا  وشكلها غزليٌّ بكلِّ معنى الكلمةِ ، وفيها بعضُ التعابير والإيحاءاتِ الجنسيَّة ، ولكنَّ القارىءَ  الذكي والواسع الإطلاع يشعرُ ويحسُّ ويعي أنَّ  الشَّاعرَ رشدي  الماضي لا  يعني  ويقصدُ ، في هذهِ القصيدة ،  فتاة ً معيًَّنة  يتغزَّلُ  فيها  تغزُّلاً  حِسِّيًّا  ويصفُ جمالها ومفاتنها  الجسديَّة ، بل  يرمزُ  ويعني  مدينة َ حيفا الجميلة والسَّاحرة  حيثُ  يقولُ  في  القصيدةِ مِمَّا  يُؤَكِّدُ  على هذا الشَّيىء :                                                   ( " لا تخشي !!  //  خليجُكِ  لن  يضمَّ  ساقيهِ    //     
 والقواربُ  خطى  لم  تضل  الطريق   //  
 وهي   خطى   من  بعيدٍ  راجعة ...   // " )   . 
  ويقولُ  أيضًا  : ( " مدينتي -  يافطتي  !!  //   أنتِ  //  التي أحكي لها  // 
 //  وَأنتِ  بابي  للدُّخول //  لا تنقصي  فائضَ الرِّيح  //                                         
 // واقرأي   الزَّمان    //    مرساةَ   وقتٍ  قد  يطول !! //   " )  .  
       وقد  يقصدُ  الشَّاعرُ من  هذهِ  العباراتِ الأخيرةِ  المُشَرَّدين  واللاجئين  الذينَ نزحوا  عن  حيفا  رغما  عنهم  وإنهم  سيرجعون  ، حيث  قال  :   
( " خليجُكِ يضمُّ ساقيهِ //  والقواربُ  خطى  لن  تظلَّ  الطريق //
     وهيَ  خُطًى  من  بعيد  راجعة   " ) .     
        وأمَّا  بداية ُ القصيدةِ  ومطلعُها   فهو  غزليٌّ   بكلِّ  معنى الكلمة -  حيثُ  يقولُ : ( " لهيبُكِ  السِّرِّيُّ  أشبقني   //   
                     أتركيني ألبِّي  نداءِ  الصَّدر  //   
                     في ردهةِ  ليلٍ  //  أميلُ  إليّ  //   أبحثُ    عنكِ    //  
                     يافطة   //  انحَرفت خميرة ً على كتفِ الرَّصيف  //
                     ولحظة  انتظار ٍ  ساهرة ...    //  " )  .  
  وسأكتفي بهذا الإستعراض وسأنتقلُ إلى قصيدةٍ  أخرى بعنوان : ( الشَّاعر في قطار الياسمين وحيفا عروس منتظرة ..."- صفحة 16 -23 )... والقصيدة ُ  من عنوانِهَا ومعانيها هي لمدينةِ حيفا التي يسكنها الشَّاعرُ، والقصيدة ُ طويلة  وعريضة ٌ  في  مسافاتِهَا  الإبداعيَّةِ  وقيمتِها  الفنيَّةِ   و تموُّجاتِها  الوجدانيَّة  وشطحاتِهَا الصُّوفيًَّةِ وجماليَّتِها التي تُدغدغُ وتلامسُ  شغافَ القلبِ  وَسُهوبَ الفكر والوجدان ...  وهي من أجمل  وأروع  ما  كُتِبَ حتى الآن عن  مدينةِ  حيفا السَّاحرة عروس البحر التي  كانت وما زالت  محَطَّ  الأنظار والرحال   وبهجةَ المشتاق وسلوة العاشق وقبلة َ الفنِّ  والفكر والشِّعر والأدب  وموطنَ  الجمال  والسَّناء والبهاء .    ومطلعُ القصيدةِ :  
( " حيفا   غيمة ٌ   //   تحملُ  السَّماءَ والترابْ   // 
     كيفَ  يُقالُ  ما   يُقال   ؟!  //  أنَّها  حقيبة ٌ  مُسَافرَة   //    
     وَلن  تعودَ  من  سرابٍ  وغيابْ ؟!  //    "  )  .  
    يُشَبِّهُ الشَّاعرُ  مدينة َ حيفا بالحقيبَةِ ( حقيبة السَّفر الدائمة  وغير المُستقرَّة في  محطَّة ) وهي تحملُ السَّماءَ والترابَ ...أي  أنَّ  هذهِ المدينة َ هي  معقلٌ  ومركزٌ  للنور والهدي والإيمان والخير، وفيها أيضًا السَّلبيَّات ، وكلمة ُ التراب تعني كلَّ  ما هو مادِّي  وبعيد عن  الرُّوحانيَّات  والسَّماويَّات  .  والمعروف  عن  مدينةِ  حيفا  أنهُ  يوجدُ  فيها عدَّة ُ أماكن  مقدَّسَة  ودورٌ للعبادةِ   ويوجدُ  فيها  أيضًا الملاهي  والمراقصُ  والنوادي الليليَّة  والخمر والمجون  - ( أي  تلتقي فيها السَّماء والأرض- الخير والشَّر- والنوروالظلام والسَّالب والموجب) .    وأمَّا باقي الجمل الشِّعريَّة في بداياتِ القصيدةِ  فقد  تُفسَّرُ وتحلَّلُ على أشكال ٍ مُختلفةٍ ، وكلُّ  ناقدٍ  لهُ وِجهة ُ نظرهِ  وتحليلهُ الخاص، ولكنَّ  المقصودَ  هوَ  أنَّ  حيفا سيبقى  طابَعُهَا  وَجَوُّها عربيًّا  فلسطينيًّا  ولن  تفقدَ هويَّتها  وكيانها  ومكانتهَا  كما  كانت  قبلَ عام  1948  حيثُ  هَجرَهَا معظمُ  سكانها  عنوة ً  وقسرًا،  فما زالت حيفا  تحملُ الطابعَ العربي الفلسطيني ويقطنها  الكثيرون  من العربِ مع أنَّ  معظمهم من القرى الأخرى والمُهجَّرة وليسوا من  سكان  حيفا الأصليِّين  .    
      ويُتابعُ الشَّاعرُ حديثهُ  عن مدينة حيفا  فيقولُ  :    
( " حيفا   //  حضورٌ  تختبىءُ  فيهِ  الحياة    //  " )  .  
ويقول ُ أيضًا : ( "  هذا الكلام  //  من نبعها  ينهل  //                                    // حيفا أوصَدت أبوابها // كي لا  يهتف الشِّعرُ // هيَّا   بنا   نرحل ! // 
ويقول:  ("حيفا  نافذة ٌ على البحر تطلّ //                                                                لتظلَّ  قصيدة ً مُضَاءَة الممرَّات //  " ) . 
   ويُعلنُ  الشَّاعرُ  حُبَّهُ  الكبيرَ  لحيفا  فيقول ُ  :   
( " حُبِّي لها    // حُبِّي لها  سروة  //   تهجّها  كطفل   // 
     ترها   //    على كتفي   //  طيورًا  نائمة //  وأشجارًا  غافية !!  // 
     سأظلُّ   //  أخط ُّ  وأمحو  //  حتى  أغزلَ  //  حوارنا  شكلا ً  // 
     أواصِلُ فيها  سفري  //  ولو  تعبت  لغة ٌ //  إجابة  وسؤال !! //  " ) . 
ويقولُ : (" حيفا  رَحْمُ  للحياةِ   //   يَدُهَا   //  انتصارٌ  على  الموت // ") .  
 ...  أي  أنَّ  المدينة َ بالنسبةِ  لهُ  ولكلِّ  إنسان  فلسطينيٍّ  مُتيَّم  بحُبِّهَا  هي   كالرَّحم ِ منها انبثقَ  ورأى الحياة َ  .     ويقولُ أيضًا  :  
( " حيفا   جسَدٌ   شاسعٌ  //  يُحِبُّ  مَلْمَسَ  العائِدينَ   إليهِ  // 
  إنَّ مدينة َ حيفا  كبيرة ٌ بمساحتِهَا، بجغرافيَّتِهَا، بأهمِّيَّتِهَا ودورها  التاريخي  والحضاري والوطني، ويُشَبِّهُهَا  الشَّاعرُ بالجَسَدِ  الشَّاسع الواسع الذي  ينتظرُ  المشَرَّدين العائِدين إليهِ (الفلسطينيِّين النازحين )... ويُحِبُّ هذا الجسَدُ الواسعُ أن  يُلامِسَ هؤلاء العائِدين  .   
  وفي  نهايةِ  القصيدةِ  يُعطي الشَّاعرُ صفة ً جميلة ً وإيجابيَّة  لحيفا  إذ  هي  منبعُ  ومعقلُ الخير والبركةِ والعطاءِ ( ماض  وحاضر ومستقبل)، ولم  تكن  مرَّة ً بخيلة ً وضنينة ً، حيثُ  يقولُ  :  
( " حيفا  حاضرٌ   //   غَدُهُ    //  مطرٌ  ينهمرُ  //  " )  .   ويتابعُ  فيقولُ : 
( " سَأستلُّنِي   //   من  أضلع   مرآتي    // 
    ونرفعُ      //    لِحُبِّهَا    نخبًا  ...     //  "  )  .   
  ويُنهي الشَّاعرُ القصيدة َ بهذهِ الجملةِ الواسعة والمُترعةِ بالحبِّ والإطراء . 
   وللشَّاعر في هذا الدِّيوان  قصيدة ٌ لمدينةِ "عكَّا  " بعنوان : ( "عكا  حوَّاء  كنعان الوفيَّة " -  صفحة  42 - 43  ) وهذهِ القصيدة ُ أيضًا  مستواها عال ٍ  وفيها الكثيرُ من من الصُّور الشِّعريَّة الجميلةِ والحديثةِ  .  
