يوميات هدى العاصفة 4 و5/ فراس حج محمد


اليوم الرابع (9-1-2015)

أتدرون أن "هدى العاصفة" قد رحلت أو كادت، ولم يكن لها ذلك الأثر الخطير؟ رحلت أو كادت بعد أن أشاعت أجواء من الحب والرأفة والإنسانية، وأعطت ما لم يكن يخطر على بال بشر من حب ومودة وتآلف، وتركت القلوب عامرة يغمرها دفء المحبة، وأثارت في النفوس الشوق للاجتماع والبعد عن الفرقة.
أتدرون أن "هدى العاصفة" كان لها ظلال ثقافية دافئة صاحبتها في تلك الأجواء التي كانت تندف بالثلج، استمتعت معها بأغنية فيروز (ثلج ثلج عم بشتي الدنيا ثلج)، وتابعت الأصدقاء وما كتبوه من وحي "هدى اللطيفة" غير العاصفة، فماذا رأيت من ظلال هدى الثقافية؟
رجعت بي الذاكرة إلى أيام العصر العباسي، ولمعت في الذهن تلك الحادثة التي يسجلها الرواة وكانت السبب في تأليف أبي تمام لكتابه المشهور الحماسة، فقد ورد في مقدمة شرح كتاب الحماسة للمرزوقي ما نصه: "أنه (أي أبو تمام) قصد عبد الله بن طاهر وهو بخراسان فمدحه فأجازه وعاد يريد العراق، فلما دخل همذان اغتنمه أبو الوفاء ابن سلمة فأنزله وأكرمه فأصبح ذات يوم وقد وقع ثلج عظيم قطع الطريق، فغم أبا تمام ذلك وسر أبا الوفا، فأحضر له خزانة كتبه، فطالعها واشتغل بها، وصنّف خمسة كتب في الشعر، منها كتاب الحماسة والوحشيات"، فكم من شخص استغل الحبس الإجباري وفعل فعلك أو فعل ما يفيد البشرية يا أبا تمام في هذه العاصفة التي هداها الله فكانت غير عاصفة؟ ربما كان هناك من فعل، ولكنهم قلائل!
وقبل أن أترك العصر العباسي، أذكّر بتلك الظاهرة التي تركها الثلج في الأدب العربي، حيث كان للزائر الأبيض دوما حضور في شعر الشعراء، حتى شكل ظاهرة أدبية تنتمي إلى ظواهر طبيعية شعرية وأدبية؛ كالزهريات والروضيات، وعرفت باسم "الثلجيات"، وقد ألف فيها كتابا الأديب أحمد فهمي عيسى، وجاء تحت عنوان "الثلجيات في العصر العباسي الثاني"، ولعلهم كثيرون من أنطقتهم هدى فكتبوا شعرا فيها وبما أحدثته ثيابها البيضاء من حلل زاهية خلعتها على الطبيعة الجرداء في كانون، ولا بد من الانتباه لتلك الظاهرة ممن يرصدون حركة الأدب وتعبيره عن تفاصيل الحياة وجوانبها المتعددة في العصر الحديث.
ومن جانب آخر قادتني "هدى العاصفة" للمتابعة أكثر لأتبين أثرها اللغوي في الشأن الثقافي، فكما أنها تركت بصمتها في الأدب، فإنها قد تركت أثرها في الاسم والجغرافيا، ومن ذلك قرية "الثلجيات" وهي إحدى القرى التابعة لمحافظة القنيطرة في هضبة الجولان بجنوب غرب سوريا، وهي قرية دمرها الإسرائيليون عندما احتلوا مرتفعات الجولان عام 1967م.
وفي ذات السياق، ومن وحي "هدى اللطيفة" علينا أن نتذكر أن أسرانا الأبطال وهم في مرابض عزهم وشموخهم كانوا وما زالوا يشكلون منابر وعي وثقافة، فوظفوا تلك المحنة الإنسانية في حبسهم الإجباري بما يعجز عنه كل حر طليق، فغدت سجون الظالمين جامعات زاخرة بالعلم والمعرفة، واستطاع هؤلاء الأسرى قتل السجان معرفيا، واستطاعوا أن يتركوا بصمتهم في الحياة الثقافية في السجون وخارج السجون، ورفدتنا الحركةُ الأسيرةُ بالكثير من الكتب والمشغولات اليدوية والأعمال الفنية التي أبدع الأسرى في إنتاجها، وتناولت شتى القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية، فوجد أكثر من "أبي تمام" في مجاثم العز في المعتقلات الصهيونية، فقبل "هدى" وبعدها هم من علم "هدى" كيف تكون هادية سواء الرشاد الثقافي، لتكون تلك النتاجات الإبداعية شاهدة حضارية زاحرة بالتاريخ المعاصر وأحداثه السياسية المتلاحقة!
ولم يقتصر أثر هدى الثقافي على ما سبق، فكما أنها كانت سببا مباشرا في تعطيل الحياة الأكاديمية في الجامعات والمدارس، وتأجيل انعقاد الندوات الثقافية الرتيبة هنا وهناك، إلا أنها كانت دافعا قويا للتزود بخير الزاد المعرفي، فلاحظت أن بعض الأصدقاء قد استعد لهدى العدة من مجموعة كتب لتكون رفيقته في أجواء كانوا يتوقعون أن تكون أكثر عصفا مما هي عليه. 
ولا شك في أن بعض كتّابنا كذلك قد انشغلوا بمراجعة بعض مشروعاتهم الثقافية أو مسودات كتبهم، فقد منحتهم "هدى" فرصة ذهبية للتخلص من عبء الروتين وأعباء العمل، ويلتفتوا إلى كتاباتهم أكثر ليتأملوها، كما أنه كان هناك دعوات للاستكتاب حول موضوع "الثلج" وما يثيره من رؤى وأفكار، لينتجوا "ثلجيات" جديدة شعرية ونثرية، فوجد كثيرون فرصتهم للتعبير بصدق عما يختلج في صدورهم ويتململ في أفئدتهم وأفكارهم، فجنينا ثمارا طيبة من رهيف المشاعر في أدب طازج وتلقائي جميل، يتناسب والمحامل الإلكترونية التي نشرته في جو من التفاعل اللطيف بين الأدباء والمتأدبين. 
إن ما أحدثته "هدى العاصفة" في مكوثها الذي لم يطل كان كفيلا بأن يؤدي لها الجميع التحية، ويرفع لها القبعة احتراما لما أفاضته علينا من أفكار وما أثارته فينا من مبادرات إنسانية، كانت تستهدف مد يد العون لكل من يحتاجها من عالقين على الطرقات، والمساعدة بأسرع وقت لعودة الخدمات الأساسية وخاصة الكهرباء والاتصالات بشتى أنواعها. 
فإن جاءت عواصف أخرى وزارتنا فيا ليتها تكون بمثل "هدى اللطيفة"، فكل عام وثلج وهدى وأنتم وأنتنّ أكثر إشراقا وضوءا وثقافة!
**


اليوم الخامس (10-1-2015)

رجعت "هدى" لتكتسح الأرض من جديد بثلج يغطي الأرض بحلته الزاهية، وليجبرنا على أن نتعامل معه مباشرة، بعد أن منعت موجة الصقيع تدفق الماء في شرايين البيوت، فشحت المياة وانعدمت، فأين لنا بالماء لتدبير حاجاتنا الشخصية المتكاثرة، وحاجات النساء والرجال، هل نحتاج إلى الماء وحولنا كل هذا الثلج الناصع البياض النقي الصافي؟ لماذا تذكرت قول عمر الخيام في إحدى رباعياته:
يا رب هل يرضيك هذا الظما***والماء ينساب أمامى زلالْ"؟
لا بد من فكرة ما، ولا بد من ماء، إذن فلنقم بجمع الثلج في أوعية المطبخ، فاستخدمنا طاسات الطبيخ والمغارف، وأذبنا الثلج، وعملنا منه الشاي، الذي لم يرق طعمه لأحد منا، فنحن لم نعتد على مياة الأمطار وطعمها المختلف، ولكن لا بأس ها هو الماء موجود وشيء من حرارة الكأس موجودة، فلنشرب ونستمتع ببعض دفء مسروق من بين ذلك الصقيع المتراكم!
فكرت بإعداد فنجان من القهوة، لن أغامر في هذا الجو، لأعد فنجانا من القهوة المرة، وعدة الإعداد ماء الثلج المذاب، فقد جربناه مع الشاي، فهل سيصير مصير ركوة القهوة كمصير ما تبقى من الشاي؟ إذن لن أغامر، فسأنتظر قليلا، لعل درجة الحرارة ترتفع قليلا، فتدب الحياة في أنابيب المياة، وتعطف علينا الحنفيات بمائها؟
شعرت ببعض الدفء، وشعرت كما شعر الجميع بالجوع، هل سنعد الإفطار؟ وكيف؟ لقد تقطعت بنا السبل، لا خبز لدينا، إذن فلنتدبر الأمر سريعا، فالجوع كافر، علينا إذن أن نعدّ لوجبتنا الرئيسية من الآن، فالوقت قارب على الظهيرة، سنجهز إذن أدوات الطبيخ، سنحتاج إلى الماء وما زالت الحنفيات بخيلة لا تنزّ ولا بقطرة، شكلنا فريقا لجمع الثلج النقي من جديد، لنذيبه لإعداد وجبة الغداء.
شرعنا بالعمل، وبدأنا الخطوة الأولى، وصارت الحياة تعود شيئا فشيئا إلى أوصال البيت المتجمد، وها هي الحنفيات أخذت تتدفق، وها هو التيار الكهربائي قد عاد بعد انقطاع دام ساعات، وها هي شبكة الإنترنت توصلنا بالعالم من جديد، ولم يطل غيابنا عن ذلك العالم الذي ارتبطنا به ارتباطا أكيدا، وقد أحسنت "هدى" صنعا إذ إنها لم تطل في غياباتها ونتائج عواصفها!
ربما سيكون هذا اليوم هو آخر أيام "هدى"، ولكن هل يستطيع الأطفال اللعب بالثلج الآن وقد جمده الصقيع وأضاع على الجميع فرصة اللعب والمرح، أم أن الأطفال سيحتالون على الأمر، ولن يهمهم إلا تلك الكريات البيضاء التي تداعب مخيلاتهم ليتراكضوا كما تتراكض الغزلان في المروج البيضاء، يقضون ساعة مرح طفولي وصبياني غصبا عن كل ثلج وصقيع وتجمد وبرد؟ فهؤلاء لن تهزمهم الطبيعة والتحدي عنوانهم والعنفوان هويتهم.   

فكل عام وقلوبكم بيضاء بياض الثلج نقية نقاء الحب الذي يغمر نفوسكم!
**

CONVERSATION

0 comments: