اليمن بين بلقيس وعلى عبد الله صالح/ نرمين كحيلة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوباً، الإيمان يمان والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم". وفي رواية له أيضاً: "الفقه يمان والحكمة يمانية". ولفظ مسلم قريب من لفظ البخاري. فالحديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ متقاربة منها رواية البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
فقوله صلى الله عليه وسلم:"وأرق أفئدة" أى ألينها وأسرعها لقبول الحق واستجابة للداعى لأنهم أجابوا إلى الإسلام بدون محاربة للين قلوبهم .. وقوله: "ألين قلوبًا" وفى رواية:"أضعف قلوبًا" أى أعطفها وأشفقها .. وقوله:"الإيمان يمان" أى الإيمان يمانى فنسب الإيمان إلى أصل اليمن إشعارصا بكمال إيمانهم.قال النووى:نسب الحكمة إليهم كما نسب الإيمان.. قال ابن حجر:والمراد بها هنا العلم المشتمل على المعرفة بالله.
وإن المتأمل فى قصة سليمان عليه السلام مع الملكة بلقيس يرى كيف كان اليمن دولة عظيمة لها حضارة عريقة وأهم ما كان يميزها هو الديمقراطية التى كانت تتمتع بها حتى فى عصور ما قبل الميلاد فنجد الملكة بلقيس لما قرأت كتاب سليمان عليه السلام جمعت وزراءها وعلية قومها ، و استشارتهم في أمر هذا الكتاب ، فقالت:" يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون.(النمل 32)" أي : حتى تحضرون وتشيرون . أى أنها أشركت شعبها فى القرار ولم تنفرد به رغم أنهم أوكلوا لها أمرها وفوضوها فى أمورهم وقالوا لها:" نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين" أي : نحن أقوياء قادرين على الحرب ، إن شئت أن تقصديه وتحاربيه. وبعد هذا فالأمر إليك ، مري فينا برأيك نمتثله ونطيعه. وفي ذلك الوقت كانت مملكة سبأ تشهد من القوة ما يجعل الممالك الأخرى تخشاها ، و تحسب لها ألف حساب. فكان رأي وزرائها " نحن أولوا قوةٍ و أولوا بأس شديدٍ " في إشارةٍ منهم إلى اللجوء للحرب والقوة.
إلا أن بلقيس صاحبة العلم والحكمة والبصيرة النافذة ارتأت رأياً مخالفاً لرأيهم ، فهي تعلم بخبرتها وتجاربها في الحياة: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها .
قال ابن عباس : أي إذا دخلوا بلدًا عنوة أفسدوه ، أي : خربوه ، " وجعلوا أعزة أهلها أذلة" أي : وقصدوا من فيها من الولاة والجنود ، فأهانوهم غاية الهوان ، إما بالقتل أو بالأسر. وقال الله عز وجل تعقيبًا على كلام بلقيس وتأكيدًا له:" وكذلك يفعلون "
قال الحسن البصري ، رحمه الله : كانت هي أحزم رأيا منهم ، وأعلم بأمر سليمان ، وأنه لا قبل لها بجنوده وجيوشه ، وما سخر له من الجن والإنس والطير ، وقد شاهدت من قضية الكتاب مع الهدهد أمرًا عجيبًا بديعًا ، فقالت لهم : إني أخشى أن نحاربه ونمتنع عليه ، فيقصدنا بجنوده ، ويهلكنا بمن معه ، ويخلص إليَّ وإليكم الهلاك والدمار دون غيرنا ; ثم عدلت إلى المهادنة والمصالحة والمسالمة ، فقالت" : وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون" أي : سأبعث إليه بهدية تليق به وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك ، فلعله يقبل ذلك ويكف عنا ، أو يضرب علينا خراجًا نحمله إليه في كل عام ، ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا . قال قتادة : رحمها الله ورضي عنها ، ما كان أعقلها في إسلامها وفي شركها!! علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس .
وقال ابن عباس : قالت لقومها : إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه ، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه .
وقد كان قوم بلقيس يعبدون الأجرام السماوية والشمس على وجه الخصوص ، و كانوا يتقربون إليها بالقرابين ، و يسجدون لها من دون الله ، و هذا ما لفت انتباه الهدهد الذي كان قد بعثه سليمان - عليه السلام- ليبحث عن موردٍ للماء.. كانت حينها جالسة على سرير مملكتها المزخرف بأنواع من الجواهر واللآلئ والذهب مما يسلب الألباب ويذهب بالمنطق والأسباب. أى أن عرشها وملكها لم يجعلها تتمسك بالحكم وتغلبه على العقل والمنطق فآثرت حماية شعبها من الهلاك والدمار وحقن دمائه"
ويبدو أن منهج الديمقراطية التى سارت عليه بلقيس كان معمولا به ليس فى عهدها فقط بل فى العهود التى سبقتها والتى تلتها.. ترى لو كان الهدهد يعيش فى عصرنا الحالى ورأى الرئيس على عبد الله صالح فماذا كان سيقول لسليمان عليه السلام؟ هل كان سيقول له رأيت رجلا لا يرحم شعبه ويعبد كرسى الحكم ، هل كان سيقول له رأيت رجلا ديكتاتورًا يقتل الأبرياء الذين يطالبون بالحرية؟ ترى ماذا لو علم سليمان عليه السلام بهذا؟ هل كان سيستدعى الرئيس على ويحاكمه على فعلته؟ أم كان سيحضر عرشه ويقول له اتقى الله فى هذا الكرسى؟
إن الملاحظ أن الله سبحانه وتعالى لم يعذب قوم بلقيس رغم أنهم كفار لأن مملكتهم قائمة على العدل والشورى.. قال العلماء: إن الله تبارك وتعالى ينصر الدولةَ العادلةَ ولو كانت كافرة ، ويُهلك الدولة الظالمةَ ، ولو كانت مسلمة.
يعنى نحن العرب عرفنا الديمقراطية والشورى بمعناها الحق قبل أن تعرفها أوروبا وأمريكا فى العصر الحديث ، أليس من العيب أن نكون فى القرن الواحد والعشرين ويتسم حكامنا بالديكتاتورية ؟ أليس من العيب أن يعلمنا الغرب معنى الديمقراطية وقد أتى الاسلام بمبدأ الشورى وسبق بذلك كل ديمقراطيات العالم الحديث؟ ترى لو كان شعب الملكة بلقيس طلب منها التنحى هل كانت ستمتنع؟ إن الحكام العرب لا يستفيدون من التاريخ ولا من قصص القرآن ويوقعون أنفسهم وشعوبهم فى مهالك وأخطار حين يتركون دولا أجنبية تغزو بلادهم فى سبيل عدم ترك عروشهم.
0 comments:
إرسال تعليق