كلمتان ونقطة سوداء في جبين من؟/ فؤاد الحاج
العرب والغرب أيضاً الفارق بينهما نقطة، وفي المعنى والفارق بينهما كذلك كبير.
فجذر كلمة العرب الثلاثي عرب وهم مجموع القوم الذين يقطنون المساحة الممتدة جغرافياً كما يقال ما بين المحيط الأطلسي والخليج العربي وأصلهم من جزيرة العرب.
والغرب وجذرها الثلاثي غرب والمقصود منها في هذا الموضوع كل ما هو شرق بلاد العرب جغرافياً وتعني أيضاً القوم الذين يقطنون البلدان الأوربية وأمريكا وكندا وأستراليا، والفارق بين العرب والغرب أكبر من تجمعه مقالة.
فكما قال الكاتب والشاعر الإنكليزي (روديارد كيبلينغ) "الشرق شرق والغرب غرب لا يلتقيان"، التي يقول البعض أنه كان يقصد بذلك بلاد الأندلس عندما كانت تحت الاحتلال العربي الإسلامي، فالغرب والشرق لم يلتقيا، بالأندلس بل تصارعا. وهناك فرق بين الصراع والالتقاء. فنتيجة اللقاء من المفترض أن يكون هناك "تحالف" أو "اتفاق" كما هو حاصل اليوم بين تحالفات متعددة الأنواع والأعراق، ومنها على سبيل المثال تحالف وائتلاف ما يسمى المعارضة السورية في الخارج مع التقدير لبعض العناصر فيهما، وما كان يسمى المعارضة العراقية ضد الحكم الوطني في العراق قبل غزوه واحتلاله، وتحالف تنظيمات وشخصيات متعددة المشارب والأهداف دينية وغيرها، البعض أسماها حراك في اليمن وليبيا ومصر وفي السودان وتونس وموريتانيا والصومال وغيرهم من البلدان العربية، على الرغم من أن المتابع لمجريات الأوضاع في البلدان العربية يعرف أن كل تلك التحالفات وغيرها تمت بتفصيلات سياسية بقيادة إدارات الشر الأمريكية المتعاقبة. يقابل ذلك تحالف المصالح بين روسيا والصين وإيران، وكل منهم له أهدافه إن في سوريا أو اليمن أو في لبنان أو في العراق. ولكن ما حدث في الأندلس أنه لم يتم التقاء كما ذكرت أعلاه بل فرض الغرب سطوته وطرد العرب والمسلمين من تلك الأرض، أما الذين بقوا فقد ذابوا بقوة الحديد والنار. وفي هذا المعنى يمكن القول على مقولة (روديارد كيبلينغ) "الشرق شرق والغرب غرب لا يلتقيان"، فانظر إلى الأندلس اليوم كيف تنصلت من الشرق العربي والإسلامي وعادت إلى جذورها بعد 800 عام من سيطرة الشرق عليها! ويبدو أن العداوة فيما بين العرب والغرب تشبه كثيراً عداوة القط والفأر (توم وجيري). وانظر إلى المستعمرين الذين احتلوا البلدان العربية في القرن الماضي ثم ارتحلوا دون أن يخلفوا إلا الدساتير الطائفية والمذهبية والعداوة والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد، بينما في بلدانهم شرعوا دساتير لا وجود للدين أو الطائفية أو المذهبية فيها.
أما من حيث واقع اليوم والفارق الكبير بين الغرب والعرب فهو ليس نقطة فقط، ويمكن تلخيصه بما رددت به اختصاراً على سؤال من أحد الأصدقاء الأعزاء بعيداً عن المجاملات، عن رأيي في الهجرة وخاصة الشبيبة؟ وقبل أن أجيب أقول أنه ربما يكون لدى أحد القراء اعتراضات على هذا الكلام، ولا يريد أن يصدّقه، وهذا يعود لانبهاره بالغرب من خلال السينما والتلفزيونات والاكتشافات في مختلف المجالات العلمية وغيرها التي تتصدر أخبار الإعلام العربي والغربي والفضائيات، أو من خلال الصناعات الحربية والعسكرية وما إلى ذلك من اختراعات، أو من خلال أفلام هوليوود. لهذا القارىء أقول لا تغرنك مظاهر الغرب في ما ذكرته أعلاه، فمطالعة للحقائق على واقع المهاجرين والمهجّرين والمغتربين، ربما فيها فائدة كبيرة، ولا تنظر إليهم من خلال ما يرسلونه من دولارات إلى ذويهم، أو من خلال ما يشترونه من عقارات في الوطن الأم، ولا من خلال الصور على الفايس بووك؟
من هنا نبدأ الكلام إن أسألتك عزيزي (...) أكثر من محرج الإجابة على سؤالك من الناحية الوطنية والقومية، هذا من ناحية. ولكن وبصدق أخبرك أن الغربة غربتان، غربة الفقر والحرمان في الوطن الأم الذي نهبته الغربان، وغربة عن الديار والأهل والأصدقاء وعشرة الصبا، حيث العذاب والآلام فيها لا يعرفها إلا من عاشها، شريداً على أرصفة الاغتراب. وبما أن الأوضاع في الوطن الأم سيئة جداً وفي كل المجالات، خاصة على الأهل وعلى المواطن العربي المؤمن بحقه في الحياة. وفي هذا الصدد لي تجربتي الخاصة كما لكل مهاجر أو مهجّر تجربة شبيهة، فحال الكثيرين من الوطنيين والقوميين، يعيشون هموم دائمة اتجاه الوطن الذي يسكنهم، واتجاه شعبه الذي يعاني من الصعاب في سبيل لقمة العيش وتأمين مستقبل أولاده، في مجال التعليم والعمل وتأمين الدواء والمشفى وزواج أولاده ومستقبل أفضل لهم. فالغرب عموماً يريد تفريغ الأوطان من خيرة شبيبتها، لأنهم (أي الحكومات في الغرب) يريدون في النهاية سحب الكفاءات وذوي الاختصاصات الشابة، والمبتكرين والمبدعين في مجالات العلوم، إضافة إلى الأيدي العاملة، ومن يبحث في طواقم المبدعين والمخترعين والمكتشفين في البلدان العربية يجد أن لا مكان لهم في بلدانهم حتى أن البعض هناك يسميهم مجانين، لذلك يلجأ بعض هؤلاء إلى دول الغرب حيث يرحبون بهم ويمنحونهم كل ما يريدونه من مواد تساعد على تحقيق أفكارهم أو اختراعاتهم، وصولاً إلى منحهم الجنسية وتأمين كل مستلزمات الحياة اليومية له ولأفراد عائلته، وفي النهاية عندما ينجح الاختراع بعد تجارب بإشراف متخصصين في مجالات العلوم المختلفة، تبرز وسائل الإعلام ذلك الاختراع واسم مخترعه باسم هذه الدولة الغربية أو تلك. وأذكر هنا مجازاً قصة حدثت في لبنان في خمسينيات القرن الماضي حيث اخترع أحد الساعاتيين في مدينة طرابلس ساعة ناطقة بعدد دقات كل ساعة، وبحجم كبير سماها ساعة الزهور، لأنها كانت تتضمن عقارب كبيرة الحجم وتوضع على الأرض في ساحة عامة وفيها زهور مختلفة الألوان، وعندما أراد تسجيلها وتقديمها للبلدية لتضعها في ساحة عامة، رفضوا فكرته وقالوا عنه مجنون، فأغلق محله وذهب إلى بلد أوروبي ووضع اكتشافه في خدمة ذلك البلد فرحبوا به وقدموا له كل المساعدات المطلوبة، وهكذا نسبت ساعة الزهور إلى ذلك البلد. ومن يفتش عن المخترعين العرب في شبكة الانترنيت يجد مع الأسف أن الحكومات العربية لا هي بالعير ولا بالنفير، وأن كل المخترعين لا يجدون الرعاية والاهتمام سوى من بعض رجال الأعمال الذين يسعون للكسب المادي وتسجيل اسمهم في براءة الاختراع!
وبعودة إلى هجرة الشبيبة فأن الملاحظ أنهم من الفئات العمرية التي دون سن الثلاثين عاماً، وبذلك يكسب الغرب مرتين الأولى الكفاءة والخبرة ورفد المجتمع الغربي بأيدي عاملة جديدة بشكل دائم ومستمر، ومن يدقق في الهجرات إلى أستراليا أو أوروبا أو أمريكا يجد تلك الفئة من الأعمار هي الأغلبية من الذين يحصلون على تأشيرات للسفر إلى البلدان الغربية عموماً، والمرة الثانية يكسبون الجيل الجديد الذي يولد في هذه الديار ويصبح قانونياً ابن البلد ويقال أنه مواطن، بينما الأهل الذي يحصلون على جنسية هذه البلد أو تلك فيقال لهم مجنسين وهذا بالطبع لا يشعر به أحد إلا في حال لا سمح الله وقع حادث ما مثل جريمة قتل أو سرقة كبيرة أو تهريب مخدرات وما شابه، فإذا كان من جذور عربية إسلامية عندها يذكرون جنسيته الأصلية ودينه وتقع الجالية في حيص بيص الإعلام، أما إذا كان من بلدان أخرى لا يذكرون أصله وفصله ودينه.
هذا والذي يولد في هذه الديار ينقطع بدوره عن أصله إلا من خلال زيارات لبلد أهله لفترة محدودة، وبعد وفاة الأهل تنتهي العلاقة والصلة بين موطن الآباء والأجداد إلا ما ندر. لذلك نرى الآباء والأجداد تائهين بين ماض يحمل القيم والأخلاق والعادات الحميدة، وبين جيل جديد يتأثر بمجريات الأوضاع في وطن الآباء والأجداد ولكنه لا يبالي بذلك. أما الجيل الذي يليه أي أولاد أولادنا فمن الله العوض، فإذا كان هناك من مؤسسات دينية أو تنظيمات أو طائفية وما شابه من كل الديانات، فأنها وبسبب سياسة حكومات دول الغرب العمياء إن في الحكومات أو في المعارضة على حد سواء، فأن التنظيمات الدينية المتطرفة تسحب البعض من أبناء الأمة في المغتربات وتعمل منها عصابات تابعة لها باسم الدين، كما يحدث الآن في أكثر من بلد غربي وفي أستراليا، ليرسلوهم إلى الموت في وطن الآباء والأجداد تحت شعارات ما أنزل الله بها من سلطان، وهناك العديد من الشبيبة الذين غرر بهم وأرسلوا للموت في سوريا وفي العراق وفي اليمن بحجة قتال "الكفار" ورفع راية "الأمة الإسلامية" وما يسمونه "الخلافة الإسلامية" وعدد كبير نسبياً من الشبيبة مع الأسف قتلوا في سوريا وفي العراق، ومنهم من ينتظر تحت تلك الشعارات، كما يوجد أعوان لعصابات طائفية في الوطن الأم يتبرعون بالأموال وبشكل دائم ونسب مفروضة على كل منهم، يرسلونها بطرق ملتوية إلى تلك العصابات الطائفية والمذهبية، والبعض يجمع تبرعات باسم الدين والإنسانية وما إلى ذلك من شعارات لمساعدة كما يقولون المشردين والمصابين والأيتام والأرامل والأطفال، وهذه التبرعات المادية والعينية مع الأسف لا يصل منها شيئاً لمن جمعت باسمهم إن في لبنان أو في فلسطين أو في سوريا أو العراق، وفي حال أوصلت جماعة باسم الإسلام جزء من تلك التبرعات فأنها توزع على أنصارهم وجماعتهم، أما في فلسطين فأن معظمها يصل إلى الجهة التي ينتمي إليها الجهة القائمة على حملة التبرع مع العلم أنهم يجمعون باسم فلسطين وشعبه. باختصار هنا أقول أن سبب ذلك يعود إلى أن روح العروبة والقومية التي حملها بعض المهاجرين والمهجرين منذ سبعينات القرن الماضي فقد ماتت مع موت معظمهم كما ماتت في الوطن الأم بعد أن تم تكريس حدود "سايكس بيكو" في دساتير ليس أنظمة الذل والهوان فحسب، بل وفي شعارات وأهداف الأحزاب التي كانت تسمى قومية حيث بدأت تلك الأحزاب في التركيز على كلمة "أولاً" بعد اسم البلد، أي (لبنان أولاً)، (الأردن أولاً)، (مصر أولاً) (سوريا أولاً) وهكذا بحيث لم يتبق من المؤمنين بشعارات الأمة العربية والوطن الكبير سوى بعض كبار السن المنتظرين موتهم ببطء، وكل التنظيمات الوطنية والقومية، لم يعد لها أثر في ديار الاغتراب ومنها البعث والناصريين والشيوعيين والماركسيين وغيرهم، وحتى الأحزاب التي كنا نسميها يمينية وانعزالية في لبنان لم يعد لها وجود فاعل إلا من خلال الطائفية.
