كم كانت مفارقة واضحة أن ينتقد الرئيس الأميركي أوباما قرار الحكومة الإسرائيلية باستئناف بناء المستوطنات، وهو في جولته الآسيوية حيث فشل بإقناع كوريا الجنوبية (حليفة أميركا)، ومجموعة العشرين، بما لديه من خطط ومشاريع اقتصادية وتجارية، بينما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يتنقل بين شمال أميركا في نيويورك وجنوبها في نيوأورليينز، وهو يؤكد للأميركيين إصراره على الاستمرار في الاستيطان وعلى ضرورة التلويح بالخيار العسكري لإيران. هذه المفارقة كانت المحصّلة الأولى لفوز "الجمهوريين" وحلفائهم "الشايين" بالانتخابات النصفية الأخيرة والتي أوصلت أيضاً عدداً لا بأس به من الداعمين لنتنياهو إلى الكونغرس الأميركي، الداعم أصلاً لإسرائيل في كل حالاتها وحكوماتها.
عاد نتنياهو لإسرائيل ومعه مجموعة "حوافز" أميركية من أجل تجميد الاستيطان لمرّة أخيرة ولمدّة ثلاثة أشهر فقط. و"السخاء" الأميركي الجديد على إسرائيل في أشكاله العسكرية والسياسية والمالية هدفه المحدد "تجميد مؤقت" للإستيطان الإسرائيلي وغير شامل للقدس المحتلة.
ُترى ما دوافع إدارة أوباما الآن في الإصرار على استئناف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية وعلى مهلة الثلاثة أشهر؟ وهل تكفي هذه الفترة المحدودة لمعالجة قضايا الحل النهائي بعد مماطلة إسرائيلية لأكثر من 17 عاماً منذ توقيع إتفاق أوسلو؟!
ما يلفت الانتباه في هذا الأمر هو تصريحات نتنياهو بعد لقائه مع الوزيرة الأميركية كلينتون في نيويورك بشأن توسيع المفاوضات و"عملية السلام" مع أطراف عربية أخرى. فهل مهلة الأشهر الثلاث هي لإطلاق صيغة مؤتمر دولي جديد بشأن "الشرق الأوسط" على غرار مؤتمر مدريد في العام 1991؟ وهل استئناف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية هو المدخل لهذا المؤتمر الموعود؟
إدارة أوباما تدرك أنّ استئناف المفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية كهدف بحد ذاته ما هو إلا مضيعة للوقت حالياً في ظلّ حكومة إسرائيلية قائمة على رفض الاتفاقات السابقة مع الفلسطينيين، وعلى الإصرار على مواصلة الاستيطان، ولا تريد أصلاً حلّ القضايا الكبرى مع الطرف الفلسطيني رغم التنازلات الكبيرة التي قدّمتها قيادة "منظمة التحرير" منذ اتفاق أوسلو وحتّى الآن.
فما هو الجديد لدى إدارة أوباما بشأن مشاريع التسوية السلمية في "الشرق الأوسط"، وهل المراهنة الأميركية هي على فكرة المؤتمر الدولي الذي يجمع أطراف "اللجنة الرباعية" والدول العربية ويشمل المسارين السوري واللبناني إضافةً للملف الفلسطيني؟
هذا احتمال كبير وارد الآن في ظلّ ما تشهده المنطقة العربية من تفاعلات لها علاقة بأزمات متشابكة من غزة إلى طهران مروراً بأوضاع لبنان والعراق والعلاقات الأميركية – السورية.
ويبدو أن جملة من الخطوات التمهيدية تحصل حالياً على أكثر من جبهة. ففي العراق حصل التفاهم على كيفية توزيع السلطة وما رمز اليه هذا التفاهم العراقي من "تفاهم واشنطني- إقليمي" بشأنه. وفي دمشق تستمر محاولات تحقيق "المصالحة الفلسطينية" التي هي مهمة أصلاً للجسم الفلسطيني ولتوحيد قيادته، لكن هي أساس مطلوب أيضاً لأي قرارات حاسمة تتعلق بالقضايا المطروحة للمفاوضات، ولتأمين "الشرعية" للسلطة الفلسطينية بعدما تجاوزت استحقاقات مواعيد انتخابات الرئاسة والمجلس التشريعي.
