(إن نظرية سقوط حجر الدومينو البحريني الخليجي الأول بضربة طائفية ليس لها أي حاضنة طبيعية أو تاريخية أو شعبية وهي فزاعة مصطنعة لا يروج لها سوى العاملون من أجل لبننة البحرين)
عندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان في سبعينيات القرن العشرين الماضي تركت فراغا مصرفيا سرعان ما ملأته البحرين كمركز مالي أقليمي بديل، لتتحول بصورة مماثلة، بخاصة بعد الثورة على نظام الشاه في إيران، إلى ميدان لتسوية الصراعات الإقليمية والدولية الخاسر الوحيد فيها هو شعب البحرين والمستفيد منها هم فقط المستفيدون من الوضع الراهن، بحيث يكاد البحارنة وطموحاتهم المشروعة في تبادل السلطة ودولة القانون والحريات العامة وحقوق الإنسان يتحولون اليوم إلى ضحايا لبننة البحرين أولا، ثم بعد ذلك ضحايا نظام سياسي يتخذ من العوامل الإقليمية والدولية ذرائع لتغليب الحلول الأمنية على الحلول السياسية لمشاكل مزمنة أقدم كثيرا من الثورة الإيرانية.
لكن تبسيط صورة الصراع للقول إن البحرين قد تحولت إلى "ساحة معركة جديدة في حرب متسعة بالوكالة بين قوتين إقليميتين متنافستين"، هما العربية السعودية وإيران، كما قالت الواشنطن بوست الأميركية في الثاني والعشرين من الشهر الماضي، يفتقد الدقة، إذ بالرغم من أهمية العوامل الإقليمية، فإن هذه العوامل يتم تضخيمها للتغطية على العامل الدولي الأهم المتمثل بالصراع الأميركي – الإيراني الذي استعر بعد سقوط نظام الشاه في طهران الذي كان الأداة الإقليمية الرئيسية للهيمنة الأميركية على المنطقة، وهي الهيمنة المسؤولة الأولى عن طول عمر غياب الديموقراطية إقليميا وليس في البحرين وحدها.
إن المقارنة بين الموقف الأميركي من التصدي للاحتجاجات الشعبية في البحرين وبين هذا الموقف في الأقطار العربية الأخرى التي تجتاحها هذه الاحتجاجات قد تجاوز كثيرا ما هو معروف عن ازدواجية المعايير الأميركية إلى السقوط الأخلاقي وليس السقوط السياسي فقط.
وواشنطن التي أعلنت بلسان رئيسها الحالي باراك أوباما بأنها تخطط لسحب وجودها العسكري من العراق وأفغانستان بعد أن ضمنت قوات احتلالها، كما تعتقد، وجود أنظمة موالية وكيلة عنها في كلا البلدين لا تلمح حتى تلميحا إلى سحب وجودها العسكري من البحرين وشقيقاتها العربيات بالرغم من أن عمر هذا الوجود أطول بما لا يقاس من مثيله في العراق وأفغانستان وبالرغم من كون الأقطار العربية التي تستضيف قواعد هذا الوجود وتسهيلاته العسكرية تحكمها أنظمة مخضرمة في تحالفاتها وصداقاتها مع الولايات المتحدة، لا بل إن واشنطن قد اتخذت من المعارضة الإيرانية لهذا الوجود ذريعة جديدة لإطالة أمد الاحتكار الأميركي للنفوذ الإقليمي نتيجة للرفض الأميركي لأي شراكة أميركية – إيرانية في الخليج العربي على نمط شراكة تقاطع المصالح الثنائية في العراق وأفغانستان.
وفي البحرين بصفة خاصة، تركزت لعبة الأمم هذه بأبعاد دينية يراد لسحابات دخانها الأسود أن تغطي على حقيقة أن "الصراع الأميركي – الإيراني يعبر عن ذاته بطرق مختلفة في البحرين، فمن ناحية للأسطول الخامس الأميركي قاعدة هناك، وهذه دون شك شوكة في خاصرة الجمهورية الإسلامية، ومن ناحية اخرى تسعر إيران لهيب الاحتجاجات، منحازة إلى إخوانها الشيعة في الدين ومنتقدة علنا الملكية البحرينية" كما كتبت "ذى هندو" الهندية في الثامن والعشرين من الشهر الماضي.
