حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في زيارته للولايات المتحدة استثمار فوز الحزب الجمهوري والمناصرين لإسرائيل في الانتخابات الأميركية الأخيرة من أجل إعادة إحياء برنامجه في منطقة الشرق الأوسط والقائم على أولوية المواجهة العسكرية مع إيران وليس على التسوية مع الفلسطينيين وباقي الجبهات العربية. وقد أراد نتنياهو في تصريحاته الداعية للخيار العسكري مع إيران أن يستبق استحقاقين قادمين هذا الشهر، وهما: المفاوضات السداسية المقرّرة مع إيران، وعملية التفاوض مع الفلسطينيين، وهما مسألتان تُشجّع إدارة أوباما عليهما منذ مجيئها بشكل مخالف لأولويّات حكومة نتنياهو.
إنّ الحكومة الإسرائيلية الحالية ترى في التصعيد العسكري المطلوب مع إيران فرصة هامة لتحقيق جملة غايات إسرائيلية في هذه المرحلة: فهذا التصعيد أولاً يعفي إسرائيل من أي إلتزامات تجاه الفلسطينيين والأراضي المحتلة ويسمح بفترة زمنية طويلة من الصراعات في المنطقة تتمكّن فيها إسرائيل من زيادة التهويد الحاصل للقدس والأراضي المحتلة، ومن زيادة حجم وأمكنة المستوطنات، ومن ممارسة مزيد من الضغوط على الفلسطينيين المقيمين في داخل إسرائيل. وثانياً، سيؤدي الخيار العسكري ضدّ إيران إلى قيام نزاعات داخلية في عدّة بلدان عربية وبين الحكومات العربية نفسها وإلى تعثّر جهود المصالحات السياسية في العراق ولبنان وفلسطين، بل ربّما إلى اشتعال أمني في داخل هذه البلدان ممّا ُيشغل وُيضعف حركات المقاومة ضدّ إسرائيل ويحقّق حروباً أهلية عربية. وثالثاً، سيزيد الخيار العسكري ضدّ إيران من حجم التورّط العسكري الأميركي في المنطقة مما يُعزّز الحاجة الأميركية لإسرائيل خاصّةً مع تزايد حجم غضب الشارع الإسلامي عموماً على الحروب الأميركية في العالم الإسلامي.
إنّ إدارة أوباما ستخضع الآن لضغوط داخلية أميركية من أجل سياسة أكثر تصلّباً مع إيران، ومن أجل التراجع عن هدف التفاوض معها. وهذه الضغوط سيكون مصدرها مزيج من قوى الحزب الجمهوري الفائز بالانتخابات الأخيرة، ومن التيّار الديني المحافظ في أميركا والمتفاعل الآن مع "تيار الشاي"، ومن تأثيرات اللوبي الإسرائيلي المؤيّد لتوجّهات الحكومة الإسرائيلية الحالية والتي تسعى للضغط على إدارة أوباما من أجل التحرّك عسكرياً ضدّ طهران لا التفاوض معها الآن.
إنّ إدارة أوباما قد لا تختلف من حيث الغايات الكبرى، والمصالح الأميركية المطلوب تحقيقها، عن الإدارات الأميركية السابقة، لكنّها تختلف حتماً عن إدارة بوش من حيث المنطلقات والأساليب. إذ أنّ منطلقات إدارة أوباما قائمة على النتائج السلبية التي أفرزتها حروب إدارة بوش وسياسة "محاور الخير والشر" والانفرادية في القرارات الدولية الهامّة. وهذا يعني مراجعة إدارة أوباما لحقبة التأزّم في العلاقات مع إيران وغيرها، ووضع خطط وأساليب جديدة لما هو منشود أميركياً من استمرار الدور الأميركي القيادي للعالم.
فواشنطن تفهم جيداً المجال الحيوي الجغرافي الذي تتحرّك فيه إيران والذي يشمل حدودها المباشرة مع العراق وأفغانستان، وهما الآن ساحة المعارك العسكرية للولايات المتحدة خصوصاً ولحلف الناتو عموماً. ثمّ إنّ الساحل الإيراني في منطقة الخليج العربي يشرف على كلِّ الأساطيل الأميركية في المنطقة وعلى مراكز التواجد العسكري الأميركي هناك، وعلى ما في هذه المنطقة من مصادر هامّة للطاقة، وبالتالي فإنّ لطهران أيضاً دوراً مؤثّراً وهامّاً في الاقتصاد العالمي.
كذلك هو المجال الحيوي السياسي والأمني لإيران الذي أضحى في العقدين الأخيرين شاملاً للصراع العربي/الإسرائيلي بجبهاته السورية واللبنانية والفلسطينية، وأصبحت طهران معنيّةً مباشرةً بتفاعلات وتعقيدات العلاقات العربية/العربية، وبالصراعات المحليّة في عدد من بلدان المنطقة.