ومن ناحية ثانية، وبما أن الظروف القاسية التي تمر بها الأمة عبر تاريخها الحديث، قد جعلت المواطن في كل الأقطار العربية، يكفر بأنظمة الذل والهوان الحاكمة دون استثناء، من مشرق الوطن العربي إلى مغربه، ومن شماله إلى جنوبه، فأن الأهل، كل الأهل ودون استثناء أيضاً، بدأوا يشعرون أنه لم يعد هناك مستقبل لأولادهم في وطن مستباحة أرضه، وسمائه للكلاب الضالة، فأن هؤلاء الأهل يريدون إبعاد أولادهم ليس كرهاً في وطنهم أو طمعاً في مال الاغتراب، وإنما بسبب الظروف التي عاشها الأهل في الحروب المستمرة منذ عام 1936 وعدم وجود العدالة الاجتماعية، حيث يتطلع الأب إلى حصول ابنه على جنسية أخرى علّها تجنّبه ويلات الوطن، وتجارب الأب المرّة، من أجل الحفاظ على أمن وحياة أبنائه وتأمين مستقبل أفضل لهم. وهذا حق لكل الأهل في وطن بات غير آمن، ولا يصلح للعيش فيه بحرية وكرامة، وطن باعوه سياسيوه مقابل ورقة أمريكية خضراء، باتت دينهم الجديد.
وأود أن أوضح بأن الكثير من أبناء الأمة من أصول عربية في ديار الاغتراب قد وصلوا إلى مراتب عليا ومناصب مدنية وعسكرية وعلمية مختلفة في بلدان المهجر، فمنهم أدباء وشعراء وإعلاميين، ومنهم رؤساء وزراء ووزراء ونواب وأعضاء بلديات وأصحاب مؤسسات تجارية وإعلامية ومختبرات طبية، ومنهم رؤساء جمهورية، ومنهم وزراء دفاع، ومنهم من وصل إلى مناصب عليا في أجهزة الأمن المدنية والعسكرية المختلفة، إضافة إلى عدد كبير منهم أصبحوا جنود وأصحاب مراتب في جيوش تلك البلدان، ومعظم هؤلاء شاركوا في الحروب ضد بلدان أهلهم وذويهم منذ الحرب العالمية الأولى في لبنان وفي فلسطين وصولاً إلى غزو العراق واحتلاله، كما ساهموا في نهضة البلدان التي انتموا إليها بالولادة أو بالتجنس، هؤلاء الذين كان من المفترض أن تستوعبهم أوطان الآباء والأجداد، ولكن مع الأسف فأن غباء الذين يسمون أنفسهم سياسيين وغباء أنظمة الذل والهوان في البلدان العربية فقدتهم كما فقدت أجيالهم.
ولا بد من التنويه هنا إلى أن ليس كل المهاجرين والمهجرين من البلدان العربية هم من الفئة المذكورة أعلاه، بل يوجد أيضاً العمال الكادحين الذين بنوا مستقبلاً لهم ولأبنائهم، وأسهموا في نهضة البلدان التي حلوا بها، وفي المقابل أيضاً هناك مجموعات من المهاجرين وأبنائهم مع الأسف أساءوا إلى سمعة الجاليات المهاجرة وإلى سمعة بلدهم الأم من مختلف البلدان العربية، وأن عدداً من المهاجرين منذ سبعينات القرن الماضي لم يسيئوا فقط للجالية بل ولروح الديانات السماوية، وكذلك أجيالهم حيث أصبح لبعضهم "زوجات" غير عربيات بعد أن تركوا زوجاتهم وأولادهم، وبعضهم لديه عشيقات أو كما نسميها بالإنكليزية (Girl Friend) وهذه الكلمة الإنكليزية تعني حرفياً (بنت صديقة للشاب) ولكن في معناها التطبيقي تعني (عشيقة للشاب)، والبحث في هذا المجال يحتاج لندوات، وفي المقابل فأن بعضاً كي لا أعمم من جيل اليوم لا يعرفون معنى الكرامة، ولا معنى القيم العائلية، ولا الحضارية.
وبعودة إلى غربة الفقر والحرمان في الوطن الأم، أروي قصة من واقع الحياة عشت تفاصيلها مع أصحابها الحقيقيين.
في بدايات القرن العشرين، وفي قرية تقع على أحد مرتفعات شمال لبنان، أحب شاب أنيق المظهر ومن فئة المثقفين في ذلك الزمن، فتاة كانت آية رائعة في الجمال متعلمة في مدارس الراهبات، والشاب والفتاة كانا من عائلتين تمتلك السهول والحقول والأموال والرجال، وكانت المشكلة الكبرى آنذاك أن الفتاة (مسيحية) والشاب (مسلم)، حاولت الفتاة إقناع أمها كي تقنع والدها على اعتبار أن الأم مخزن أسرار الفتاة، كما يقال، ولكن الوالد هدد بقطع الميراث عنها وفرض عليها أن تتزوج من قريب لهم. وكذلك فعل الشاب وحاول مع والده وأمه وأخوته وأعمامه، وحاول توسيط رجال دين من الطائفتين ولكن دون جدوى، وفرضوا عليه أن يتزوج ابنة عمه، وإذا لم يفعل هددوه أيضاً بقطع نصيبه من الميراث والتخلي عنه.
بعد ذلك اتفق الشاب والفتاة على الهروب إلى المدينة، وهكذا تزوجا وعملا معاً من أجل تأمين لقمة العيش وإيجار المسكن، وكان أهلهما يفتشان عنهما لقتلهما دون أن يفلحا في ذلك. ثم أنجب العاشقان ابنتان تؤمان، الكبرى كانت تدعى أنجيل والثانية سعاد، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى تزوجت أنجيل وسكنت مع زوجها في طرابلس، أما سعاد فقد تزوجت وذهبت مع زوجها إلى فلسطين للعمل والعودة قريباً، كان ذلك قبل أن يضع الاستعمار مخططه الخبيث المعروف بـ(سايكس بيكو) حيث كان اللبنانيون آنذاك يذهبون إلى حيفا ويافا وعكا ومدن وبلدات فلسطين دون تأشيرة أو رقيب، وكانوا يذهبون للتجارة أو للسهر ومشاهدة أفلام السينما، وحضور الأمسيات الشعرية والمسرحية هناك، ثم يعودون إلى بيوتهم، وبعد (سايكس بيكو) سيئة الصيت، لم يعد بإمكان اللبنانيين والسوريين أو ما كان يعرف آنذاك بـ(بلاد الشام)، الذهاب إلى فلسطين، ولكن كانت سعاد وزوجها يعودان بين فترة وأخرى لزيارة الأهل، وفي عام 1936 ذهبا ولم يعودا، هكذا انقطعت أخبار سعاد وزوجها عن الأهل، ولم تزل إلى اليوم. ثم رزق الله الأبوين بولدين في أربعينات القرن الماضي أسمياهما إيلي ووديع. وبعد كد وتعب وأعمال مختلفة قام بها الأبوين نجحا في تربية ولديهما أحسن تربية وحصل كل منهما على شهادات ومراتب علمية، ثم عمل الأخوين في مجالات متنوعة لتأمين راحة والديهما ريثما يتم تأمين عمل في مجال تخصص كل منهما إلى أن وقعت أحداث الحرب المؤامرة (1975 – 1990) التي يسميها البعض "الحرب الأهلية اللبنانية"، وفجأة توفيت الأم، وبعد فترة قصيرة تبعها الأب المفجوع بعشيقته، دون أن يتركا لابنيهما ما يقتاتان به، فقرر الأخ الأصغر أن يسافر إلى بلاد نجد والحجاز، حيث عمل هناك في الزخرفة بالذهب في قصور الأمراء وأصبح أميراً في الغنى. أما شقيقه الآخر سافر إلى دولة أوروبية ولا زال هناك. أما أنجيل فقد توفيت في ثمانينيات القرن الماضي بعد أن توفي زوجها، تاركة عائلة كبيرة، وخلال الحرب باع أولاد أنجيل ممتلكاتهما وسافرا إلى أمريكا، وإلى يومنا هذا مع الأسف الشديد لم يلتق الأخوة وأصبح لكل منهم عائلته.
هذه القصة الحقيقية يوجد مثلها مئات القصص في لبنان فقط، فكيف في باقي البلدان العربية؟
لماذا رويت هذه القصة؟ فقط كي أقول أن المجتمعات العربية وإلى يومنا هذا لازالت تعيش في عصور الجاهلية، بسبب الحكام المتخلفين وسطوتهم وبسبب المتدثرين بعباءة رجل الدين. وبسبب كثرة المتعلمين والمثقفين في وطن الآباء والأجداد، الذين لازال معظمهم يعيشون أفكار القرون الوسطى.
وأخيراً أقول صحيح أن لبلدان العرب سحر وقيم وحضارة منذ فجر التاريخ الإنساني، ولكن الحكام كما الشعوب لم يحافظوا عليها، والغرب لا يمتلك سوى التقنيات الحديثة المبهرة التي يسميها البعض حضارة وهي بالأساس صناعات واختراعات واكتشافات غير غربية نسبت إلى الغرب، لأن تلك الأنظمة عرفت كيف تستفيد من الآخرين وعلومهم ليتحكموا بالعالم في كافة المجالات، والحديث متشعب وذو شجون، وسأكتفي بذلك علني أعود بتفاصيل أكثر في مقالات قادمة.
فهل يستحق المواطن أن يترك أرض أجداده وآبائه؟ وهل سيلتقي الشرق والغرب في عصر العولمة، ليندثرا؟
0 comments:
إرسال تعليق