ليست مجرد أزمة رواتب فلسطينية/ نقولا ناصر

("أزمة الرواتب" مناسبة للتذكير بان مليارات المانحين إنما كانت "تكافئ" الانقسام الفلسطيني وتموله وتكافئ الاستسلام والرضوخ لأجندة دولة الاحتلال وأجندة المانحين)

ان "أزمة" رواتب موظفي سلطة الحكم الذاتي الإداري الفلسطيني غير المدفوعة حتى الآن هذا الشهر تؤكد مدى هشاشة هذه السلطة، المصرة على بيع وهم بناء مؤسسات دولة بلا أرض تحت الاحتلال المباشر، ومدى ارتهانها لأهواء دولة الاحتلال الإسرائيلي وقادتها من ناحية، ول"كرم" المانحين الدوليين الذين لا يمكن الثقة في براءة اهدافهم السياسية من تحويل حصة الفرد الفلسطيني إلى واحدة من أكبر حصص المنح الدولية في العالم من ناحية أخرى، فهذه "الأزمة" تبدو فجأة وكأنما تمزق بقسوة كل الصورة الزاهية التي يرسمها المانحون لنمو الاقتصاد الفلسطيني تحت الاحتلال، بشهادات "كفاءة" حديثة من البنك وصندوق النقد الدوليين والأمم المتحدة تشهد أيضا بأن هذه السلطة تكاد تصبح مؤهلة للتحول إلى دولة مستقلة تحت الاحتلال أيضا.

وإذا كان الأركان الحاليين للسلطة الفلسطينية قادرين على خداع أنفسهم بمثل هذه الشهادات، فإن الراعي الأميركي لكل عملية الخداع هذه، الذي يقف وراء إصدار مثل هذه الشهادات كي تستمر عملية الخداع دون توقف، ليس معروفا عنه أنه يشتري الأوهام، بل المعروف عنه أن يبيعها، وبالتالي فإنه لا ينخدع، مثلا، بما ينشر عن معدلات للنمو الاقتصادي الفلسطيني تحت الاحتلال، تحسده عليه معظم دول العالم عندما تقرأ في الشهادات إياها بأنه ارتفع من ثمانية في المئة عام 2008 إلى تسعة وثلاثة أعشار في المئة العام الماضي ومثله العام الحالي بينما تتوقع خطة رئيس وزراء حكومة تسيير الأعمال في رام الله، د. سلام فياض ل"تأسيس الدولة وبناء مستقبلنا" - - التي سيقدمها إلى مؤتمر المانحين الثاني في باريس في حزيران / يونيو المقبل بعد أن قدمها في بروكسل الشهر الماضي إلى "لجنة تنسيق المساعدات المقدمة إلى الشعب الفلسطيني" - - أن يرتفع هذا المعدل إلى (12) في المئة بحلول عام 2013.

فالأميركي يعرف بأن كل الحديث عن معدلات النمو هذه لا يخفي حقائق مثل أن "مستوى المعيشة الشامل يظل قريبا من مستوياته قبل بدء الانتفاضة الثانية في سنة 2000"، وأن "السلطة الفلسطينية سوف تظل تعتمد بقوة على معونة المانحين لاحتياجات ميزانيتها" بالرغم من ضخ "أكثر من ثلاثة بلايين دولار أميركي من مساعادات المانحين الخارجية المباشرة في ميزانية السلطة منذ عام 2007" - - حسب الموقع الالكتروني لوكالة المخابرات المركزية الأميركية "سي آي إيه" على شبكة الانترنت - - ضمن أكثر من سبعة بلايين دولار أميركي تعهد بها المانحون على مدى ثلاث سنوات في مؤتمرهم الأول في العاصمة الفرنسية في أواخر عام 2007 واعتبروها "مكافأة تستهدف تقوية أؤلئك الفلسطنيين الذين يحبذون التعايش السلمي مع إسرائيل".

وآخر من يمكن أن تخدعه الأوهام هم عمال فلسطين طبعا، فهم الأقرب إلى النبض الوطني للأغلبية الساحقة من شعبهم، وهم آخر من يمكن أن تشتريهم "مكافآت" المانحين، كما أكد المؤتمر النقابي الفلسطيني الأول لمقاطعة دولة الاحتلال آخر نيسان / أبريل الماضي، الذي أعلن عن تأسيس الائتلاف النقابي الفلسطيني لمقاطعتها، حيث تجسدت في المؤتمر والائتلاف على حد سواء الوحدة الوطنية والنقابية كلتيهما، إذ كانت كل الفصائل الرئيسية سواء المنضوية في إطار منظمة التحرير أم تلك التي تعد المصالحة الأخيرة بانضمامها إليها ممثلة فيهما، في حدث تاريخي أظهر الإجماع الوطني على "حقوق شعبنا غير القابلة للتصرف حسب القانون الدولي"، وأعاد التأكيد على وحدة الحركة النقابية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، وأظهر زيف المراهنة على وجود "معسكر سلام" في دولة الاحتلال عندما دعا المؤتمر كل النقابات الدولية إلى قطع كل علاقاتها مع "الهستدروت" (الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية) الذي أيد العدوان الشامل على قطاع غزة عام 2008/2009 ودافع عن المجزرة الإسرائيلية ضد أسطول الحرية في آخر مثل هذا الشهر من العام الماضي.



إن "أزمة الرواتب" مناسبة للتذكير بان مليارات المانحين إنما كانت "تكافئ" الانقسام الفلسطيني وتموله وتكافئ الاستسلام والرضوخ لأجندة دولة الاحتلال وأجندة المانحين الذين أعفوها من أعبائها المالية كقوة قائمة بالاحتلال بموجب القانون الدولي، وأن هذه الأزمة سوف تتفاقم لتتحول إلى عقوبة جماعية لأي وحدة وطنية مثل تلك التي جسدها عمال فلسطين في مواجهة الاحتلال، أو أي حكومة وحدة وطنية مثل تلك التي مول المانحون الانقلاب عليها وعلى نتائج الانتخابات التشريعية التي جاءت بها والتي مولوا هم أنفسهم إجراءها وراقبوها وشهدوا على نزاهتها عام 2006.



لقد نسب رئيس نقابة العاملين في الوظيفة العمومية، بسام زكارنة، إلى سلام فياض، وصفه للنقابة بأنها "مبتدأ لخبر صاغه (رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين) نتنياهو" ردا على دعوة مجلس النقابة إلى اجتماع طارئ في السادس عشر من الشهر لمناقشة "الخطوات المناسبة" ردا على عدم صرف رواتب أكثر من (170) ألفا توظفهم السلطة، ليرد زكارنة على فياض بالتساؤل عمن "هو الفاعل لفعل يطلبه البنك الدولي"، في ملاسنة علنية ضمن اتهامات لفياض بافتعال أزمة رواتب من أجل البقاء في منصبه بعد اتفاق المصالحة بين حركتي "حماس" و"فتح" خصوصا بعد أن نفى مستشاره الاقتصادي عزيز أبو دقة عدم كفاية الأموال في خزينة السلطة لدفع رواتب الشهر الجاري واتهام رئيس كتلة فتح في المجلس التشريعي عزام الأحمد لادعاء فياض بالعجز عن دفعها بأنه "خداع"، وسط جدل إعلامي واسع حول الرواتب إلى "أزمة" وطنية عامة جديرة بتهديد فياض واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بالشكوى إلى مجلس أمن الأمم المتحدة من أجل "التدخل" لإجبار حكومة الاحتلال على دفع اقتطاعات الضرائب والرسوم المستحقة للسلطة بموجب الاتفاقيات الموقعة مع منظمة التحرير التي اتخذ امتناع دولة الاحتلال عن دفعها حجة لعدم دفع الرواتب وتحويل عدم دفعها إلى أزمة وطنية عامة.



وهي أزمة تدفع أي مراقب إلى التساؤل عمن له مصلحة في تضخيم إجراء ليس هو الأول من نوعه ولن يكون الأخير اعتبرته دولة الاحتلال "بطاقة صفراء" يمكن أن تتحول إلى "بطاقة حمراء"، كما قال وزير مالية دولة الاحتلال يوفال شناينيتز، لشركائها الفلسطينيين في "عملية السلام" بأن عليهم أن يختاروا بين السلام الفلسطيني الوطني وبين السلام معها، كما أنذرهم نتنياهو نفسه!



إنها حقا "لحظة الحقيقة" التي تضع أي تظاهر بالحرص على الوحدة الوطنية أمام امتحان فاصل لم تنجح فيه منظمة التحرير والسلطة عام 2007 بينما تشير كل الدلائل الإسرائيلية والأميركية إلى أنها تريدهما الرسوب فيه ثانية هذه المرة، وليس "لحظة الحقيقة" لامتحان نخوة الشقيق العربي للوفاء بتعهداته المالية لهما كما أوحى فياض يوم الأربعاء الماضي عندما ناشده مستغيثا: "أنقذونا .. نحن بحاجة إلى مساعدتكم أكثر من أي وقت مضى"، لأن الوحدة الوطنية الفلسطينية هي الأساس الموضوعي لامتحان نخوة الأشقاء العرب، ولأن إعادة صياغة استراتيجية فلسطينية تعيد القضية الفلسطينية إلى حضنها العربي والاسلامي شرط مسبق لامتحان كهذا بعد عقدين من الزمن تقريبا ارتهنت فيها هذه القضية للاتفاق الثنائي مع دولة الاحتلال ولكرم المانحين الذين أقاموا دولة المشروع الصهيوني ودعموها وحموها منذ النكبة عام 1948.



* كاتب عربي من فلسطين

nicolanasser@yahoo.com*

CONVERSATION

0 comments: