نشرت وسائل إعلام إسرائيلية، قبل أيام، نبأً عن إعطاء المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية، المحامي يهودا فاينشتاين، الضوء الأخضر الذي يتيح لحكومته تقديم مشروع قانون جديد يشرعن إطعام الأسرى المضربين عن الطعام بالقوة، وضد إراداتهم.
أثار هذا النبأ ردود فعل عديدة على الساحة الإسرائيلية وبعض الردود الفلسطينية المقتضبة، التي سارع مطلقوها إلى اتهام المستشار القضائي بأنه يسعى، عن قصد متعمّد، إلى ترخيص عمليات إعدام الأسرى الفلسطينيين الذين سيضربون عن الطعام في المستقبل.
ما ساقه المستشار القضائي، حسبما نشر، مسوّغًا وتبريرًا لموافقته على تغيير الوضع القائم، والمضي بتشريع يجيز إطعام الأسرى بشكل قسري، كان خشيته على حياة الأسير المضرب، مما يستدعي ضرورة تدخل السلطات المسؤولة لإنقاذ حياته.
إجازة المستشار القضائي هذه خاطئة ويتوجّب عليه إعادة النظر فيها. فحتى لو كان دافعه الحقيقي خوفه على حيوات من سيضربون عن الطعام، ومحاولة منه لمنع وفاة أي منهم، وحتى لو كان إطعام هؤلاء بعد استيفاء بعض الشروط وموافقة محكمة مدنية على ذلك، كما جاء فيما نشر، لا يمكن قبول هذا التشريع الذي يناقض ما أقرّه العالم، طيلة قرون من الزمن، كحق مكفول للأسرى لا مساس فيه مهما كانت الذرائع والأسباب.
توقيت قرار الحكومة الإسرائيلية لتمرير هذا القانون يبقى قضية مفصليّة وهامّة، فهو يجيء بعد نجاح عشرات الإضرابات الفردية والجماعية التي خاضها، في السنوات الأخيرة، عشرات الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
كمن تابع معظم هذه الحالات الأخيرة أشهد على ما سبّبته من حَرَج وإرباك في صفوف السلطات الإسرائيلية المسؤولة، هذا علاوة على ما استجلبته من مناصرة وإسناد تخطّى ساحات فلسطين ومؤسساتها، واستوطن قلوب ملايين الأحرار في العالم ومؤسساته وبضمنها داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته.
إضراب أسير عن الطعام حق أقرّته معظم دول العالم وعرّفه كثيرون بكونه "امتناع إرادي إحتجاجي معلن عن الأكل" يشرع به أسير، لا سيّما أسير سياسي، أو مجموعة أسرى من أجل إيصال رسالة، أو الحصول على حق، أو ضد سياسة ووضع قائم في ذلك السجن.
مؤسسات حقوقية عالمية كبرى وعديدة التزمت وأعلنت احترامها لهذا الحق، حتى إذا أدّى الإضراب لوفاة ذلك الأسير، كما حصل في قضية "بوبي ساندس" ورفاقه الإيرلنديون في العام ١٩٨١، أو في التسيعينيات مع مجموعة كبيرة من الأسرى الأتراك الذين ماتوا نتيجة خوضهم لإضرابات مفتوحة عن الطعام.
كانت منظّمة الصحّة العالميّة المنظّمة الرائدة التي تجنّدت من أجل الدفاع عن حق الأسرى في الإضراب عن الطعام وأكّدت، في ثلاثة مؤتمرات دولية شهيرة (طوكيو١٩٧٥، مالطا ١٩٩١ و ٢٠٠٦) على رفضها إلزام الأطباء في العالم بالتدخل لإطعام أسير مضرب بشكل قسري. والتزامًا بهذا الموقف، انبرت نقابة الأطباء العامة الإسرائيلية لتعلن في رسالة بعثتها للمستشار القانوني للحكومة معارضتها القاطعة للقانون المقترح مؤكّدة: "تحريم الإطعام القسري لمضربين عن الطعام، لا سيما الأسرى، القادرين على التعبير عن مواقفهم والذين يستوعبون النتائج المترتبة من رفضهم أخذ أي علاج طبي"، مضيفةً أن "إطعام أسير بشكل قسري، لا يعتبر إشفاءً له بل اعتداءً خطيرًا عليه".
أعتقد أن الدافع الرئيسي وراء هذا التشريع هو محاولة إسرائيلية لمصادرة حق مكفول، وسلب وسيلة نضالية مشروعة متاحة لأسرى الحرية الفلسطينيين. إن تعليل ذلك بمسؤولية إسرائيلية للحفاظ على حياة الأسير؛ هي علّة واهية وغير واقعية، أو تجمّل وراءه باطل، فمئات الأسرى الفلسطينيين خاضوا عدة إضرابات طويلة عن الطعام، آخرها نفذ قبل عامين، وعشرات خاضوا إضرابات أوصلت أصحابها إلى حالات خطورة بالغة، ولم يمت أحد منهم جرّاء ذلك، بينما، استشهد الأسيران راسم حلاوة وعلي الجعفري عام ١٩٨٠ بعد أن قامت سلطات مصلحة السجون بإرغامهما مع آخرين، على الأكل قسريًا، فسجلوا بذلك السابقة المقلقة الموجعة لما قد يحصل إذا مُرّر ونفذ هذا القانون السيئ الخطير.
لقد شعرت إسرائيل في السنوات الأخيرة بعجز ما، وقصور في مواجهة حالة استنهاض مميّزة شاعت بين أسرى الحرية الفلسطينيين. كانت المعادلة غاية في البساطة وشكلت حالة من الصراع غير المتكافئ والذي لن يكون: إنسانية تتجلّى بأبهى صورها، تتصدّى لظلم أسودَ من ليل. مشهد عافه السجانون؛ وراء القضبان، فلسطينيون سجناء مسلوبون أشياء كثيرة إلّا الحرية والسيادة على أمعائهم ومصائرهم، يتحدّون بالجوع الاختياري ويعلنونها: إمّا الحياة الكريمة وإما السماء مأوى الأحرار. لا نريد الموت، لكننا لا نخشاه إن جاء فدية لكراماتنا وعربون حرية لشعب يفتدى.
قد تكون ما روته الأخبار عن دوافع المستشار القضائي حقيقية لديه، ولكن دوافع من بادر لسن هذا القانون في الحكومة ليست بريئة ومرفوضة. فإن لم يقرأوا ما صرح به المجتمعون في مالطا أذكّرهم، فهناك أعلن العالم كيف تكون الأخلاق حميدة: "أن يسمح لأسير مصمّم عازم على إضرابه عن الطعام أن يموت بكرامة، هو أمر أكثر أخلاقيةً من أن يعرّض هذا المضرب لتدخلات وعبث متكرّر ومتجدّد، ضد إرادته الحرة"، هكذا بكل وضوح.
يجب أن نسقط هذه المحاولة، لأننا نعرف ماذا وراء الأكمة، وماذا بقي للسجّان، وأين ملاذه في مثل هذه المواجهة؟ قانون جديد، وسيلة قمع مبتكرة ومحاولة استيطان سافرة؛ في مِعَد الأسرى، في أمعائهم وفي شرايينهم. يجب أن نسقط هذه المحاولة.
0 comments:
إرسال تعليق