وجاء الملف النووي الإيراني ليزيد، ليس فقط من تأزّم علاقات طهران مع الغرب، بل أيضاً من تعاظم دورها كقوّة إقليمية كبرى قادرة مستقبلاً على امتلاك السلاح النووي.
إنّ واشنطن تحتاج لطهران في توفير الظروف الأمنية والسياسية المناسبة لخروج القوات الأميركية من العراق، كما تحتاجها في احتمالات تداعيات الحرب في أفغانستان، وواشنطن تدرك فشل إدارة بوش في مواجهتها مع إيران من خلال سياسة العزل والعقوبات والتي مارستها أيضاً كل الإدارات السابقة منذ قيام الثورة الإيرانية، ممّا جعل إدارة أوباما تطمح إلى فتح صفحة جديدة مع طهران بغضّ النظر عن نظام الحكم فيها، وبشكلٍ مشابه لمسيرة علاقات واشنطن مع الصين وفيتنام.
أيضاً، تدرك إدارة أوباما أنّ المشكلة مع إيران لا تُحَلّ بمزيد من قرارات مجلس الأمن، بل بأحد طريقين: الحرب أو التفاوض. وقد تجنّبت إدارة بوش أصلاً خيار الحرب على إيران بسبب محاذيره العسكرية والسياسية والاقتصادية على أميركا وعلى المنطقة والعالم عموماً. لذلك، اعتمدت الإدارة الأميركية الآن الخيار الآخر (أي التفاوض) خاصّةً في ظلِّ الظروف الدولية المناسبة لها حالياً والداعمة للتحوّلات الجارية في السياسة الخارجية الأميركية.
لذلك، فإنّ جولة المفاوضات المرتقب حدوثها هذا الشهر بين إيران والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، إضافةً لألمانيا، ستكون جولةً حاسمة بعد العقوبات الأخيرة على طهران وبعد الاتفاق الذي أبرمته إيران مع تركيا والبرازيل. والنجاح في هذه المفاوضات سينعكس حتماً على أزمات عديدة في الشرق الأوسط ابتداءً من غزّة ووصولاً إلى العراق وأفغانستان.
إنّ الخيار المتاح للإدارات الأميركية منذ سنوات عديدة بالتصعيد عسكرياً ضدّ إيران، هو خيار مجمّد لأنّه باهظ الثمن إقليمياً ودولياً وأميركياً، ولا تقدر واشنطن، حتى لو أرادت ذلك، على تمريره الآن دون مرجعية مجلس الأمن، ولا يتحمّل العالم نتائج ذلك اقتصادياً وسياسياً وأمنياً.
إنّ المراهنة الإسرائيلية الكبرى كانت وما تزال على حجم الخلافات والصراعات العربية، بين الأوطان وداخل كل منها. وهنا نافذة الخطر التي لم يقفلها العرب بعد!.
فالمراهنة الإسرائيلية على تغيير الموقف الأميركي هي مقترنة أيضاً بالمراهنة على تصعيد أجواء التوتّر السياسي المذهبي في المنطقة، وعلى توظيف أخطاء عربية هنا أو إيرانية هناك. المراهنات الإسرائيلية هي على متغيّرات في جغرافية أوطان المنطقة وكياناتها السياسية وما في ذلك من مصلحة إسرائيلية كبرى.
أمّا المراهنة الأميركية الآن فهي إمّا على انضمام إيران إلى مطبخ إعداد التسويات (بالوصفات الأميركية)، أو على عزل طهران عن طريق تسوية أزمات معنيّ بها حلفاء رئيسيون لها في المنطقة بعدما جرى جذبٌ أميركيٌّ مهم للموقفين الروسي والصيني في موضوع الملف النووي الإيراني.
إنّ أي حكومة إسرائيلية، مهما تباينت مواقفها مع الحاكم الأميركي، لا تجرؤ على اتّخاذ قرار حرب ضدَّ أي دولة في المنطقة دون الحصول على موافقة أميركية مسبقة. هكذا كان تاريخ الحروب الإسرائيلية منذ حرب العام 1967. فإسرائيل قد تتمادى في نوعية ومساحة حروبها لكن مبدئية قرارت الحرب تخضع أولاً لموافقة واشنطن.
لذلك، فإنّ إسرائيل تراهن الآن على نتائج الانتخابات الأميركية من أجل تعزيز رؤيتها لصراعات منطقة الشرق الأوسط، وعلى إنهاء رؤية إدارة أوباما لكيفيّة حل هذه الصراعات، وحتى قبل نهاية ولايته الأولى!.
0 comments:
إرسال تعليق