إن الرمزية الكامنة في مبادرة السلطات إلى إزالة تمثال (نصب) اللؤلؤة في وسط العاصمة البحرينية المنامة بحجة إعادة التنظيم من أجل تسهيل حركة السير من الناحية الرسمية لكن في الحقيقة لأن إزالته تزيل "ذكرى سيئة" للاحتجاجات الشعبية التي حولت ساحة اللؤلؤة إلى نسخة بحرينية من ساحة التحرير المصرية في القاهرة، كما نسبت الواشنطن بوست الأميركية في الثالث عشر من هذا الشهر لوزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة القول، هي رمزية للنتائج العكسية للحل الأمني الذي لجأت السلطات إليه لمشكلة مزمنة فشلت كل الحلول الأمنية المماثلة السابقة في وأدها إلى الأبد طيلة عقود من الزمن، فهذا النصب كان قد بني في سنة 1982 احتفالا بانعقاد مجلس التعاون لدول الخليج العربية في البحرين، الذي بادر إلى التدخل بقوات "درع الجزيرة" لدعم الحل الأمني بموجب اتفاقية الدفاع المشترك بين الدول الست الأعضاء الموقعة عام ألفين، ولا يمكن طبعا إلا الاستنتاج بأن أغلبية الشعب البحريني لا تختلف مع الشيخ خالد في اعتبار النصب رمزا ل"ذكرى سيئة" أيضا، لكن لسبب مختلف بعد هذا التدخل الذي لا يستطيع البحارنة تجنب المقارنة بينه وبين تدخل مجلس التعاون الخليجي في ليبيا عسكريا وسياسيا وماليا لكن في الاتجاه المعاكس بين الحكم وبين شعبه كطرفي صراع.
لقد كانت مجسات الاستشعار سليمة لدى مؤسس ومدير موقع انتخاب.كوم الالكتروني السعودي تركي فيصل آل رشيد عندما أعرب عن "خشيته" في التاسع عشر من آذار / مارس الماضي من أن "يلصق بتلك القوات (درع الجزيرة) جميع الأعمال الوحشية التي تقع في البحرين أو أن تستغل بعض الأطراف التدخل العسكري في البحرين ... لا لمقاومة النعرات الطائفية في دول الخليج وإنما لإذكائها"، وأي مراجعة لبيانات بعض أطراف المعارضة البحرينية والتصريحات الطائفية الإقليمية المتساوقة معها والمواقف الإيرانية التي تنفخ في رمادها الآن تؤكد صدق حدسه السياسي بشأن النتائج العكسية للدعم الخليجي للحل الأمني الذي استبعد الحوار عمليا للتوصل إلى حل سياسي بالتوافق الوطني لأزمة مزمنة، وهو حل يمثل المخرج الوحيد القادر على تحييد العوامل الإقليمية والدولية على حد سواء وتقليص نتائجها إلى الحد الأدنى، فالحل الأمني عزز المتشددين في الحكم وفي المعارضة، وهؤلاء هم تحديدا من يستقون بالعوامل الإقليمية والدولية ويطيلون أمد أزمة مزمنة ما تكاد تهدأ حتى تنفجر من جديد.
لقد كان لافتا للنظر أن يتحدث القائد العام لقوة دفاع البحرين المشير الركن الشيخ خليفة بن أحمد آل خليفة عن "مخطط غربي" قاد إلى الاحتجاجات الشعبية، ليقول إن "أحداث البحرين كانت جزءا من مخطط أكبر الدور الغربي فيه مكشوف، ونعلم من يزورون السفارات الغربية في البحرين سرا، وقد هزمنا المخطط الغربي"، ومع أنه أعلن بأن الحكم في البحرين كان يتعامل "مع دول لا مع أفراد"، ومع أنه سمى من هذه الدول "إيران وجهات في العراق ودول غربية" لم يحددها بالاسم، فإن النتيجة التي خلص الشيخ خليفة إليها هي أن البحرين هزمت مخططا "غربيا"، لا مخططا "إيرانيا"، وكانت هذه مقدمة لا بد منها كي يؤكد الملك حمد بن عيسى آل خليفة ضرورة "مد اليد إلى أشقائنا في إيران"، ويحذر بأن "السيطرة الإعلامية اليوم ... تريد أن تفرق بين العرب وإيران".