  وأمَا  قصيدة ( " وتظلُّ – حمامة ُ الفُلك -  تجعلُ  البعيدَ  قريبًا " -  صفحة  49  -  50  ) فيتحدَّثُ  فيها عن  القضيَّةِ  الفلسطينيَّةِ  ومأساةِ اللاجئين  وأنَّ القضيَّة َ لها  أكثر من  ستين عاما  ولم  تُحَل ، وما زالت القضيَّة ُ في ذاكرةِ  ووجدان ِ كلِّ إنسان ٍ  فلسطينيٍّ .  ويُوظفُ  الشَّاعرُ  فيها  الحَمامة َ ( حمامة  الفُلك )  نسبة ً إلى النبي  نوح  الذي أطلق الحمامة َ من الفلك  - أي  السَّفينة  ورجعت  إليهِ  بغصن  زيتون  . 
  ويقولُ الشَّاعرُ  في  القصيدة : 
("هذي   ذاكرتنا  //  بُرجٌ  يُطلُّ  على  البحر  //  
 ونافذة    //   على   مينائِها   مُشرَّعة  // 
 لا  يُرعِبَنَّك // يا  رصيفي !!// شحُّ  منديل ٍ// وهرمُ الوقوف انتظارًا //") . 
 تقولُ :  ستُّونَ  مَرَّتْ   //   ولم   يحِن  ذيَّاكَ الوصول  //   خلاصًا  !!  //      
 تشَبَّث   //     بحبل ِ  عصمتِهَا !!   //  " )  .     
     وفي  نهايةِ  القصيدةِ  يقولُ :  
( "  يا   غائِبي  فنار  البُرج ِ //     تعبَ  هذا الفنارُ  مِنَ   الغمز    // 
     ونافذتي  صهيلٌ  يُحمحمُ  التياعا    //  
    فاصنع  // من  كلماتٍ  حفظتها  ،    //   لكَ      فلكا ً   // 
   وَشُدَّ  "حمامة َ "  الوُصول ِ   //   قصفة ً  وجَناحًا  وشراعا  ... // " ) . 
    والمعاني رغم  كونِها عميقة ومُسربلة  بالغموض بعض الشيىء إلاَّ  أنَّها  تبقى  مفهومة ً حتى  للناس ِ البسطاء والسَّطحيِّين  . 
 وموضوعها القضيَّة الفلسطينيَّة ومأساة اللاجئين والمُشرَّدين والنازحين عن أوطانِهِم ، ودموع الشَّوق واللوعة التي ذرفت من أجل الرُّجوع وتقبيل تراب الوطن  .   
    ولننتقل  إلى  قصيدةٍ  أخرى  بعنوان :  ( " المتنبِّي  والملك  الضلِّيل " -  صفحة 51 - 52 ) ... وهذهِ  القصيدة ُ قصيرة ٌ من  ناحيةِ  مسافتِهَا ، ولكنّها عريضة ٌ في معانيها ، ويُوظفُ الشَّاعرُ  فيها بعضَ  الشَّخصيَّاتِ  التاريخيَّة  والادبيَّةِ فيها للوصول إلى الموضوع والفكرةِ والهدفِ المنشود الذي  يُريدُهُ .   َوظَّفَ  هنا  شخصيّة َ أبي  الطيِّبِ  المتنبِّي  وامرىءِ  القيس الكندي ( شقيقه الكندي- حسب تعبيره -  أي أنَّ الإثنين من نفس القبيلة) وبينهما فارق  كبير    في السنين  والعصور، وكلُّ  شخص  منهما  عاشَ  في عصر  يختلفُ  كليًّا عن الآخر .. وقد  قيلَ : إبتدَأ الشِّعرُ بكندة  (بإمرىءِ القيس في العصر الجاهلي )  وانتهَى  بكندة ( بالمتنبي  في العصر العبَّاسي ) .  ووظَّفَ  أيضًا  شخصيَّة َ " سالومي " -  زمن  الملك  هيرودس  والسيِّد  المسيح  ويوحنا  المعمدان ، وهي التي أغرت هيرودس بقتل يوحنا المعمدان .  ووظفَ شخصيَّة َ خيزان أم  هارون الرَّشيد .. وابن  عربي وملوك  الطوائف وزمن  الرِّدَّة  والزندقة ... والخليفة  المأمون والرَّشيد ... إلخ  .  وخلاصَة ُ وفحوى القصيدةِ - ومن خلال ِ هذه  الصور  والإستعاراتِ  المشِّعَّةِ  والتوظيفاتِِ  الدَّلاليَّةِ   الغزيرةِ  والمُستمَدَّةِ من التاريخ  وكتبِ الأديان  واللاهوت - يُريدُ  الشَّاعرُ  أن  يقولَ  ويشرحَ بصراحةٍ  أن الوضع الحالي  للأمَّةِ  العربيَّة هو مُزري جدًّا ، فالأمَّة ُ العربيَّة  في انقسام وتجَزُّإ ، مثل حال  ملوك الطوائف في الأندلس  آخر أيام  حكم العرب  هناك  ...  وكيفَ  أنَّ  العربَ  قديمًا   كانوا  يبسطونَ   نفوذهم  وهيمنتهم على  مُعظم ِ بقاع  الأرض ، وكانَ  العربُ  امبراطوريَّة ً كبيرة ، خاصَّة ً في العصر العبَّاسي وكانوا السَّبَّاقين  في  جميع المجالاتِ والميادين والمواضع : في العلوم والفنون  والآداب  والفلسفة ... وغيرها، ومنهم  اقتبسَت ونهلت جميعُ  شعوبِ وأمم الأرض.. ولكنَّ اليومَ  تبدَّلَ حالُهُم وتغيَّرَ  وضعُهُم  وأصبحوا في حالةٍ  يُرثى  لها من الخلافاتِ والدَّسائس ضدَّ بعضهم ،والأنقسامات والتآمر فيما  بينهم  والإستعانة  بالغرباء والأجانب  والأعداء  ضدَّ  بعضهم البعض .  والغربُ المستعمر يُسيِّرُهُم  ويقودُهُم  ويقودُ  ويُوَجِّهُ حكامَهم العملاء  حسب  أهوائهِ  وأهدافهِ ومطامِعهِ ومُخطَّطاتِهِ  السِّياسيَّةِ الإستعماريَّة ِالمعاديَّة للعروبةِ  والشِّرق ولدول العالم  الثالث . 
  ويقولُ الشَّاعرُ  في هذهِ  القصدةِ  : 
(  "  سارت  بنا  الأيَّامُ  يا  ابنَ  العربي  !! //    
      وضربت  علينا  " مَذلَّة "  وضربت  علينا  " مَسكنة "  //  
      سارت  بنا  الأيَّامُ  وضاعَ   لنا  عُمر  //   
     وَسيأتي  بيتكَ  يومًا ، عنا  هذا  الخبر  :  // 
     تركنا  عصرَنا الذهبي !! //  لم  يعُد   لنا  "غارًا " ولا  وحيًا  //  
    ولا   صفحة   من  " كتاب "  //  
    تركناهُ  شمسا  راحت  تبحثُ  لهَا  //      
    مع  الرِّيح ِ عن  فتحةٍ  في  الغيابْ     //                                                
     أمَّا   أنا  :   //   سَأظلُّ    يا  ملكي " الضلِّيل "   " )  .  
          يُريدُ الشَّاعرُ أن يقولَ : إن العربَ  تركوا عصرَ الحضارةِ والإبداع  والرّقيّ  ( تركنا عصرنا  الذهبي ) ... وابتعدوا عن  تعاليم ِ الرُّسل والأنبياءِ  وكتاب  الله  والشَّرائع  السَّماويَّة ِ - حسب  قولهِ : ( لم  يعد  لنا غارًا )... أي غار" حرَّاء " المكان  الذي  نزل  فيه الوَحْيُ على النبي  محمد  لأوَّل مرَّة . والشَّاعرُ في النهايةِ  يقول: إنهُ  سيظلُّ  الإنسانَ الفلسطيني  والعربي  الواعي والمثقف وصاحبَ المبادىء والقيم  والذي يغارُ على عروبتِهِ  وقوميَّتِهِ، وسيبقى ضِلِّيلاً  يعييشُ  مشرَّدًا وغريبًا حتى  لو كانَ  في وطنِهِ  مثل (امرىء القيس " الملك الضليل ") الذي جابَ  وطافَ البلادَ والأقطار طلبًا  للعون ِ والمساعدةِ  لإرجاع  مُلكِهِ  الضَّائع  بعدَ  مقتل أبيهِ الملك  حجر بن الحارث الكندي على يد  قبيلة  بني أسد  .
 فحالُ  ووضعُ  الفلسطيني المُشَرَّد  والمكافح  والمناضل لأجل ِعودةِ  الحَقِّ  الضائع والوطن  المسلوبِ  يُشبهُ  حالَ  ووضعَ  امرىء القيس الكندي الذي طاف البلادَ حتى  وصلَ  إلى  قيصر الرُّوم  في القسطنطينيَّةِ  لأجل إرجاع  مُلكِهِ  المسلوب  .  
  وأخيرًا  :  سأكتفي  بهذا القدر من  تحليل  واستعراض  قصائد  الديوان  ، وسأهنىءُ الشَّاعرَ الكبير والمبدع الصديق الأستاذ " رشدي الماضي " على إهدائهِ  لي نسخة  من هذا  الديوان ، وأتمنى  لهُ  المزيدَ  من العطاءِ  الأدبي والشِّعري والمزيدَ  من الإصداراتِ  المطبوعةِ  في الشِّعر والأدبِ .  وأطالَ اللهُ  في  عُمرهِ  وفي  صِحَّتِهِ   فهو  رُكنٌ  هامٌّ   من  أركان  حركتِنا  الأدبيَّةِ  والشِّعريَّةِ  والثقافيَّةِ  المحليَّةِ  وَمِمَّن سَاهَمُوا  في  رفع ِ لواءِ الشِّعر ِ والأدبِ  والنهوض والوصول  بهِما  إلى أرقى المستويَّات - عربيًّا  وعالميًّا  .  

