كان حضورهُ بهيّاً كتموج بضع سنابل أخطأها موسم القحط، هو من علَّم آباءنا وعلّمنا في قرية عيحا "فَكَّ" الحرف و نَـسْـخِـهِ طبقاً لمعاييره الصارمة بأفضل وأجمل ما أمكننا، ذلك لغايةِ خمسينات وأواسطِ ستينات القرنِ الماضي.
بقيت مدرسةُ الشيخِ علي واحة التعليم اليتيمة في الضيعة، تفي بالغرض رغم اقتصار برنامجها على العربية وعمليات الحساب الأربع ،والدروس الدينية لمن يرغب، يعاونه من وقت لآخر تلميذان سابقان، إلى أن أرسلت الوزارة مُـدَرِّساً اختبر التلاميذ ووزَّعهم على الصف الأول والثاني والثالث ابتدائي، وراح يدرس الصفوف الثلاثة في غرفة واحدة في "مجلس" الضيعة، ومنذ ذلك اليوم صار لدينا مدرسة "معارف" حكومية، تلاها ربط الضيعة بشبكةِ الكهرباء و سفلتةِ الطريقِ العام المرصوفِ بالحجارة، ولاحقاً، بعد سنوات، صار لدينا شبكةُ مياهٍ وهاتف واحد في دار المختار، وبعدها تم سفلتة الأزقة الترابيةِ أو صبّها بخرسانة فقيرة.
وحين لا يتوفر العدد الكافي من التلاميذ في القرية، بسبب انشغالهم برعي الماشية أو مساعدة ذويهم بالزراعة، كان الشيخُ رحمه الله ينتقل للتعليم في مدرسة راشيا الوادي التي كنا نعتبرها مدينة، وأهلها،سامحهم الله، يفرطون في نظرتهم إلينا كقرويين، فيلتحق بالشيخ تلاميذ من ضيعتنا، ممن يرغب، ومن يستطيع. وحيث كان أحب العبارات إلى مسامعنا حين يبدأ تساقط الثلج، وخشية من ازدياد سماكته : " أولاد عيحا إنصراف" .
هناك كانت ترتع مدرستنا العتيدة على أرضية باحة ترابية بسطح متفاوت المنسوب والاستواء، وبخشونة تعتورها صخور هنا وشجيرات وعشب هناك، تتوسط منازل "حارة الشرفه" المشرفة على جهة الغرب.
بين البقع الداكنة الموشاة بالأخضر والبني على سلسلة الهضاب الغربية القريبة نسبياً بدت لنا بيوت تلك القرى نقاطاً سوداء غائمة متداخلة، إنما ما كان يشد انتباهنا ومخيلاتنا الطفولية أكثر هو سلسلة الجبال الأبعد من المحيدثه والرفيد والبيره والأعلى منها، إلى حيث كان يقال لنا بأن خلف تلك الجبال العالية البعيدة، الـمُـعْـتَـمِـرة غالباً غلالات ضباب في الربيع والصيف أو غيم في الخريف والشتاء، نعيم "لبنان" وبيروت وعاليه والبحر، وكنا في الاستراحات القصيرة نجلس على صخرة نحدق بتركيز عَـرَّافَـةٍ براحة اليد صوب نهر أسود مُـتَـعَـرِّج لامع كثعبان عملاق، عرفنا لاحقاً بأنه الطريق الإسفلتي الذي يصلنا بعالم ما بعد منطقتنا الريفية الجردية، التي تعبرها الغيوم الخلبية بحملها الكاذب صيفاً، ولكنها، وللأمانة تجود في الشتاء مطراً وثلجاً.
كان شيخنا يبدو لنا عجوزاً علماً بأنه كان في منتصف العمر آنذاك، شارباه الأسودان الكثان يتداخلان مع لحيته الجليلة المنظر. وديع النظرات خفيض الصوت، نحيل بقامة أميل إلى الطول، عمامته البيضاء بارتجافة خفيفة دائمة، يلف حولها منديلاً أبيض يتدلى على الرقبة إلى أن يلامس أعلى سترته السوداء، ويرتدي سروالاً عربياً فضفاضاً أسود اللون لافاً وسطه بزنار عريض أبيض مصقول، يدس فيه نصف راحتيه أثناء وقوفه وسيره بانحناءته الخفيفة. وينتعل حذاءً جلدياً بسيط الشكل مما كان يسمى "عَكَّامِـيَّـة".
كانت مدرستنا في "حارة الشرفه" عبارة عن غرفة طينية واحدة لجميع الصفوف، كما كانته الحال في عيحا، على مبعدة أمتار قليلة عنها غرفة مشابهة يقيم فيها الشيخ أثناء فترة التعليم فقط. وإلى أن يحضر الشيخ من سكنه للشروع في تلقيننا دروسنا اليومية كانت ترتفع أصواتنا بالمراجعة، وبعد دخوله يبدأ الأكبر بتعليم الأصغر بينما الشيخ يراقب الجميع، والجميع في رهبة من قصاص صارم حتى للصغار الذين لا يجيدون قراءة الـ "دَرَجَ.. عَرَجَ".
قرطاسيتنا البسيطة قوامها "لوح حجر" و "قلم حجر" للكتابة يسهل محوها بقطعة قماش عادية لاستخدامها مجدداً، ومقاعدنا جلود ماعز أو غنم، والجميع يشرب من قصعة ماءٍ أتذكر جيداً يوم استخدم الشيخ شكلها الدائري كي يرسم ساعة على اللوح الأسود. والحمام كل أرض بور في أسفل الحارة.
كان قصاص الشيخ يتراوح بين "فركة الأذن" والصفعة طبقاً للذنب و "لسعة" قضيب الرمَّـان و "الفَـلَـقْ". ولطالما ترك عقابه لنا أثره الإيجابي في جودة القراءة و كتابة الخط، و إيجابيته الأكبر بما تركه في نفوسنا من عظيم التقدير والإجلال له، وهو الذي طالما عُـرِفَ عنه لدى الجميع دون استثناءٍ بأنه "الحَكَمُ العادل المتفق عليه" رغم خلافات وحساسيات القرى. رحمك الله يا شيخنا في عليائك.
0 comments:
إرسال تعليق