لأجل عقلنة وعلمنة التراث..!!/ شاكر فريد حسن

تحتل قضية الموقف من التراث العربي الأسلامي محوراً خاصاً في الأجندات والحوارات الفكرية والسجالات الفلسفية بين المثقفين والمفكرين العرب لما للتراث من أهمية، كعامل أساسي في احداث التغيرات والتحولات البنيوية والجذرية في مجتمعاتنا العربية ، التي تسودها مظاهر الجهل والتخلف والفقر الثقافي والفساد ونزعات التعصب والفئوية والتفكك الداخلي . وتأسيساً على ذلك فأن مفكري وفلاسفة النهضة الثقافية والاجتماعية والعلمية العربية في أوائل القرن العشرين الماضي ، صاغوا مشروعاً تنموياً ثقافياً وحضارياً يجمع بين التراث ومنجزات الحضارة الاوروبية والعالمية، لأجل تأسيس وبناء حضارة عربية حديثة ومعاصرة . ولعل طروحات ومواقف وكتابات الطهطاوي وشبلي شميل وأديب أسحق وفرح أنطون وبطرس البستاني وطه حسين ومحمد رشيد رضا وأحمد لطفي السيد وغيرهم ، هي نماذج أصيلة وراقية وتجسيد حقيقي للثقافة الديمقراطية الانسانية المعاصرة وللقيم العلمانية المتنورة التقدمية.
وفي حقيقة الأمر فأن القوى والجماعات الدينية الأصولية الجامدة والمتزمتة ترى نفسها مالكة وحامية ووصية على التراث الديني والثقافي ، فتفسره وتستخدمه وتستغله كيفما تشاء، وتتخذ موقف القداسة في التعامل والتعاطي معه ولا تقبل النظرة النقدية والرؤية التجديدية , ووفق معتقداتها لا يجوز المساس بهذا التراث لأنه من المسلمات وغير خاضع للتأويل والأجتهاد. وعلى النقيض هنالك أوساط من المثقفين والمفكرين والتنويريين العرب تتبنى النظرة الثورية والعلمية الأنتقادية للتراث وتدعو الى حمايته وصيانته وتجديده وعقلنته والأستفادة منه. بالاضافة الى كشف الجوانب المضيءة والاشراقات الانسانية فيه، التي تحض على الثورة ومقاومة الظلم والعبودية والأنسحاق والقهر الاجتماعي والأستبداد ، بكل أشكاله وألوانه في سبيل العدالة الاجتماعي ، وما تراث عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبو ذر الغفاري الا زاداً وسلاحاً حاداً في معركة القوى الثورية الطامحة الى تغيير المجتمع والعالم .
لقد كان للتيارات الايديولوجية اليسارية والماركسية على الدوام دور هام وعظيم في دراسة التراث العربي الثقافي والاجتماعي والديني من خلال منظور علمي تقدمي معاصر. وفي هذا السياق نشير الى عدد من المفكرين والمنوّرين العرب الذين امتلكوا المنهج المادي الجدلي التاريخي ، الذي ساعدهم على فهم الواقع وتناقضاته في ماضيه وحاضره ، وساهموا في كشف كنوز الثقافة العربية الاسلامية والقاء الضوء على عملية تشكيل التاريخ العربي الاسلامي ، ونشوء وتطور الحركات الاجتماعية الثورية ابان عصور الاسلام ،منهم : بندلي الجوزي ورئيف خوري ومحمود أمين العالم وهادي العلوي وحسين مروة وأميل توما ومحمد دكرب وسمير سعد وسواهم كثر .
وما من شك انه في العقدين الأخيرين طرأ تراجع وانحسار لدور قوى اليسار الثوري التقدمي والديمقراطي في الأوطان العربية نتيجة التهميش والبطش والكبت والقمع والارهاب الفكري .وفي المقابل تصاعدت وأنتشرت التيارات الدينية الأصولية والسلفية المعادية للتقدم الانساني والحضارة العالمية وحرية المرأة وللعلم والعقل والثقافة المتنورة والفكر الابداعي المعرفي . وهذه القوى تحاول احتكار التراث وتزعم أن العلمانيين وقوى اليسار الثوري غريبين ثقافياً وروحياً وليسوا لهم جذور في الموروث الديني والقومي. !
لذلك هنالك ضرورة وحاجة موضوعية الى اعادة صياغة التعامل مع التراث وتعميق الصلة بين الماضي والحاضر من أجل استشراف المستقبل المؤكد ، والتمسك بما هو أصيل وحقيقي وانساني وتقدمي وثوري وجميل في التراث العربي والاسلامي، وكشف الصراع الاجتماعي ـ الطبقي الذي يعكسه ويجسده موروثنا . وكذلك تعميق النزعات المادية والعقلانية وتحرير الفكر الديني من قيود التقليد والتزمت والتعصب والانغلاق عدا عن تحويل الدين من سلاح بأيدي الطبقات البرجوازية والرجعية الى سلاح بأيدي القوى الاجتماعية الشعبية المظلومة المستضعفة والمهمشة ضد القاهر والمضطهد والمستبد بهدف تحقيق المساواة والعدالة وبناء صرح المجتمع المدني التعددي الديمقراطي الحضاري، وأيضاً تجد يد تراثنا ليجاري روح العصر، بحيث يشكل أساساً هاماً للنهضة الثقافية والفكرية والمعرفية والتجديدية في عصرنا الراهن.
وأخيراً، فأن رسالة النخب المثقفة ورجالات الثقافة والفكر والقلم أصحاب التوجه والرؤية العلمية في العالم العربي هي محاربة التقوقع الرجعي والانغلاق الديني والدفاع عن العقل والعلم والتنوير ، والعمل على غرس وتجذير الفكر العلمي الجدلي الذي يحترم التراث والعقل ويقدس التجديد والتحديث ، ويؤمن بالديمقراطية والحرية والتعددية وحرية المعتقد والابداع والاجتهاد، ويرفض الزيف والاوهام والخزعبلات والتعاويذ والخرافات الدينية .وزيادة على ذلك انتاج وابتداع ثقافة وطنية ديمقراطية وانسانية ذات ملامح تقدمية ، والمساهمة في صياغة القيم الانسانية والثورية الحديثة، وذلك بالاستناد الى التراث العربي والأسلامي والاغتراف من منابع المعارف الانسانية والاستفادة من انجازات الحضارة.

CONVERSATION

0 comments: