مَرَت المحادثات الفلسطينية الفلسطينية في طُرقٍ وعرة ومسالك صعبة ، وقد تجاوزت منزلقات ومطبات ، حيثُ كانت الضغوط الإقليمية والدولية ثقيلة ، على حركتي فتح وحماس اللتين شكلتا طرفي الإختلاف والإستقطاب في الساحة الفلسطينية ، فكانت الضغوط الأمريكية والإسرائيلية والمصرية تفرض على الطرفين المتحاورين ، كلاهما أو أحدهما ، في كثير من الأحيان ، المقاطعة والإبتعاد ، أو خفض مستويات الضخ المعنوي للفلسطينيين الذي من شأنه أن يخفض مستوى الإرتقاء في النضال الفلسطيني ، في كافة الساحات ، وعلى كلّ المستويات ، وتؤمن من جهة أخرى ، خدمة فائقة لمجريات السيطرة الإسرائيلية ، وتحقيق مستلزماتها الإحتلالية . الإنقسام بالساحة الفلسطينية أضعف من شأن القضية الفلسطينية ، ووضعها في مرتبة غير لائقة بها ، لا تناسب حقيقتها كأهم قضية عربية في التاريخ العربي المعاصر .
ومن الأهمية بمكان ذكر التجاذبات الداخلية في الساحة الفلسطينية ، والإصطفافات ذات الطابع الإنتهازي لبعض الفصائل الفلسطينية التي ارتضت الإصطفاف خلف إحدى الحركتين ( فتح وحماس ) ، وكما أنّ البيئة السياسية الإنشقاقية أوجدت مناخات لظهور أفراد أو فئات في كلا الجانبين ، يستندون في مواقفهم الى نزعات فردية ، ومصالح انتهازية ، أو يخضعون لأجندة خارجية ، سياسية أو دينية ، يقفون ضدّ إعادة اللحمة الفلسطينية .
في بيئة الإنقسام الفلسطيني نمت مجموعات وفئات عملت على تعزيز الإنشقاق ، وحاولت إبقائه لأطول مدىً ، لأنه في البيئة المنقسمة يقوى البعض الإنتهازي ويكبر وينمو ، وقد يضعف البعض المبدئي ويذبل وينذوي ! هي معادلة تستند الى تماسك الهيكليات التنظيمية ، وقوة القوانين الناظمة وآلياتها التعبيرية.
انّ الوصول الى الذروة في الإتفاق ، أي الوصول الى منصة التوقيع عليه من قبل القيادتين الفتحوية والحمساوية ، يعني بالتأكيد الوصول الى وحدة البنية التنظيمية الفلسطينية القائمة على أساس تحالفي إئتلافي وحدوي ، فرضته مقتضيات النضال الفلسطيني في مرحلتة التحررية . وهذا يعني أن الاتفاق سوف يشمل السلطة الفلسطينية الموحدة ، في الضفة والقطاع ، كما يشمل هيكليات منظمة التحرير الفلسطينية ، حيثُ ينبغي أن تشارك جميع الفصائل الفلسطينية على أساس إئتلاف وطني ، تحكمه علاقة توازن القوى الجديدة للفصائل والحركات الفلسطينية ، التي أثبتت حضورها السياسي والتنظيمي ، داخل الوطن وخارجه .
