تابعت كغيري احداث تفجير كنيسة (امبابة) المصرية وما تلاها من اشتباكات وصدامات دموية وتألمت كثيراً لما لهذه الأحداث من انعكاسات سلبية وآثار ضارّة ومدمرة على النسيج الاجتماعي وعلى العلاقات بين الأطياف والأديان . انها أحداث تنذر بحريق كبير وهائل سيحرق الأخضر واليابس ويدمر المجتمع المصري ويذكي نار الفتنة الطائفية القاتلة.
وفي حقيقة الأمر ان ما يجري في مصر من احراق الكنائس في الاسكندرية وطنطا وتفجير كنيسة امبابة ، ليس صراعاً بين المسلمين والمسيحيين ، بل هو صراع فكري بين توجهين وتياريين فكريين على طرفي نقيض ، الأول الفكر العلماني التنوري والتقدمي المعني بالحضارة والتقدم ومواكبة العصر والعلم والمساواة في المجتمع ، والذي يرى في الدين عقيدة ورحابة صدر وسماحة وعدالة ورأفة ورحمة ومحبة بين الناس وانفتاح على الديانات السماوية والثقافات المعاصرة المختلفة ، ويدعو الى الاجتهاد والجدل و"فصل الدين عن الدولة".والآخر هو الفكر السلفي الظلامي الرجعي الاخواني المتعصب ، الذي تتبناه الجماعات الأصولية المتأسلمة وتيارات "الاسلام السياسي" التي ترى في الدين ايديولوجيا وتعمل على تسييسه وتستغله لخدمة اهدافها المبيتة ، وترفع السيوف وتطلق الرصاص في وجه كل من يخالفها الرأي والايمان والعقيدة ، وترمي أي معارض ومناهض لتوجهاتها وأفكارها بالكفر والالحاد والمروق . كما تعتدي على الحريات وتقمع الفكر والوعي النقدي وتحرّم الاجتهاد وتحرق المسارح وتصادر الكتب وتحجب أهداب النور ، وتغتال أصحاب الفكر العلماني الحر مثلما فعلت مع فرج فودة ،الذي كان يحذر بشدة من اشتعال الفتنة الطائفية والدينية ، وخاض المعارك الفكرية الشرسة والعنيفة ضد هذه القوى، التي تهدد المجتمع المصري والعربي وتشكل خطراً داهماً على مستقبل مصر والوطن العربي.
ورغم ان مصر مرّت في أكثر من مائة وعشرين عاماً من التنوير ، لكن الواقع الثقافي والفكري فيها مختلف ومتخلّف عما كان عليه قبل نصف قرن ونيّف . فالأسئلة التي طرحت أمام أئمة النهضة ورواد الفكر الاصلاحي التنويري النقدي والعقلاني في عصر النهضة ووضعوا الأجوبة عنها ،لا تزال تطرح من جديد وعلى المستوى نفسه . وعليه فان مصر اليوم تحتاج لطرح سعد زغلول الذي بلوره بخصوص الوحدة الوطنية أن "الدين لله والوطن للجميع" دون أن يمس ذلك المشاعر الدينية . وبحاجة الى فكر الاصلاح والتجديد والاجتهاد الديني المتنور كما جاء في فكر وطروحات وأدبيات الشيخ محمد عبده وزملائه . وأيضاً بحاجة الى قاسم امين لتحرير المرأة ، دون الدخول في متاهات وسفسطات فقهية أو فلسفية او فكرية.
وغني عن القول، ان ممارسات ومسلكيات القوى الدينية السلفية المتطرفة والمتشددة ، تشوه جوهر الدين الاسلامي الحقيقي وصورته الزاهية . وهذه القوى لا تقدم برنامجاً أو مشروعاً اجتماعياً واقتصادياً حين تطرح تطبيق الشريعة واقامة الدولة الدينية على أساس "الاسلام هو الحل" . وانه يجب عدم المزج بين الدين والسياسة حتى لا تتحول العقيدة الى أيديولوجيا ، فالاصلاح الحقيقي والاحياء الفعال لروح الاسلام يبدأ بالفصل بين الدين والسياسة . والسبيل للحياة المشتركة بين جميع الأديان والطوائف هي تأسيس دولة مدنية عصرية وحضارية وديمقراطية ، تحترم التعددية وتنتصر للعقلانية والعدالة الاجتماعية .
وفي الاجمال ، اننا أمام اتجاهين وخطين وطرحين متناقضين ، ومن حق كل اتجاه أو طرف أن يطرح ما يشاء من مواقف ورؤى وأفكار واجتهادات وأحلام وأوهام ، لكن بدون ارهاب فكري قمعي بالسكين والرصاصة وفوهة البندقية ، وانما بالسجال والجدل الحضاري ، واحترام وجهات النظر المغايرة ، وحرية الفكر والخلاف والاختلاف والتنوع والمعتقد الديني . وواجب كل المتنورين والتقدميين والعقلانيين والمثقفين النخبويين في المجتمع المصري الوقوف في وجه الطائفية واخمادها ووأدها وهي في المهد ، ولعن الله مشعلي الفتن وهي نائمة.
0 comments:
إرسال تعليق