الوطن
بوسعكَ السفرُ إلى بلاد بعيدة، دون طائرة. بوسعك العودةُ إلى زمن جميل، دون آلة زمن. هنا محراب الجمال، الذى نخلعُ على بابه همجيتنا لنلقيها فى العدم، ثم ندخل أبرياء صافين، متأهبين لجرعة النور.
كلما نشدت الاتزانَ الروحى، ذهبت إلى «دولة الأوبرا»، كما أسمّيها. كأنما هى دولة مستقلة. أو كأنما هى مصرُ فى خمسينات الزمن الجميل. كأنما حفلات أم كلثوم بجمهورها الأنيق. أدخل الأوبرا، فأتأكدَ أن الرُّقى كامنٌ فى شعبنا، وإن تراكمت عليه طبقةٌ من غبار الصحارى، سنجلوها لنعود مصريين.
مهرجان الموسيقى العربية الثانى والعشرون، الذى تنتهى فعالياته بالقاهرة اليوم، وتمتد بالإسكندرية حتى يوم ٢١ نوفمبر. الجمهور ملأ قاعة المسرح الكبير وأدوار البلكون الخمسة، وفى الخارج تتردد شكاوى الناس من نفاد التذاكر فور فتح شباك الحجز. متعطشون للفن الجميل بعد عامين من الظلام والقحط.
الآن؟ فى هذه اللحظة المرتبكة، ثمة من يتوق للموسيقى؟! نعم. فنحن شعبٌ خطير يعرف كيف يصبر فى نبلٍ، وكيف يثور فى تحضّر، وكيف يسخر من المحن ويروّضها، وكيف، أثناء كل هذا، يخلق الفن الرفيعَ، ثم يتذوّقه. بالرغم مما تمرُّ به مصرُ الآن من تخبّط وفوضى، وعتمة الظلام التى مرّت بمصر العام الماضى، بل من أجل كل هذا، كان لا بد من الفنّ، الذى يُطمئننا أن مصرَ التى وُلِدَت قبل التاريخ، لا تنضب. ثمة عشراتُ: «أم كلثوم» و«عبدالوهاب» و«عبدالحليم»، فى مصر التى ابتكرت الموسيقى والغناء فى فجر التاريخ قبل آلاف السنين.
أجلسُ صامتةً، لأن الصمتَ فى حرم الجمال جمالُ. النغمُ ينساب حولى من كل صوب كشلال عذب من النور، وأفكر. ماذا لو فرضتِ الحكومةُ المصرية واجبا قوميا يُلزم المواطنين بالذهاب للموسيقى مرةً فى الأسبوع؟! هل تختفى الجريمة؟ أصدّق هذا. لو جِىء بالمُخرّبين الغلاظ أعداء الحياة، لحضور الأوبرات والباليه والموسيقى العربية والكلاسيكيات الروسية والألمانية، ألن يخرجوا على عكس ما دخلوا؟ ألن ترقَّ قلوبُهم الفظة، وتشفَّ أرواحُهم الخشنة فيحبون الوطنَ والناسَ وربَّ الناس؟ الموسيقى تُربّى الروح. تُهذِّبُها. تُشذِّبُها من النتوءات والبثور، وتُنقِّيها من الشوائب. لذلك قال أفلاطون: «علّموا أولادَكم الفنون، ثم أغلقوا السجون».
كل يوم وأنا فى مقعدى بالمهرجان، أرسلُ برقياتٍ فلاشيةً إلى قرائى عبر صفحتى فى «فيس بوك وتويتر» لأحكى لهم ما يجرى الآن فى محراب الجمال، وأختبر مدى توق الناس للموسيقى. وكنتُ أُذيّل كلمتى بعبارة ثابتة لا تتغير: «شكراً أيها الفن».
اليومَ، وهنا، أشكر الكبار الذين منحونى أسبوعين من النشوة والتحضر. على رأسهم جميلة الموسيقى د. رتيبة الحفنى، التى أسست المهرجان قبل عقدين وعامين، ثم طارت بالأمس للسماء بعدما رسّخت أقدام الجسر التنويرى الذى يجمع العربَ على لغة واحدة لا تعرف التشاحن والخلاف: لغة الموسيقى. وأشكرُ كل الطيور الغِرّيدة التى أنطقتِ النغم على عصا المايسترو «سليم سحاب» وبيانو «عمرو سليم» وأعضاء الأوركسترا كافة. أشكر على الحجار، مدحت صالح، مى فاروق، ريهام عبدالحكيم، أنغام، هانى شاكر، أصالة، لطفى بوشناق، صفوان بهلوان، وغيرهم من ثريات الفن العربى. كما أشكر التليفزيون المصرى الذى نقل المهرجان مباشر لمن لم يستطع الحضور.
أما الشكر الأكبر، فأوجهه للمثقفة الجميلة د. إيناس عبدالدايم، رئيس دار الأوبرا، راعية المهرجان، وكل فريق عملها وجنودها. أحييها على صلابتها فى مواجهة التتار؛ فلم تخضع. بل كانت جمرةَ اللهب التى قبض عليها المثقفون ليشعلوا ثورة ٣٠ يونيو. كما أحييها على إيمانها الراسخ برسالتها التنويرية النبيلة، وإصرارها على رسم لوحة الجمال الرفيع تحت هزيم العواصف الهوجاء.
0 comments:
إرسال تعليق