ما يروجه بعض الدعاة/ صالح خريسات


منذ أن نزلت الآية: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً" البقرة 29. استقر رأي الفقهاء على قاعدة تشكل منطلقاً أساسياً في التفكير الإسلامي، هي أن الأصل في الأشياء الإباحة، على اعتبار أنه ليس معقولاً أن يسخّر الله هذا الكون للإنسان، ثم يحرّمه عليه. ومن هنا ضاقت دائرة المحرمات في الشريعة الإسلامية، ضيقاً شديداً، واتسعت دائرة الحلال اتساعاً بالغاً، وبقيت النصوص الصريحة التي جاءت بالتحريم قليلة جداً، وما لم يرد نص بحله أو حرمته، فهو باق على أصل الإباحة وفي دائرة العفو الإلهي. والإباحة هنا تشمل العفو والتصرفات التي ليست من أمور العبادة، وقوله تعالى: "وقد فصل لكم ما حرم عليكم"، عام في الأشياء والأفعال، وفي الحديث الشريف: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فأقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً". رواه الترمذي. المشكلة هنا من يملك حق الحرمة والتحريم فيما لم يرد فيه نص صريح؟ ومتى يكون المسلم على حق في قبول تلك الفرمانات أو رفضها؟ ومن يملك حق محاسبته عليها؟.
إن مقولة شمول القرآن الكريم لكل شيء، ينبغي أن يستقبل بغير مبالغة، وأن توضع في إطارها الصحيح، والبيان الإلهي: "ما فرطنا في الكتاب من شيء" الأنعام 38, ينصب بالدرجة الأولى على الكليات والإطار العام لحركة الإنسان والمجتمع، وأما التفاصيل والجزيئات اللامتناهية، فأمرها قد ترك للمسلمين، يعالجونها حسب مقتضيات ومصالح كل زمان ومكان.
وقد تقرر هذا المبدأ الهام من خلال الممارسات الشجاعة والواعية، التي تصدى لها النبي عليه السلام وصحابته من الفقهاء ومن نماذج ذلك النهي عن قطع يد السارق في الغزو، وسقوط حد السرقة أيام المجاعة، وإيقاف نصيب المؤلفة قلوبهم من الزكاة، وإنكار ابن تيمية على من أستغربهم شرب عسكر التتار للخمر في الشام، بل وإقراره لسلوك هؤلاء العسكر، "لأن الخمر تصدهم عن قتل النفوس وسبي الذرية والأموال" وهو يقول: "إنما نهانا الله عن شرب الخمر لأنها تصدنا عن الصلاة فدعوها تصدهم عن قتالانا".
إن ظاهرة تكفير المجتمعات الإسلامية المعاصرة، لأنها تحكم بقوانين وضعية، ظاهرة غير صحيحة، ويستدل منها على الأفق الضيق لصاحب الفتاوى، فهو يقرأ: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فاؤلئك هم الكافرون" المائدة 44.
وأكثر ما يلفت النظر في الأوهام المزاحمة للتفكير الإسلامي، ظاهرة أخذ المعرفة عن طريق السماع، عن الخطباء والوعاظ، والاستخفاف بآراء الأئمة المجتهدين، والتسليم يحق الاجتهاد المطلق لزعاماتهم في حركاتهم. فالتفكير الإسلامي يرفض عبادة النصوص فضلاً عن التطبيق الأعمى لها، ولمبدأ تغيير الفتوى واختلافها باختلاف الأزمنة والأمكنة مكانة عند فقهاء المسلمين، وكتابات ابن القيم بشأنها غاية في النضج والاستنارة.
إن تجربة الرسول عليه السلام، التي هي المرشد الأول في التطبيق الإسلامي، ينبغي أن تظل في مكانها من الإكبار والإجلال عند كل مسلم، لكنها لا تلزم المسلمين إلا في حدود معينة، إذ ليس صحيحاً ما يروجه بعض الدعاة، من أن كل ما صدر عن رسول الله عليه السلام قول أو فعل أو إقرار، يعد فريضة واجبة الإتباع. إن التفرقة ضرورية بين ما صدر عنه عليه السلام باعتباره رسولاً ونبياً، وبين ما صدر عنه باعتباره إنساناً له تجربته الدنيوية وحياته الخاصة. ومن رأي ابن تيمية: "أن الأنبياء معصومون عما يخبرون به عن الله تعالى وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأئمة". ومما كتبه ابن حزم في "الفصل في الملل والأهواء والنحل"، أنه "قد يقع من الأنبياء قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى، فيوافق خلاف مراد الله تعالى، وأنه سبحانه لا يقرهم على شيء من هذا أصلاً، بل ينبههم إلى ذلك أثر وقوعه منهم، ويظهره لعباده، وربما نبههم على ذلك بالكلام", فما صدر عن النبي باعتباره مبلغاً وأوحي إليه من الله سبحانه وتعالى، واجب الإتباع والإلزام، وما دون ذلك، فقد يكون مستحباً. وقصة تلقيح النحل الشهيرة، تعبر عن ذلك بوضوح.

CONVERSATION

1 comments:

الكاتب رائد علي العمايرة يقول...

ايها الكاتب لماذا لا أراك الا وانت تخوض في دين الله تعالى من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير ،وكأنك لا تجد مطية الى العلمانية إلا أن تطعن في الدين ،مستغلا جهل المسلمين بدينهم ،ومتأبطا بعض الفذلكات اللفظية التي تنفثها من قلمك والذي سخرته لإضلال العباد ، لماذا لا نجد هذا الحماس لديك في التدخل بدين النصارى واليهود اليست العلمانية ضد كل الأديان والقيود ،أم أن علمانيتك الراسخة تأبى عليك إلا أن تخوض في دين الإسلام ، قبل هذا المقال الإفك تكلمت في المتحجبات وطعنت في نياتهن وأخلاقهن ،وفي مقال آخر لم يسلم منك حتى الدكتور الطيب زغلول النجار وهو الذي لا يتكلم الا في دلالات القرآن على العلوم الطبيعية ولا يخوض في المسائل الاجتماعية أو السياسية حتى يستفز فيك علمانيتك فاستهزأت به وقولته من الكلام ما لم يقله وافتريت عليه أعظم الفرى ،وهاأنت اليوم تتكلم عن آية الإباحة فتدخل فيها الحكم بغير أنزل الله تعالى ،وتنسى أن آية الإباحة عامة في منافع الناس ،ويخرج منها ما خصص بدليل صريح ،وتخلط قصة تلقيح النحل في مسائل العقيدة وشكل الحكم ، أتبيح للناس الحكم بغير ما أنزل الله ،ألا تعلم أن هذا يدخل في الاستحلال الذي هو من أعظم الذنوب ، كيف تقرر أن أمرا معلوما من الدين بالضرورة لا يلزم المسلمين القيام به ويكونون فيه على الخيار ،ألا تعلم ايها الرجل إن دين الله متين ،وأنت تأتي منه بما لا قبل لك به ،وتفتري على الله وتخلط العام بالخاص وتبيح على هواك ،ولو فندت مقالك هذا لأخرجت منه طامات ،ولأخذ من الشرح ما ما ينوف عن خمسة أضعاف حجمه ،ولنقضت غزلك الذي غزلته لتضل الناس عن سبيل ربهم ،فاتق الله يا رجل ولا تخض في دين الله من غير علم ،وتب الى الله مما اقترفته فقد هدمت الدين وأنت تشعر أو لا تشعر ، فتب الى الله قبل ان يأتي يوم تندم فيه ولا ينفعك الندم بين يدي رب العالمين .