المقدمة :
ما بين التعصب القبلي ، والتكسب المصلحي ، والتجاذب السياسي ، والتصارع الدنيوي ، يبزغ فجر الأثافي الثلاث لتركيب الشعر العربي في عصره الأموي ،أولهم أخطلهم ، وثانيهم فرزدقهم ، وثالثهم جريرهم - سنتكلم عنهم حسب ضرورة البحث - ...هؤلاء جاهليون في نزعاتهم ، إسلاميون في أيامهم ، يُحرَّكون ويتحركون ، ملأوا الدنيا بنقائضهم ، و هجائهم ، وفخرهم ، ومدحهم ... حالهم ليس على حال ، وموقفهم ليس على موقف ، يوم لهم ويوم عليهم ، وبقى صخبهم من يومهم الأول حتى يومنا الأخير ، شغلوا حيزاً واسعاً في تاريخ الأدب العربي ، تناسى هذا التاريخ الطغاة والملوك أو كاد ، وما نسى هؤلاء الشعراء ، ولا كاد !! .
1 -الفرزدق : تكلمنا عنه في الحلقة السابقة ، ونكرر مقدمة التعريف للتذكير ،هو همام ( وقيل : غمّام) بن غالب بن صعصعة ، ولد بالبصرة ، وتوفي فيها بعد عمر مديد (20 هـ - 114 هـ / 641 م - 732م) ، كنية فرزدقنا أبو فراس ، ولقبه الفرزدق، ولقب به، لغلظة في وجهه ، كان أبوه من أشراف البصرة ووجهائها ، وكرمائها ، سليل أجداد من ذوي المآثر الحميدة بين العرب ، فهو ينتمي إلى مجاشع بن دارم من تميم .
2 - جرير : وعدتك تعريفاً بجرير في الحلقة السابقة ، فهو جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي ...ابن كليب اليربوعي التميمي ( كنيته أبو حرزة ، ولد بتهامة سنة ( 33 هـ / 653 م ) من أب فقير ، وضيع ، خامل ، بخيل (48) ، ولم ينكر الشاعر هذا الأمر ، بل كان يتماهى بنفسه عصامياً، وتوفي سنة (114هـ / 732 م) بعد فترة وجيزة ، لا تتجاوز ثلاثة أشهرمن وفاة غريمه الفرزدق ، وقد رثاه الجرير ، ثم ودع دنياه بعد خمسين عاما من المهاجاة ، والتنابز ، والمباهاة ، ومن الرثاء قوله :
لعمرِي لقد أشجي تميما وهـداها *** على نكبات الدهرِ موت الفرزدق
عشـية راحـوا للفـراق بنعشـه ***** إلى جدث في هوّة الأرض معمق
ثوى حامل الأثقال عن كلّ مغـرم ***** ودامغ شيطان الغشوم السمـلق
عمـاد تمـيم كلها ولسانـها ****** وناطقها البــــــــــذاخ في كل منـطق
فمن لذوِي الأَرحامِ بعد ابن غالب **** لجار وعان في السّلاسل مـوثق
وكـم من دم غال تحـمّل ثقـله *** ***** وكان حمولا في وفاء ومصدق
تفـتّح أبـواب المـلوك لوجـهِه ******* بغيـــــــرِ حجاب دونـه أو تمـلّق
فتى عاش يبني المجد تسعين حجّه***وكان إلى الخيرات والمجد يرتقي
قصيدة موجعة ، مؤلمة ، مؤكدة أنَّ لا إنسان إلا بالإنسان ، فما كانا أن يكونا مخلدين إلاّ بالاثنين ، ولا بمحظوظين إلاّ باللسانين،وما كانت المهاجاة،وما كان التنابز بالألفاظ إلا لإبراز الذات، وجذب انتباه عقول ومسامع الذوات ، وقد نجحا في مرماهما ، ويقيني لو كان العكس ، لحدث العكس.
الراعي النميري بين مطرقة جرير وسندان الفرزدق :
ومن سخرية أقدار الحياة ، حين تورّط الشاعر الراعي النميري في إصدار حكمه بتفضيل الفرزدق هجاءً على جرير ، بتحريض وإلحاح من عرّادة النميري - نديم الفرزدق - في جلسة شرب بالبصرة ، فما أن أخذ منه الشراب مأخذا ، حتى قال بيته الشهير (الكامل) :
يا صاحبي دنا الأصيل فسيرا *** غلب الفرزدق في الهجاء جريرا
فجنّ جنون هذا الجرير الكبير ،ولما سمع البيت ، وبعد قيل وقال مع الراعي ، ذهب إلى منزله ، وندع عبد القادر البغدادي يكمل روايته ، كما وردت في (خزانته) " ، وقال للحسين راويته: زد في دهن سراجك الليلة، وأعدد لوحاً ودواة. ثم أقبل على هجاء بني نمير، فلم يزل يملي حتى ورد عليه قوله: ( الوافر)
فغض الطرف إنك من نمير ***فلا كعباً بلغت ولا كلابا
فقال حسبك أطفئ سراجك ونم فرغت منه ثم إن جريرا أتم هذه بعد وكان يسميها الدامغة أو الدماغة وكان يسمى هذه القافية المنصورة..." (49)
وهذا البيت المشؤوم على بني نمير ، من قصيدة طويلة عدد أبياتها مائة وتسعة، كما يذكر البغدادي نفسه ، مطلعها :
أقلي اللوم عاذل والعتابا *** وقولي إن أصبت لقد اصابا
ومنها:
إذا غضبت عليكَ بنو تميمٍ *** حسبتَ الناسَ كلّهمُ غضابا
وأراد هذا العبيد الراعي أن يردّه بقوله :
أتاني أن جحش بني كليب *** تعرض حول دجلة ثم هابا
فأولى أن يظل البحر يطفو *** بحيث ينازع الماء السحابا
ولمّا عجز عن أن يجاريه ،عكف عن الأمر ، فمن يسمع لجرير ، لا يلتفت للراعي ، ولو أنَّ الأخير كان يُعتبر شاعر مضر، فمن قصد البحر استقلَّ السواقيا ، وحاول الفرزدق نفسه ، وهو من سادة تميم ، وأشرافها ، أن يعارض ابن عمه جرير التميمي ثأراً لناصره المتعثر ، بقصيدة مطلعها :
أنا ابن العاصمين بني تميم *** إذا ما أعظم الحدثان نابا
وتجاوز الناس الفرزدق ، والراعي ، وتمسكوا ببني نمير، فقال الراعي لابنه : " يا غلام بئس ما كسبنا قومنا. ثم قام من ساعته وقال لأصحابه: ركابكم فليس لكم هاهنا مقام، فضحكم جرير. فقال له بعض القوم: ذلك بشؤمك وشؤم ابنك.....وسبوه وسبوا ابنه. وهم يتشاءمون به إلى الآنقال ..." (50) ، ولا أطيل عليكم ، قد غيّر معظم بني نمير أنسابهم ، ولحقوا بنسب أعلى جدّا ، وهاجروا بصرتهم الفيحاء ، لا تتعجب - عزيزي القارئ - كان للشعر دور كبير في وجدان الأمة ، يزلزل القاعدة والقمة ...!!
4 - الأخطل التغلبي : كنيته أبو مالك ، واسمه غياث بن غوث بن الصلت ، والأخطل لقبه ، الرجل من نصارى الحيرة ، ولد فيها سنة (19 هـ / 640 م) ، ماتت أمه ، وهو صغير السن ، فعاش في كنف أبيه ، ولكن زوجة الأخير أساءت إليه ، وأجبرته على رعي عنزاتها ، يرجع نسب قبيلته التغلبية إلى ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان (51) ،وكان لهذا النسب أهمية قصوى في ذلك العصر ، وخصوصاً صراع هذه القبائل ، ومنهم المهاجرون ، مع الأنصار ، ومن بعد مع اليمانيين القحطانيين ، والظروف دفعت هذا الأخطل في شرخ شبابه أن يقف مع بني أمية أبان صراعهم مع الأنصار بعد حرب صفين .
5 - يزيد بن معاوية يطلب من الأخطل هجاء الأنصار:
يروي ابن منظور في (مختصره لتاريخ دمشق) ، طلب منه يزيد بن معاوية - دون رضا أبيه معاوية - أن يهجو عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري الذي تشبب بأخته رملة بنت معاوية قائلاً من الخفيف :
رمل هل تذكرين يوم غزالٍ *** إذ قطعنا مسيرنا بالتمني
فنظم الأخطل قصيدته الرائية التي يقول فيها - وهي من بواكير قصائده - (الكامل) :
وإذا نسبت ابن الفريعة خلته *** كالجحش بين حمارةٍ وحمارِ
خلوا المكارم لستمُ من أهلها **** وخذوا مساحيكم بني النجارِ
ذهبت قريش بالمكارم والعلا *** واللؤم تحــت عمائم الأنصارِ
فبلغ الشعر النعمان بن بشير، فدخل على معاوية فحسر عن رأسه وعمامته ،وقال: يا أمير المؤمنين، أترى لؤماً؟! قال: بل أرى كرماً وخيراً، وما ذاك؟ قال: زعم الخطل أن اللؤم تحت عمائمنا! قال: وفعل؟ قال: نعم. قال: فلك لسانه، وكتب ان يؤتى به. فلما أتي به قال للرسول: أدخلني على يزيد، فأدخله عليه، فقال: هذا الذي كنت أخاف؟! قال: فلا تخف شيئاً، ودخل على معاوية، فقال: علام أرسل إلى هذا الرجل الذي يمدحنا، ويرمي من وراء جمرتنا؟ قال: هجاء الأنصار، قال: ومن يعلم ذلك؟ قال: النعمان بن بشير، قال: لا يقبل قوله، وهو يدعي لنفسه، ولكن تدعوه بالبينة، فإن ثبت شيئاً أخذت له، فدعاه بها، فلم يأت بشيء فخلاه.
ويروى أن عبد الرحمن بن حسان هجا قريشاً فقال: الكامل
أحياؤكم عار على موتاكم *** والميتون خزايةً للعار (52)
فأخطلنا منذ نعومة أظفاره الشعرية ، أصبح شاعر الأمويين المميز ، بالرغم من كونه نصرانياً ، لم يعتنق الإسلام حتى وفاته سنة ( 92 هـ / 710 م ) ، ولكن لأمرٍ ما رفّعه الأميرُ !!
6 - الشاعر العذري بين أيدي عبد الملك بن مروان ، وحكمه بتفضيل جرير!! :
يذكر ابن كثير في (بدايته ونهايته) قدم جرير دمشق مرارا ، وامتدح يزيد ين معاوية والخلفاء من بعده ،ووفد على عمر بن عبد العزيز ، وكان في عصره من الشعراء الذين يقارنونه الفرزدق والاخطل ، وكان جرير أشعرهم واخيرهم قال غير واحد هو اشعر الثلاثة ... وقال هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال : دخل رجل من بنى عذرة على عبد الملك بن مروان يمتدحه بقصيدة وعنده الشعراء الثلاثة جرير والفرزدق والاخطل ، فلم يعرفهم الأعرابي فقال عبد الملك للأعرابي هل تعرف اهجى بيت قالته العرب في الإسلام قال نعم قول جرير :
فغض الطرف انك من نمير *** فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فقال : أحسنت فهل تعرف امدح بيت قيل في الإسلام ، قال : نعم قول جرير :
ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راح
فقال : أصبت وأحسنت ، فهل تعرف ارق بيت قيل في الإسلام ، قال نعم قول جرير:
إنّ العيون التي في طرفها مرض ** * قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به** وهن اضعف خلق الله أركانا
فقال احسنت ، فهل تعرف جريرا ، قال لا والله ، وإني إلى رؤيته لمشتاق ، قال : فهذا جرير، وهذا الفرزدق ، وهذا الاخطل فانشأ الأعرابي يقول :
فحيا الإله آبا حرزة *** وأرغـم انفك يا أخطل
وجد الفرزدق اتعس بـ**ورق خياشيمه الجندل
فانشا الفرزدق يقول :
يا أرغم الله آنفا آنت حامله ** * يا ذا الخنا ومقـــــال الزور والخطل
ما أنت بالحكم الترضي حكومته ** ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
ثم انشا الاخطل يقول :
ياشر من حملت ساق على قدم *** ما مثل قولك في الأقوام يُحتملُ
آن الحكومة ليست في أبيك ولا ** * في معشر أنت منهم انهم سفلُ
فقام جرير مغضبا ، وقال :
أتشتمان سفاها خيركم حسبا ** * ففيكم والهي الزور والخطل
شتمتماه على رفعي ووضعكما***لا زلتما في سفال آيها السفل
ثم وثب جرير فقبل راس الأعرابي ، وقال : يا أمير المؤمنين جائزتي له وكانت خمسة آلاف ، فقال عبد الملك وله مثلها من مالي ، فقبض الأعرابي ذلك كله وخرج ، وحكى يعقوب بن السكيت أن جريرا دخل على عبد الملك مع وفد آهل العراق من جهة الحجاج ، فانشده مديحه الذي يقول فيه ألستم خير من ركب المطايا *** واندى العالمين بطون راح
فاطلق له مائة ناقة وثمانية من الرعاء أربعة من النوبة ، وأربعة من السبى الذين قدم بهم من الصغد ، قال جرير : وبين يدي عبد الملك جامان من فضة قد أهديت له وهو لا يعبا بها شيئا ، فهو يقرعها بقضيب في يده ، فقلت : يا أمير المؤمنين المحلب ، فالقى إلى واحدا من تلك الجامات ولما رجع إلى الحجاج أعجبه إكرام أمير المؤمنين له ، فاطلق الحجاج له خمسين ناقة تحمل طعاما لاهله (53) .
7 - تحليل للقراءات بقراءات :
هذه القراءة تشير إلينا مدى ما كان يحظي به الشعراء من منزلة رفيعة جدّاً اجتماعياً ، واقتصاديا وثقافياً من قبل الخلفاء ، لكن منزلة تابعة لمقام الخلافة إعلامياً ، فهي غير حرّة بالمرّة ، تستخدمها الخلافة أو حواشيها أنّى أرادت ، وكانت هذه الأثافي الثلاث موزعة الأدوار من قبل الخلافة ، فإذا رامت تسليط لسانها على أحد المكونات الرئيسية للمجتمع الإسلامي ، وجهت الأخطل للقيام بهذا الدور ، وتزعم أنه نصراني كافر ، وعند المطالبة بالقصاص ، تقول الرجل قد أدى الجزية عن يدٍ ، وهو صاغر ، وبالتالي فالرجل في ذمة حماية المسلمين !! أحيلك مرّة ثانية لابن منظور ، و(مختصر تاريخ دمشقه) ، ولهذا اليزيد وتحايله للنيل من الأنصار !! : " أرسل يزيد إلى كعب بن جعيل، فقال: اهج الأنصار، فقال: إن لهم عندي يداً في الجاهلية، فلا أجزيهم بهجائهم، ولكني أدلك على المغدف القناع، المنقوص السماع القطامي، فأمر القطامي، فقال: أنا امرؤ مسلم أخاف الله، وأستحي المسلمين من هجاء الأنصار، ولكني أدلك على من لا يخاف الله، ولا يستحي من الناس، قال: ومن هو؟ قال: الغلام المالكي الخطل، فأرسل إليه وأمره بذلك فقال: على أن تؤمنني، فقال: على أن أومنك، قال: فرفلني واكسني وأظهر إكرامي ففعل ..." (54) .
ونرجع لمقام الخلافة ، وإذا أرادت أمراً يسير كالنار في الهشيم ، قرأت بعينك خبر العذري وشعر جريره ، فتحيل هذا الأمر الخطير لجرير الرهيب ، ومن يجاريه في شعبيته ، وبحر شعره ؟ يقول صاحب الأغاني : " كان جرير ميدان الشعر من لم يجر فيه لم يرو شيئا وكان من هاجى جريرا فغلبه جرير أرجح عندهم ممن هاجى شاعرا آخر غير جرير فغلب " (55) ، أما الفرزدق لجذور أسرته الرفيعة العلوية الهوى ، وبعد قصيدته الميمية الشهيرة في حق الإمام السجاد - كما أسلفنا في الحلقة السابقة - حاول المزايدة على غيره للتقرب من مقام الخلافة ، وأحقيتها للبيت الأموي ، فجعل لعلية القوم بفخامة ألفاظه ، وشدّة زهوه ، وعراقة أصله ، الدنيا أدوار لرجالها ، وتدور بأجيالها ، تُعلي من تشاء ، وتدني من تشاء ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله !!
0 comments:
إرسال تعليق