وكانت الخطوة التالية متوقعة، وهي أن ترحب طهران بإجراء مباحثات بحرينية – إيرانية باعتبارها "خطوة طيبة" اتخذها العاهل البحريني كما قال وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي يوم السبت الماضي، الذي سبق له أن زار مؤخرا قطر والإمارات العربية وسلطنة عمان والعراق بشأن الأزمة في البحرين وأعلن بأنه "من المرجح جدا" أن يزور الكويت للغاية ذاتها خلال أيام، ليهنئ نفسه بأن جهوده "الإقليمية" للمساعدة في حل الأزمة في البحرين كانت "فعالة جدا".
والسؤال الذي يفرض ذاته على أي مراقب هو: إذا كان الصراع الدولي (الأميركي بخاصة) – الإيراني هو العامل الخارجي الرئيسي في الأزمة البحرينية، وإذا كانت البحرين تقول إن السبب في هذه الأزمة هو "مخطط غربي"، فكيف سيكون التوجه البحريني نحو طهران، وليس نحو عواصم "المخطط الغربي"، جزءا من الحل، بينما من الواضح تماما أن "السيطرة الإعلامية" الغربية تستثمر الأزمة البحرينية للتحريض ضد إيران بدعوى كونها المحرض الرئيسي عليها وتتخذ منها حجة جديدة لتعزيز دعوتها إلى إقامة جبهة عربية – أميركية - إسرائيلية ضد إيران!
لكن إذا كان التوجه البحريني نحو تفاهم ما مع إيران، وعلاقات البحرين الراسخة مع عواصم "المخطط الغربي"، قد يحيد أهم عاملين خارجيين يغذيان الأزمة الداخلية، فإن الحل الوطني للأزمة هو الضمانة الوحيدة لخلع أسنان أي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية للبحرين، وتحويلها إلى لبنان للخليج العربي تتم على ساحته تسوية الحسابات الإقليمية والدولية، فهذا هو الدرس العربي الأساسي الأوضح في العصر الحديث، وبخاصة بعد ثورة 25 يناير / كانون الثاني في مصر التي أغلقت بالتوافق الوطني كل الأبواب أمام التدخل الخارجي، بينما قاد رفض التوافق الوطني في ليبيا إلى الحرب الأهلية الجارية والتدخل العسكري الأجنبي.
إن قرار مجلس التعاون لدول الخليج العربية بدعم حل آخر، هو الحل الأمني، في البحرين، خشية أن تكون البحرين حجر الدومينو الخليجي الأول الذي يسقط بضربة طائفية، كما تروج "السيطرة الإعلامية" الغربية بعامة والأميركية بخاصة، هو تورط دون وعي في المخطط الطائفي لنشر "الفوضى الخلاقة" الأميركية في الدول العربية كان سيقود إلى نتائج عكسية كما توقع المحلل السعودي تركي فيصل آل رشيد.
صحيح أن هذا المخطط بدأ بفكرة "تصدير الثورة" الإيرانية إقليميا لكنه توقف عمليا مع وقف إطلاق النار في الحرب العراقية الإيرانية، وظل كامنا إلى أن نفخ الاحتلال الأميركي للعراق في رماده، ليتحول عمليا إلى مخطط أميركي أكثر منه إيراني، ومن هنا تقاطع المصالح الأميركية – الإيرانية في العراق وأفغانستان. وهو كذلك قرار وضع مجلس التعاون الخليجي في موضع الاتهام بازدواجية المعايير التي جعلت المجلس ينحاز إلى الشعب ومطالبه في الإصلاح والتغيير في ليبيا لكنه ينحاز ضد الشعب المطالب بالإصلاح والتغيير في البحرين.
وهذه ازدواجية وضعت صدقية أهم وسيلتي إعلام خليجتين، وهما فضائيتا "الجزيرة" و"العربية"، على المحك، فالجزيرة، على سبيل المثال، التي تغطي على نطاق واسع المساهمة القطرية المالية والعسكرية والانسانية في ليبيا لم تنبس ببنت شفة عندما نشرت قطر قواتها المشاركة في درع الجزيرة في البحرين، وما زالت تتبنى الرواية الأميركية التي تتحدث عن صراع سعودي – إيراني في البحرين وليس عن الصراع الأميركي – الإيراني الحقيقي الذي يهدد بلبننة البحرين.
ونظرا لثقل مجلس التعاون الخليجي ووزنه عربيا وإسلاميا وأميركيا، انعكست ازدواجية معاييره على جامعة الدول العربية التي دولت الأزمة الليبية بنقلها إلى مجلس الأمن الدولي لكنها تقف مشلولة إزاء الأزمة في البحرين، وكذلك منظمة المؤتمر الإسلامي التي تأخذ عليها المعارضة البحرينية صمتها المريب بشأن البحرين، والولايات المتحدة التي لم تتردد في تهديد حالات عربية مماثلة بمجلس حقوق الأنسان التابع للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وفرض العقوبات والمطالبات الصريحة ب"تنحي" رؤساء عرب لكنها في البحرين تكتفي بالدعوة إلى ضبط النفس وعدم الإفراط في استخدام القوة دون أي احتجاج على استخدام القوة ذاتها.
إن إندلاع الاحتجاجات الشعبية في البحرين كان وما يزال جزءا لا يتجزأ من الحراك الشعبي العربي الذي يجتاح العواصم العربية منذ بداية العام، وهو التعبير الأحدث عن حقيقة أن البحرين جزء من الوطن العربي الكبير وشعبها بمن فيهم حكامه جزء حيوي من الأمة العربية، فالحركة الإصلاحية البحرينية عام 1920 لم تكن معزولة عن حركة التحرر الوطني العربية بعد الحرب العالمية الأولى، ونادي العروبة الذي تأسس في البحرين عام 1939 يغني اسمه عن أي إيضاح، ومنذ رست أول سفينة أميركية في مياه البحرين عام 1949 أصبحت العروبة واليسار العربي عنوانا للعمل الشعبي والسياسي المعارض في البحرين، ولم يتخذ هذا العمل طابعا دينيا إلا بعد أن أصبح التراث الديني هو الملاذ الأخير للتعبير السياسي بعد تصفية الحركات القومية واليسارية التي انتشرت على نطاق واسع في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين.
وكانت أسماء مثل هيئة الاتحاد الوطني وحركة القوميين العرب والتيار الناصري وحزب البعث العربي الاشتراكي والباكر والشملان والموسى والجشي وفخرو تقود هذه الحركات التي تميزت بزخم شعبي لا يختلف عن الزخم الشعبي الحالي إلا بغلبة الوحدة الوطنية على أي استقطاب مذهبي تحول الآن إلى مقتل لأي حراك شعبي. ففي نهاية المطاف يظل "معظم الشيعة البحارنة فخورين بأنهم عرب .. ويريدون الحفاظ على استقلال بلدهم" عن إيران والولايات المتحدة معا كما كتب باباك رحيمي في مقال نشرته مؤسسة جيمس تاون في الثامن من آذار / مارس الماضي، وكما أثبتوا عندما اختاروا استقلال البحرين عام 1971 في استفتاء أجرته الأمم المتحدة.
إن نظرية سقوط حجر الدومينو البحريني الخليجي الأول بضربة طائفية ليس لها أي حاضنة طبيعية أو تاريخية أو شعبية في البحرين، وهي فزاعة مصطنعة لا يروج لها سوى العاملون من أجل لبننة البحرين، ولا يتخذ قرارات على اساسها إلا من لا يريدون أي إصلاح او تغيير فيها، مع أن البحرين "لا تتمتع برفاهية التردد في الإصلاح" كما قال كبير الاقتصاديين في البنك السعودي الفرنسي جون سفاكياناكيس، غير أن "الولايات المتحدة وحلفاؤها لا يريدون حكومات تستجيب لإرادة الشعب، فذلك إن حدث، لن تفقد الولايات المتحدة السيطرة على المنطقة فقط، بل سوف يتم رميها خارجها" كما قال المفكر اليهودي الأميركي نعوم تشومسكي في الحادي عشر من أيار / مايو الجاري.
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
0 comments:
إرسال تعليق