                    (  بقلم :  حاتم  جوعيه  -  المغار – الجليل  )

عبد الناصر...43 عاماً من الغياب ولم يزل في العقل والقلب/ محمود كعوش

لم تكن الكتابة عن جمال عبد الناصر في وقت من الأوقات مجرد تكريم لذكرى ميلاد زعيم عربي تاريخي كبير أو تمجيد لذكرى ثورة عربية عظيمة كان هو مفجرها وقائدها أو تأبين لقائد فذ وتعبير عن حزن عليه في ذكرى غيابه فحسب، بل هي أولاً وقبل أي شيء آخر استذكار لدروس حقبة زمنية من تاريخ مصر عرفت أثناءها هي والأمّة العربية معاني العزة والكرامة والإباء والشموخ والإرادة الوطنية الحرة. حقبة نتوق لمثيلة لها كلما ازددنا بعداً عنها زمنياً وسياسياً وعسكرياً، تماماً كما هو حاصل الآن في فلسطين ومصر وسوريا والعراق وعدد آخر من الأقطار العربية التي تُحاك ضدها المؤامرات التي تتبادل الأدوار في تنفيذها الولايات المتحدة و"إسرائيل" وأطراف رسمية عربية، لم تعرف من العروبة في يوم من الأيام غير الإسم. 
لا شك في أن حدث رحيل جمال عبد الناصر الذي تتصادف ذكراه الثالثة والأربعون في الثامن والعشرين من سبتمبر/أيلول الجاري كان وسيبقى دائماً أحد أبرز وأهم الأحداث العربية التي تفرض نفسها في أوقات استحقاقاتها على كل كاتب سياسي عربي شريف لا بل على كل عقل أو قلب عربي شريف وتستدعي منه التوقف عندها ملياً وطويلاً، إن لم يكن الحدث الأبرز والأهم بينها.
 فعبد الناصر هو الزعيم العربي والعالمي الوحيد الذي أحرص على التوقف في رحاب ذكراه ككاتب سياسي ثلاث مرات في كل عام، في ذكرى مولده المبارك في الخامس عشر من شهر يناير/كانون الثاني "1918" وفي ذكرى قيام ثورته المجيدة في الثالث والعشرين من شهر يوليو/تموز "1952" وفي ذكرى رحيله المفجع في الثامن والعشرين من شهر سبتمبر/أيلول "1970".
ولما كانت ذكرى رحيله تستحق هذه الأيام، فإنني سأقصر مقاربتي لها والكتابة عنها على مسالتين هامتين هما أولاً: القضية الفلسطينية وعلاقته بها كعنوان قومي عربي كبير ارتبط إسمه به كما لم يرتبط إسم حاكم عربي أو إسلامي غيره، وثانياً: ثورة 23 يوليو/تموز 1952 ودوره كمفجر وقائد لها.
في ما يختص بالمسألة الأولى، إن الحديث عن الراحل الكبير جمال عبد الناصر يستدعي التذكير بأن علاقته بقضية  فلسطين قد تصدرت على الدوام أولوياته القومية والوطنية باعتبارها قضية العرب المركزية. وعادت تلك العلاقة إلى فترة مبكرة جداً من حياته الدراسية والعسكرية والسياسية، فبعد صدور قرار تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1947 تشكلت لديه قناعة مفادها "أن ما يحدث في مصر وما يحدث في فلسطين هو جزء من مخطط استعماري يستهدف الأمة العربية كلها". وانتقلت تلك القناعة إلى إخوانه من الضباط الأحرار، بحيث استقر رأيهم منذ اجتماعهم الأول على ضرورة مساندة المقاومة الفلسطينية من خلال الانضمام إلى فرق المتطوعين العرب التي كانت قد بدأت تتشكل في العاصمة السورية دمشق وعواصم ومدن عربية أخرى كثيرة. 

وعندما تأكد له انحياز بريطانيا إلى جانب الصهاينة في عدوانهم السافر والمتواصل على الفلسطينيين، رأى جمال عبد الناصر أن لحظة الدفاع عن الحقوق العربية قد أزفت لأن ما حدث في فلسطين مثل انتهاكاً صارخاً للعدالة الدولية والكرامة الإنسانية في آن معاً. وأتبع ذلك بخطوة عملية تمثلت بطلب الحصول على إجازة من الجيش المصري ليتمكن من الانضمام إلى صفوف المتطوعين. وشاءت الصدفة أن تأمر الحكومة المصرية جيشها بالتحرك العاجل للمشاركة في حرب الدفاع عن عروبة فلسطين قبل أن يُبت بذلك الطلب، فكان لعبد الناصر ما أراد وخاض غمار تلك الحرب وتردد اسمه بشكل مدو في معارك أسدود والنقب وعراق المنشية، كما اكتسب شهرة كبيرة في حصار الفالوجة. وتقديراً لبطولاته وتميزه في ساحات الوغى وتقديراً لوطنيته، منحته القيادة وسام النجمة العسكرية. 

يستدل مما جاء في "فلسفة الثورة" و"الميثاق الوطني"  أن جمال عبد الناصر بعدما اكتشف أمر الأسلحة الفاسدة وعرف الطريقة التي كان يتم بها تسيير المعارك وانتبه إلى أن القيادة العليا للجيش المصري كانت تهتم باحتلال أوسع رقعة أرض ممكنة من فلسطين دون النظر إلى قيمتها الإستراتيجية أو إلى أثرها في إضعاف مركز الجيش، عمل على تكثيف وتوسيع دائرة نشاطاته من خلال السعي لإقامة تنظيم الضباط الأحرار. 

وخلال حصار الفالوجة ومعركتها الشهيرة وما رافقهما من إجرام صهيوني، تولدت لدى جمال عبد الناصر قناعة راسخة بأن الحصار لم يكن يقتصر على تلك البلدة الصغيرة أو فلسطين أو قطر عربي بعينه وإنما كان يشمل الوطن العربي كله من المحيط إلى الخليج، الأمر الذي ولد لديه قناعة موازية مفادها أن "المواجهة الحقيقية للاستعمار والصهيونية والرجعية العربية إنما تبدأ في الحقيقة من داخل الوطن"، أي من داخل مصر.

وعلى ضوء تلك القناعة خلص جمال عبد الناصر وإخوانه من الضباط الأحرار إلى أن "القاهرة حيث الانتهازيون وعملاء الاستعمار يتاجرون بالقضية الفلسطينية ويشترون الأسلحة الفاسدة للجيش المصري هي نقطة البداية وليست فلسطين"، وهو ما يستدعي القول منا دون تردد أو حرج أن "حرب فلسطين 1948 بما ترتب عليها من نتائج وإفرازات وإرهاصات أسهمت إسهاماً كبيراً ومباشراً في قيام ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 المجيدة، إلى جانب عوامل أخرى عديدة خاصة بمصر".

من منطلق نظرته إليها كأنبل ظاهرة في الأمة العربية، كان منطقياً أن يقف جمال عبد الناصر إلى جانب الثورة الفلسطينية المسلحة بثبات وصلابة، وأن يتصدى بعزم وإصرار لخصومها الداخليين وأعدائها الخارجيين. وكما هو معروف فإنه أشرف على توقيع "اتفاقية القاهرة" بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة اللبنانية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1969 حفاظاً على الثورة الفلسطينية واستمرار مسيرتها النضالية. 

وإبان أحداث أيلول 1970 في الأردن لم يدخر جمال عبد الناصر جهداً إلا وبذله من أجل وقف تلك الأحداث الدموية المرعبة. وحتى يضع حداً لنزف الدم الأخوي الأردني ـ الفلسطيني دعا إلى عقد مؤتمر قمة عربي استثنائي انتهى إلى توقيع اتفاقية جديدة بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الأردنية، سُميت هي الأخرى "اتفاقية القاهرة". وبعد توقيع تلك الاتفاقية ووداعه الحكام العرب واطمئنانه على الثورة الفلسطينية ،خفق قلبه الكبير بحب فلسطين وقضيتها وفاضت روحه. 
أما في ما يختص بالمسألة الثانية، فإن مجرد ذكر إسم جمال عبد الناصر يستدعي منا التذكير بثورته المجيدة وبكل ما حفلت به كتجربة فكرية وسياسية كان لها الأثر الأكبر والأقوى في تشكيل التيار الناصري في الوطن العربي، كما يستدعي بالضرورة الربط المنطقي والعملي فيما بين هذه التجربة وبين شخصية قائدها، الذي كان له ولنفر من الضباط الأحرار فضل تفجيرها والإطاحة بالملكية البائدة وإعادة السلطة للشعب صاحبها الحقيقي في 23 يوليو/تموز 1952.
وبرغم مرور واحد وستين على حدوث الثورة وثلاثة وأربعين عاما على غياب قائدها، لم تزل عقول وقلوب العرب على طول وعرض الوطن العربي من المحيط إلى الخليج مشدودة إليهما، ولم تزل تنبض بالحب والوفاء لهما. ويدلل على ذلك الإقبال الجماهيري المتنامي على أدبيات الثورة والفكر الناصري وتنامي عدد الدراسات التي تعرضت لسيرة حياة عبد الناصر كقائد عربي تجاوز بفكره وزعامته الوطن العربي ومحيطه الإقليمي. كما يدلل على ذلك أيضا تصدر شعارات الثورة وصور قائدها جميع المظاهرات والتجمعات الشعبية التي تشهدها الأقطار العربية بين الحين والآخر، تعبيرا عن رفض الجماهير لحالة التردي الرسمي العربي ورفض الخضوع للإملاءات الأميركية – الإسرائيلية ورفض السياسات الاستعمارية – الاستيطانية التي تستهدف الأمة والتي تعبر عن ذاتها بشتى الصور وصنوف العدوان في العديد من الأقطار العربية وفي مقدمها مصر، والتي كان آخرها ثورة الميادين في مصر في 30 يونيو/حزيران الماضي والتي جاءت لتصحح الإنحراف الذي طرأ على ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 .
ترى لماذا كل هذا الحب والوفاء لثورة 23 يوليو/تموز وشخص قائدها العظيم، برغم كل ما تعرضا له من مؤامرات ومحاولات تشويه متعمدة ومقصودة من قبل القوى العربية المضادة والأجنبية الاستعمارية – الاستيطانية وبرغم مضي وقت طويل على ولادة الثورة ورحيل قائدها؟ ولماذا تسمرت جميع التجارب العربية الفكرية والسياسية عند أقدام أصحابها وانتهت مع انتهائهم، في حين بدل أن تنتهي تجربة يوليو/تموز الناصرية مع غياب صاحبها اتسعت رقعة مناصريها وتضاعف الزخم الجماهيري الذي كان يشد أزرها ليشمل جميع الأقطار العربية دون استثناء؟
يوم قامت الثورة العظيمة، أظهر عبد الناصر إتقانا مميزا لفن محاكاة عواطف وأحلام الجماهير العربية في الإطار العام والمصرية في الإطار الخاص، وذلك من خلال عرضه للشعارات الرنانة التي رفعتها، تماما مثلما أظهر إتقانا مميزا لفن محاكاة حاجات هذه الجماهير على الصعيدين القومي والوطني وذلك من خلال عرض الأهداف التي حددتها. فقد كان عبد الناصر ابن تلك الجماهير والمعبر عن آمالها وآلامها، مثلما كانت الثورة حلما لطالما راود خيال تلك الجماهير ودغدغ عواطفها.
فالشعارات والأهداف التي تراوحت بين القضاء على الاستعمار والإقطاع والاحتكار وسيطرة رأس المال وإرساء العدالة الاجتماعية والحياة الديمقراطية ورفع مستوى المعيشة وزيادة الإنتاج وإقامة جيش وطني قوي يتولى الدفاع عن مصر والأمة العربية، جاءت بمجملها متناغمة مع أحلام وحاجات المواطنين العرب من المحيط إلى الخليج، خاصة وأنهم كانوا لا يزالون تحت وطأة الهزيمة العربية الكبرى التي تمثلت بنكبة فلسطين والإفرازات التي نجمت عنها.
وإن لم يقيض للثورة أن تحقق جميع الشعارات والأهداف التي رفعتها وحددتها وبالأخص في مجال ديمقراطية المؤسسات والفرد، لاعتبارات كانت في معظمها خارج إرادتها وإرادة قائدها، مثل قصر عمرهما وتكالب القوى العربية المضادة والأجنبية الاستعمارية – الاستيطانية عليهما، إلا أنه كان لكليهما الفضل الأكبر في التحولات القومية والوطنية التي شهدها الوطن العربي عامة ومصر خاصة على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والروحية، وبالأخص في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي حيث عرف المد القومي أوج مجده.
ولعل من الإنصاف أن نسجل لثورة يوليو/تموز وقائدها نجاحهما في إعلان الجمهورية وإعادة السلطة لأصحابها الحقيقيين وتحقيق الجلاء وإرساء دعائم الاستقلال وتطبيق الإصلاح الزراعي وتقوية الجيش وتسليحه وإقامة الصناعة الحربية وتأميم قناة السويس وتحقيق الوحدة بين مصر وسوريا وبناء السد العالي وإدخال مصر معركة التصنيع وتوفير التعليم المجاني وضمان حقوق العمال والضمانات الصحية والنهضة العمرانية. ولاشك أن هذه منجزات كبيرة جدا، إذا ما قيست بالمسافة الزمنية العمرية القصيرة للثورة وقائدها وحجم المؤامرات التي تعرضا لها. 
فالتجربة الثورية الناصرية لم تكن بعد قد بلغت الثامنة عشر من عمرها يوم رحل قائدها وهو يؤدي دوره القومي دفاعا عن الشعب الفلسطيني وقضيته وثورته. إلا أنها وبرغم ذلك، إستطاعت أن تفرض ذاتها على الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج من خلال طرحها مشروعا نهضويا قوميا عربيا حقيقيا، لطالما حلمت به وأحست بحاجتها الماسة إليه، ومن خلال حمل قائدها أعباء قضايا الأمة والتعبير عن آمالها وشجونها حتى لحظات حياته الأخيرة.
شكلت ثورة 23 يوليو/تموز نتاج مرحلة تاريخية بالغة التعقيد، عصفت بمتغيرات إقليمية ودولية فرضتها نتائج الحرب الكونية الثانية مثل بروز الولايات المتحدة و"الاتحاد السوفيتي"، الذي انبثقت منه روسيا هذه الأيام، كقوتين عظميين وحدوث نكبة فلسطين وولادة إسرائيل "قيصريا" في قلب الوطن العربي. لذا كان بديهيا أن تتشكل معها الحالة النهضوية القومية الوحدوية البديلة للواقع العربي القطري المفكك والمشرذم. وكان بديهيا أن تتشكل معها الحالة الثورية الوطنية التقدمية البديلة لحالة التخلف والإقطاع والاستبداد والرأسمالية الغربية والشيوعية الشرقية، من خلال بروز عبد الناصر كواحد من الأقطاب العالميين للمثلث الذي أسهم في ولادة معسكر الحياد الإيجابي الذي تمثل بمجموعة دول عدم الإنحياز.
فعلى امتداد ثلاثة وأربعين عاما أعقبت رحيل عبد الناصر، منيت جميع التجارب الفكرية والسياسية العربية بالفشل الذريع، لأنها لم تستطع أن تشكل البديل الذي يحظى بثقة الجماهير العربية وتأييدها، بل على العكس من ذلك أوقعت الأمة في مسلسل متواصل من الخيبات. وقد أخذ على تلك التجارب منفردة ومجتمعة أنها بدل أن تتناول التجربة الناصرية بوضعيتها الثورية وشخصية قائدها الفذة بالتقييم المنطقي المجرد والنقد الموضوعي البناء على ضوء نجاحاتها وإخفاقاتها والظروف الداخلية والإقليمية والدولية لغرض العمل على تصحيحها والبناء عليها، اختارت مواجهة الجماهير بمفاهيم جديدة إتسمت بروحية إنقلابية تصادمية وتغيرية، الأمر الذي أدى إلى لفظ الجماهير لتلك المفاهيم والعمل على إسقاطها وبقائها على وفائها للثورة وتجربتها وقائدها.
بعد كل ما ألم بهم، ترى ألا تقتضي الحكمة أن يقر الحكام العرب بما مثلته ثورة 23 يوليو/تموز من حالة تميز، من حيث تجربتها وشخصية قائدها، بحيث تفضي الأيام القادمة إلى خطوة تحفزهم على تقييمها ونقدها بموضوعية وتجرد لأخذ العبر من نجاحاتها والعمل على تصحيح إخفاقاتها ووضعها موضع التطبيق العملي والبناءِ عليها، لإخراج الأمة مما هي عليه من حلة تردي وتفكك وتشرذم ووهن وضعف واستكانة؟ أعتقد أن من الحكمة والمصلحة القومية حدوث ذلك في وقت سريع. ليته يحدث ولا يطول انتظارنا له كثيراً.
وألى لقاء يتجدد...........
كوبنهاجن سبتمبر/أيلول 2013
محمود كعوش
كاتب وباحث سياسي فلسطيني مقيم في الدنمارك
kawashmahmoud@yahoo.co.uk

سن القلم: خدعة الشرعية/ عادل عطية

الحمساويون حماسهم مريض؛ يحاربوننا لإنقلابنا على شرعية الإرهاب.. بينما هم ملطخون بالإنقلاب على شرعية الأحباب!...
**
الكافرون

الكافرون هم الذين يحرقون، أو: يفجّرون الكنائس؛ لأن الكنيسة تعني: "جماعة المؤمنين الحال فيهم الروح القدس"!...
                                                                             

عند أناشيد القطف لا تنامُ الرياح/ عبدالله علي الأقزم


تحاورني القطيفُ حوارَ غيثٍ
فأحيا  ضمنَ منطقِها  العجيبِ
و  تنسخني   فواصلُها   فضاءً
فينبغُ   بين  عالمِها   الرَّحيبِ
و تبعثني  لها   تاريخَ   عشقٍ
يُصلِّي  عند  جوهرها  الخصيبِ
و   تدخلني    مراياها    سؤالاً
و لنْ  يحيا  السؤالُ   بلا  مجيب
تذوِّبُني   القطيفُ   فلا   أراها
سواها  ذابَ  مِن  طيبٍ  لطيبِ
أضأتُ  بها  الحياةَ  لكلِّ  معنى
يُرتِّلُ    صولةَ    البطلِ   المُهيبِ
تُسابقني      فيغمرُني     هواها
مِنَ الأحضانِ  و  الشَّغفِ  المُذيبِ
تلامسُني    فينهضُ    كلُّ    جذرٍ
بقُبلتِها   و    مبسمِها     الرَّطيبِ
و  كيف تعيشُ  أصدائي  حيارى
و  ممشاها الوصولُ  إلى  الحبيبِ
قطيفُ  إليكِ   قد  أشرعتُ   قلبي
و ليسَ لهُ  بصدرِكِ   مِنْ   مغيبِ
و  مَنْ  يهواكِ   لا   يلقى   صداهُ
بمحورِ    ذلكَ    القلقِ    الرَّهيبِ
قطفتُكِ   وردةً   مِنْ   كلِّ    نبعٍ
و ما  لكِ  في الروائعِ مِنْ نضوبِ
و كلُّكِ   مِنْ  هوى  قيسٍ   و ليلى
عناقٌ     للبعيدِ     و      للقريبِ
شربتُـكِ   فارتوتْ   كلُّ   القوافي
و   إن   فاضتْ  نقاطي   باللَّهيبِ
و   ظلُّكِ   لم  يكنْ   إلا    صلاةً
تَضيءُ  مِنَ  الشَّمالِ  إلى الجنوبِ
و  أنتِ   مِنَ  النوابغِ   جودُ  نخلٍ
و  ما  هو  منكَ  بالبُعدِ   الغريبِ
و  أنتِ  مِنَ  الخليجِ  جمالُ    دُرٍّ
تفتَّحَ   عنْ  صفاتِ   فتىً    لبيبِ
قطيفُ   تسلسلي  في  كلِّ  نبضٍ
بفكرٍ     ناضجٍ      حرٍّ    رحيبِ
حملتكِ   بين  أضلاعي  و  قلبي
كواكبَ  ذلك    الألقِ     العجيبِ
و لي  منكِ   الدَّواءُ   لكلِّ  شيءٍ
و  ما  لي بعد حضنِكِ  مِنْ طبيبِ

ياسمين آذار المخضب بالدم ـ الحلقة 52/ محمد فاروق الإمام

تهريـب الأسلحـة المضـادة للدبابات في العربـة الصحية:

كان منـزل الرئيس حافظ الأسد – كما يقول طلاس - هو الهدف الأول لسرايا الدفاع ولذلك فقد كان يشكل بالنسبة لي هاجساً أمنيّاً يؤرّقني ليل نهار، ولكن هذا الهاجس كان بالنسبة للعميد عدنان مخلوف (الذي عُين قائداً للحرس الجمهوري كابوساً لا يطاق، ولمّا كانت وحدة سرايا الصراع التي يقودها عدنان الأسد مرشّحة للاصطدام فوراً بعناصر سرايا الدفاع التي سوف تتحرك باتجاه دمشق، فقد رأيت من الأفضل أنّ نسحب صواريخ «الفاغوت» من اللواء «65» (مضاد للدروع)، ولمّا كان العميد رفعت قد نشر ألويته المحيطة بدمشق وأصبح مسيطراً على المداخل فقد اتفقت مع العميد عدنان بأنّنا سوف نلجأ لتهريب الصواريخ إلى منـزل الرئيس حافظ الأسد بالعربات الصحيّة (سيارات الاسعاف) وعليه أن يفرّغ حمولة العربات ويعيدها إلى مصدرها، واتصلت بالعميد هرمز قائد اللواء أن يحضر ثماني عشرة قاعدة صاروخية من طراز «فاغوت» مع ثلاث وحدات نارية لكل قاعدة ويرسلها إلى منـزل الرئيس الأسد على دفعات (عربات منفردة) وأن يربط جندياً بالشاش الأبيض من يديه ورأسه ويكون (الميكروكروم) بديلاً للدم النازف، وفهم قائد اللواء الغاية من العملية التمثيلية وقلت له: يجب أنْ توصي سائق الصحية بأن يفتح (زمور الخطر) قبل الحاجز بمدة كافية وأن يسابق الريح في الوصول إلى دمشق، وهكذا انطلت اللعبة على العميد رفعت وتم نقل القواعد الصاروخية المطلوبة كافة وأصبحت حول منـزل الرئيس حافظ الأسد، ولكن هذا الموضوع لم يبق سرّاً بيننا نحن الثلاثة وإنّما شاركنا العميد رفعت بالمعلومات عن طريق وشاية قام بها أحد عملائه في اللواء «65» وهو الرائد يوسف العلي، وقد كشف هذا المغفّل عن نفسه بسرعة ولذلك وضعه العميد هرمز تحت الرقابة المشددة، وما أن سافر العميد رفعت إلى موسكو حتى تم نقله إلى مكان ثانوي لا يستطيع به أن يعضّ أو يخرمش، وتم تصنيفه في عداد الضباط غير الجديرين بثقة القيادة العامة، كما تم وضع حواجز حديدية قنفذية حول بيت الرئيس الأمر الذي يعوق حركة الدبابات ويجعلها هدفاً ثابتاً للأسلحة المضادة، وبهذا العمل تمّت عملية تحصين بيت قائد الأمّة ورمزها المفدّى.
تنفيذ أمر نقل الضباط المحسوبين على رفعت
وفي غمرة لعبة عض الأصابع بيننا وبين العميد رفعت الأسد استأذنت السيد الرئيس القائد العام بتنفيذ أمر النقل للضباط المحسوبين على شقيقه والذين ماطلوا في التنفيذ مستندين إلى دعم العميد رفعت وتعهّدت له بأنّ هذه العملية سوف تتم في جوٍّ ودّي ولن نريق قطرة دم واحدة.. فقال لي: أشكُّ في أنهم يقبلون ونحن في ذروة الأزمة، فقلت له إذا أعطيتني الضوء الأخضر فغداً تراهم وقد أصبح كلّ منهم في مكانه الجديد، فقال: إذا كنت قد عزمت فتوكّل على الله، وطلبت من مدير مكتبي أن يبلغ الضباط المنقولين وعددهم أربعة عشر بأن يتواجدوا في مكتبي غداً الساعة السادسة صباحاً، وتمّ إبلاغ الضباط جميعاً وكان جوابهم لماذا في هذا الوقت المبكر ونحن نعلم أنّ العماد طلاس يبدأ دوامه الساعة العاشرة صباحاً وينتهي الساعة العاشرة مساءً فلماذا نحضر قبل الدوام الرسمي بساعة ونصف؟ وكان جواب مدير المكتب: الأمر واضح ولا لبس به وأنتم مطلوبون غداً الساعة السادسة صباحاً.
في صباح اليوم التالي حضر الضباط المعنيون إلى مكتبي متأخرين ساعة ونصفاً عن الموعد ولمّا سألتهم عن السبب؟ أجاب كبيرهم: هل تريد أن نقول لك الحقيقة؟ قلت: نعم. قال: كنّا عند أبي دريد (يعني رفعت الأسد)، قلت لهم: اذاً لم يكن الرئيس الأسد مخطئاً عندما نقلكم من أماكنكم وها أنتم الآن تعترفون دونما أي ضغط أو إكراه أنّكم كنتم لدى قائد سرايا الدفاع، المهم نحن الآن أولاد اليوم وعفا الله عمّا مضى، ولكن قبل أن أُعطيكم توجيهات القائد العام أودُّ أن أطرح عليكم السؤال التالي: مَنْ منكم تقدّم إليَّ بطلب شخصي أو عام ولم ألبِّ طلبه، فسكت الجميع ولم يحر أيّ منهم جواباً قلت لهم: إذاً لماذا تلعبون بذيولكم وتضعون ثقتكم وولاءكم لغير قائدكم، (فسكتوا أيضاً) وتابعت، الآن أمرني القائد العام أنْ أنفّذ أوامره بنقلكم إلى وظائفكم الجديدة، من ينفذ الأمر سوف يُعفى من أيّ عقوبة أو مساءلة مسلكية (عدم تنفيذ أمر القائد العام يعتبر في حالة الحرب جناية يعاقب مرتكبها بالسجن سبع سنوات كحدٍّ أدنى) أمّا في حال إصراركم على غيّكم فأنا كلفت نوّابكم في التشكيلات والوحدات أن يعتقلوكم ويرسلوكم مباشرة إلى السجن المركزي، وفي حال المقاومة والعصيان العسكري فانّ لدى نوّابكم الأمر منّي شخصيّاً بإطلاق النار عليكم وأنتم تعرفون أنّنا لن نحاسبهم على النتائج مهما كانت لأنّهم ينفّذون الأوامر والتعليمات وأنتم الخارجون على القانون، أما في ما يتعلّق بأمور التسلم والتسليم فاعتبروا أنّ لديكم براءة ذمّة مصدّقة من وزير الدفاع وسوف تصلكم بالبريد، أما بالنسبة لحاجاتكم الشخصية فيمكنكم أن ترسلوا السائق لجلبها من مكاتبكم وحذار من الالتفاف على الأوامر، وإذا مكرتم فانّ مكرنا أشد وإذا تطاولتم على القائد العام فانّ يدي ستطول هذه المرة رقابكم، وضربت بقبضتي على الطاولة (وكانت الغاية من ذلك إدخال الرهبة في نفوسهم) وكان صوتي المرتفع والجدّي يدلُّ على مدى الحسمية وعدم التساهل أبداً في الموضوع. فأذعن الجميع للتعليمات وأدّوا التّحية العسكرية وتوجّهوا إلى أماكن وظائفهم الجديدة ولم يحاول أي منهم المناورة كما لم يعد أي منهم إلى الاتصال بالعميد رفعت أبداً، وأعلمت الرئيس الأسد بنجاح المهمة وكان مرتاحاً للغاية وقلت له: ليس الجيش والشعب معك في هذه الأزمة وإنّما العناية الإلهية كذلك، ورويت له قصّة الشيخ أحمد عبد الجواد الذي جاء من المدينة المنورة لنجدة الرئيس الأسد، وحتى يكون القارئ معنا سأروي له الحكاية كما حدثت.
يتبع

قبلة يهوذا والمانحون لفلسطين/ نقولا ناصر

(رئيس لجنة المانحين وزير خارجية النرويج يضغط على مفاوض منظمة التحرير للتوصل إلى "حل سياسي" ويهدد بأن "المانحين ليسوا مستعدين لمواصلة تمويل بناء الدولة الفلسطينية لفترة أطول")

في تقرير لها نشرته بالتزامن مع الذكرى السنوية العشرين لتوقيع اتفاق "إعلان المبادئ" بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وبين منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة الأميركية، خلصت كونفدرالية "أوكسفام" الدولية الخيرية التي تضم سبعة عشر منظمة إلى أن حال الشعب الفلسطيني "الآن أسوأ مما كان عليه" عند توقيع اتفاق أوسلو قبل عشرين سنة.

وهذه الخلاصة هي إعلان صريح بفشل "لجنة اتصال" المانحين الدوليين لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني التي تعقد اجتماعات دورية نصف سنوية منذ اجتماعها الأول في باريس في الخامس من تشرين الأول/ اكتوبر عام 1993 بعد تأسيسها في الأول من الشهر ذاته، أي بعد تسعة عشر يوما فقط من توقيع اتفاق أوسلو.

وكانت "الاستجابة لاحتياجات الشعب الفلسطيني للمساعدة في إطار إعلان المبادئ" من الأهداف الأساسية لتأسيس لجنة الاتصال، وهذا هدف غني عن البيان يكمن في صلب فشلها، فهو يشترط تقديم معونات المانحين بالالتزام السياسي ب"إعلان المبادئ"، ويكشف الوظيفة السياسية لهذه المعونات كرافعة لاستمرار "عملية السلام"، ويعري "مانحيها" كممولين للاحتلال لا للتحرر الفلسطيني منه.

لذلك كان رئيس بعثة صندوق النقد الدولي في الضفة الغربية وقطاع غزة كريستوف دونوالد يتحدث ضمن تفويض الصندوق العضو في لجنة الاتصال عندما قال للأسوشيتدبرس يوم الثلاثاء الماضي إنه لا يتوقع ارتفاع أو انخفاض معونات المانحين للسلطة الفلسطينية في المستقبل القريب لأن ذلك "سوف يعتمد على كيفية تطور محادثات السلام".

فالمعونات لا تقدم للشعب الفلسطيني لخدمة الهدف المعلن لممثله "الشرعي والوحيد" في إقامة دولة فلسطينية بحدود أراضيه المحتلة عام 1967، بل لتمويل "عملية السلام" ومفاوضاتها التي ما تكاد تتوقف حتى تستأنف إلى أجل غير مسمى، وتمويل نفقات إدارة المناطق المحتلة وإعفاء دولة الاحتلال منها وهي الملزمة بها بموجب القانون الدولي، لتتحول معونات المانحين عمليا إلى معونات مباشرة لتمويل الاحتلال، وشراء تنسيق منظمة التحرير معه في قمع أي مقاومة له، وتهدئة الشعب الخاضع للاحتلال، في عملية كانت نتيجتها الوحيدة بعد عشرين عاما هي شراء المزيد من الوقت الذي تحتاجه دولة الاحتلال لتغيير الواقع المادي الجغرافي والديموغرافي على الأرض في الضفة الغربية والقدس بخاصة.

ولا يعود مستغربا بعد ذلك أن تحولت الحقائق الجديدة التي خلقتها دولة الاحتلال على الأرض بفضل الوقت الذي اشترته بأموال المانحين إلى موضوع للمساومة التفاوضية، في القدس ومنطقة الأغوار وغيرهما، لتتحول المفاوضات المباشرة التي استؤنفت أواخر تموز/ يوليو الماضي إلى مفاوضات على تقاسم الضفة الغربية مع مستوطنيها غير الشرعيين، وإلا فليس أفضل لدولة الاحتلال من إفشالها ووقفها مرة أخرى، لتعود حليمة الأميركية إلى عادتها القديمة في التوسط لاستئنافها مجددا، كما كان حالها منذ رعت توقيع اتفاق أوسلو في عاصمتها قبل عقدين من الزمن.

ومثلما كانت معونات المانحين سلاحا لابتزاز منظمة التحرير الفلسطينية لانتزاع المزيد من تنازلاتها كانت أيضا سيفا مسلطا عليها في الشأن الداخلي تحجب عنها عند أي تراخ منها في ملاحقة المقاومة الوطنية للاحتلال الذي تحولت دولته إلى "شريك" في "عملية السلام"، وتحجب عنها عند أول جنوح منها إلى الوحدة الوطنية، ففي آذار/ مارس عام 2011 هدد المانحون بحجب معوناتهم في حال تأليف حكومة وحدة وطنية مع حركة "حماس"، وقد أوقفوا معوناتهم فعلا بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، ليتحول المانحون إلى أكبر عائق أمام الديموقراطية الفلسطينية.

إن الاستجابة للاحتياجات الفلسطينية خارج إطار اتفاق أوسلو هي وحدها الجديرة بتطوير سلطة الحكم الذاتي الإداري الفلسطيني إلى دولة كان يمكنها أن تظهر إلى حيز الوجود خلال سنوات قليلة مضت بمساهمة حيوية من معونات المانحين في بناء مؤسساتها، لكن تفويض الدول المانحة ولجنتها بالاستمرار في تقديم معوناتها "في إطار إعلان المبادئ" فقط كان وسوف يظل هو العقبة الرئيسية أمام بناء هذه المؤسسات وظهور هذه الدولة، خصوصا وأن كلا طرفي اتفاق "إعلان المبادئ" يقران علنا ومنذ سنوات ب"موت" هذا الاتفاق الذي تجاوزته التطورات وأجهضته سياسات دولة الاحتلال في الاستعمار الاستيطاني المنتشر كالسرطان على الأرض المفترض أن يتم تطبيق الاتفاق فوقها.

وكانت النرويج التي استضافت في عاصمتها أوسلو المحادثات السرية التي تمخضت عن "اتفاق أوسلو" ترأس "لجنة الاتصال" منذ تأسيسها، ربما تكريما لها على جهودها في التوصل إلى الاتفاق الذي وصفه الكاتب العربي المصري فهمي هويدي في مقال له الأربعاء الماضي بأنه "يجسد أكبر وأغرب خدعة تعرض لها الفلسطينيون والعرب في تاريخهم الحديث"، والذي وصف الباحث الفلسطيني هاني المصري في مقال له قبل ذلك بيومين استمرار الرهان على المفاوضات الثنائية والرعاية الأميركية لها على أساسه بأنه "جريمة كبرى".   

ولجنة المانحين هذه المكونة من ثلاثة عشر دولة إضافة إلى البنك وصندوق النقد الدوليين سوف تعقد اجتماعها الدوري التالي في الخامس والعشرين من هذا الشهر في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي اعترفت بفلسطين تحت الاحتلال دولة غير عضو فيها في مثل هذا الشهر العام الماضي، وفي رأس جدول أعمالها رشوة أميركية في شكل خطة مكونة من 200 صفحة ومفصلة وتمتد لثلاث سنوات أعدتها الإدارة الأميركية واللجنة الرباعية الدولية لتطوير الاقتصاد الفلسطيني تحت الاحتلال قال النائب الأول لرئيس حكومة منظمة التحرير في رام الله، د. محمد مصطفى" لوكالة "معا" يوم الخميس الماضي إن الجانب الأميركي سلم نسخة مكتوبة منها ل"القيادة الفلسطينية".

ومع أن د. مصطفى أضاف بأنه يحمل معه إلى اجتماع لجنة المانحين "خطة ورؤية فلسطينية" مستقلة فإن هذه الخطة سوف توضع على الرف على الأرجح إذا ما اختلفت عن الخطة الأميركية التي لا يوجد أي شك في أن وزير الخارجية جون كيري الذي اقترحها قد أخذ الموافقة المسبقة لدولة الاحتلال عليها.

وعشية انعقاد هذا الاجتماع، وفي مقابلة له مع الجروزالم بوست العبرية في الثامن والعشرين من الشهر الماضي، بدا رئيس لجنة المانحين وزير خارجية النرويج، ايسبن بارث ايدى، كمن يعترف بطريقة غير مباشرة بفشل اللجنة التي ترأسها بلاده في مهمتها، وكمن يضغط بطريقة مباشرة على مفاوض منظمة التحرير عندما هدد بأن "المانحين ليسوا مستعدين لمواصلة تمويل بناء الدولة الفلسطينية لفترة أطول إذا لم نر حلا سياسيا في الأفق"، بينما يعرف هو وغيره من المانحين استحالة التوصل إلى أي حل كهذا في المستقبل المنظور بسبب سياسة الاستعمار الاستيطاني التي تمارسها دولة الاحتلال.

والتفسير الوحيد لتهديده هذا هو أن على منظمة التحرير أن توافق على "حل سياسي" في المفاوضات الجارية حاليا وسط تعتيم صارم لأنها "قد تكون الفرصة الأخيرة لحل الدولتين طبقا لمرجعية أوسلو" وإلا فإن المانحين سوف يتوقفوا عن تمويلها.

وقد لفت تهديد الوزير النرويجي انتباه الباحث في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي ايليوت أبرامز ليكتب قائلا إن "ذلك تصريح استثنائي، وينبغي ألا يمر من دون ملاحظته"، ومن المؤكد أن مفاوض منظمة التحرير قد أخذ تهديده في الحسبان لكنه استنكف عن أي رد فعل علني عليه حتى لا ينتبه الرأي العام الفلسطيني إليه فيقول مع المثل المتداول: اللهم نجني من أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم.

فالمانحون يتظاهرون بالصداقة للشعب الفلسطيني لكنهم في واقع الحال يحاولون بأموالهم ترويضه للرضوخ لنتائج اغتصاب فلسطين وإقامة دولة المشروع الصهيوني فيها كأمر واقع.

إنها "قبلة يهوذا". ففي العشاء الأخير مع تلاميذه في حديقة الجثمانية في القدس، حسب رواية الإنجيل، تعرف الجنود الرومان الذين قدموا لاعتقال المسيح تمهيدا لصلبه بقبلة طبعها تلميذه يهوذا الاسخريوطي على خده، لتدخل هذه القبلة التاريخ الإنساني رمزا للخيانة.

* كاتب عربي من فلسطين