انّ التوقيع على الإتفاق الفلسطيني يعتبر بداية لفصل جديد في العلاقات الفلسطينية الفلسطينية ، لأنّ الضرورات الوطنية باتت تفرض ذلك ، وليست الأزمات التي تعاني منها الحركتين ( فتح وحماس ) كما يحلو للبعض أن يقول ! لأن الواقع الفلسطيني يستمدّ قوته ، في هذه القضية ، من قوة الحراك الشعبي الفلسطيني ، ومن قوة الواقع العربي الجديد الذي حقق بانتصاراته على الأنظمة العربية المرتبطة بالمصالح الأمريكية والصهيونية نقلة تاريخية في الصراع العربي الإسرائيلي ، فأطراف المعادلة الفلسطينية يندفعون بقوة الوضع العربي الجديد . وبات من نافلة القول : أن الخاسر الأكبر من الإتفاق الفلسطيني الفلسطيني هي اسرائيل ، والولايات المتحدة الأمريكية ، اللتان تفاجأتا بالإتفاق كما فاجأتهما الثورتين التونسية والمصرية . على حين غرّة ، أعلن القيادي في حركة فتح عزام الأحمد ، وموسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس ، التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق المصالحة الذي لاقى ترحيبا فلسطينياً وعربياً وأوروبياً ، فقد وجدت فيه أوروبا مخرجاً مناسباً للاعلان عن اعتراف دول الإتحاد الأوروبي بالدولة الفلسطينية ؛ وقال دي روسا رئيس وفد البرلمان الأوروبي ، يوم الخميس " ان على الإتحاد الأوروبي أن يرحب بهذه المصالحة التي من شأنها أن تسمح للفلسطينيين بالتحدث بصوت واحد ..." ويوم السبت رحبت فرنسا على لسان متحدث باسم الخارجية الفرنسية ( برنار فاليرو ) باعتزام مصرإعادة فتح الحدود بصورة دائمة مع قطاع غزّة .
لم يعارض الإتفاق إذن إلاّ اسرائيل وبعض الأخوان المسلمين في الخارج ؛ فقد أعلنت اسرائيل ، دون مواربة عن امتعاضها ، بل عبرت عن غضبها من الإتفاق . مباشرةً أطلق نتنياهو تهديداً لمحمود عباس ، رئيس السلطة الفلسطينية ، بأنّ عليه أن يختار ما بينَ اسرائيل أو حماس ! وكان الإتفاق الفلسطيني قد أحدث حالة من الإرباك في الحكومة الإسرائيلية ، وترافق الإرباك الإسرائيلي باطلاق عدّة احتمالات قد تقوم بها الحكومة الإسرائيلية كردٍ على الإتفاق الفلسطيني بين فتح وحماس ، وأولى الإحتمالات : رفض المفاوضات مع الحكومة الفلسطينية المرتقبة ، وعرقلة إقامة دولة فلسطينية من جانب واحدٍ ، ثمّ إعادة مسار الإنسحاب من بعض القرى بالضفة الفلسطينية ، كذلك من جانب واحد ، كما انسحب شارون من قطاع غزّة ، أي دون عقد اتفاق سياسي مع السلطة الفلسطينية ، انّ تلك المخاطر التي تلوح بها اسرائيل مع حجم من الضغوط على محمود عباس من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ، قد تحقق تراجعاً دراماتيكياً ، قد يطيح بالأمل الفلسطيني ، وهذا ما دعى اليه محمود الزهار أحد قادة حركة حماس ، بعد صلاة يوم الجمعة ، في تنبيهٍ لأبي مازن بألاّ يسمح للمعارضة الخارجية ، خاصةً للولايات المتحدة الأمريكية للتأثير عليه !
باعتقادي أن الخطر الذي قد يأتي من الداخل التنظيمي ( الحركي أو الفصائلي ) ليسَ أقلَّ خطورة من الخطر الخارجي ! لفت نظري مقال لأحد المحسوبين على حركة حماس في بريطانيا ، يدعو فيه الى التزام الموقعين على الإتفاق الفلسطيني بشروط حماس التي كان قد أعلنها في مقال سابق عام 2009 . معتبراً أنّ المأزق الذي تمر فيه حركتي فتح وحماس هو الذي جعلهما يوقعان على اتفاق المصالحة في القاهرة الذي سمّاه (اتفاق المأزق ) ! لكن الواقع يؤكد بما لايدع مجالاً للشك ، أن فتح وحماس ينبعثان من جديد بقوة الإنتصارات الشعبية العربية في مصر وتونس ، وبقوة الحراك الشعبي الفلسطيني .
والواقع يؤكد أن الإتفاق التاريخي المذكور قد فاجأ تشكيلات تنظيمية في هذا الفصيل أو هذه الحركة ، كما فاجأ اسرائيل ، وأن تلك التشكيلات التنظيمية لا تستطيع أن تمتثل لضوابط الضرورات الوطنية الفلسطينية حتى لو كُتبت الإتفاقيات بماء الذهب ، وشهدت عليها الدنيا بأسرها ، حسب ما ورد في مقالة المعارض الإسلامي إياها !
كاتب فلسطيني مقيم في السويد
0 comments:
إرسال تعليق