أمّا لبنان، فستبقى أوضاعه مرهونة بإنهاء التفاهمات اللازمة على الملفين العراقي والفلسطيني وصيغة "المؤتمر الدولي". فأليست إشارة هامة أيضاً أن يبحث نتنياهو في زيارته الأخيرة لنيويورك مع بان كي مون موضوع الإنسحاب الإسرائيلي من بلدة الغجر اللبنانية!!.
لكن أين هي المصالح الأميركية – الإسرائيلية المشتركة في فكرة "المؤتمر الدولي"؟
حكومة نتيناهو تراهن على تكرار ما حدث في مؤتمر مدريد منذ 20 عاماً تقريباً من تمييع للقضايا الرئيسة في المفاوضات ومن ضغوط أميركية ودولية لتحقيق التطبيع العربي الشامل مع إسرائيل دون انتظار نتائج المفاوضات. وقد حدث ذلك فعلاً في حقبة التسعينات!.
وسيكون "المؤتمر الدولي" مقترناً لاحقاً بخطواتٍ سياسية واقتصادية وتأمين مساعدات عاجلة للفلسطينيين، وإنهاء حصار غزّة (بعد المصالحة الفلسطينية)، بحيث تكون هذه "المكاسب الفلسطينية" سبباً أيضاً لمطالبة كلّ العرب وغير العرب بإنهاء أيّ دعمٍ سياسي أو مالي لمن يرغبون باستمرار المقاومة المسلّحة ضدَّ إسرائيل، بينما يستمر التفاوض من جديد على قضايا "الحل النهائي" إلى أمدٍ مفتوح!.
طبعاً، نجاح فكرة "المؤتمر الدولي" سيكون مكسباً سياسياً كبيراً لأدارة أوباما وهي تحتاجه الآن لأسباب داخلية ولمفاوضات قادمة أيضاً مع إيران.
إذن، هل يمكن تحقيق أي تقدّم في المفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية قبل ترتيب "الأوضاع الإقليمية" وشؤونها وشجونها مع واشنطن؟! أشكّ بذلك، بل أعتقد أنَّ إدارة أوباما تريد أيضاً توظيف إعلان التفاوض على المسار الفلسطيني/الإسرائيلي وإظهار "حسن العلاقات مع إسرائيل" من أجل مفاوضات واشنطن القادمة مع إيران. فالرأي العام الأميركي المشحون أصلاً من "الجمهوريين" ومن اليمين الأميركي المتطرّف ضدَّ الرئيس أوباما وأصوله الأفريقية والإسلامية، لا يمكن أن يقبل حواراً إيجابياً مع إيران في ظلّ خلافٍ أميركي مع إسرائيل!!
وهنا أيضاً تظهر حاجة إدارة أوباما لتحقيق "تسوية" مع طهران تُسهّل "تسويات وحكومات" في المنطقة، وتكون هي فعلاً "انتصارات سياسية خارجية" للرئيس أوباما وإدارته قبل العام 2012، موعد الانتخابات الرئاسية القادمة، كما تكون تنفيذاً عملياً لما طالب به عدد كبير من الخبراء والسياسيين الأميركيين في توصيات "بيكر-هاملتون" عام 2006 حيث جرى الفرز آنذاك بين "المصالح الأميركية" التي عبّرت عنها التوصيات وبين "أجندة المحافظين الجدد" في حكم إدارة بوش.
***
هذه كلها تخمينات عن سياسات أميركية غير واضحة في أهدافها الآن وفي ظلّ ضعفٍ شديد تعاني منه أميركا عموماً وتراجعٍ كبير في الثقة العربية بقدرة أوباما على إحداث تغيير نوعي في السياسة الأميركية بالمنطقة العربية. لذلك، تُصبح مراهنة "السلطة الفلسطينية" على الوعود الأميركية هي مراهنة على مزيد من التنازلات الفلسطينية ومن الاستثمار الإسرائيلي لمثلث الضعف الأميركي والعربي والفلسطيني.
فالضغط الأميركي المنشود على الحكومة الإسرائيلية يحتاج أولاً إلى ضغط فلسطيني وعربي على واشنطن وعلى المجتمع الدولي عموماً من خلال توفير وحدة موقف فلسطيني وعربي يقوم على إسقاط تداعيات "اتفاقية أوسلو" وتأكيد حق المقاومة المشروعة ضد الاحتلال، على أن يترافق ذلك مع تجميد كل أنواع العلاقات الحاصلة بين إسرائيل وبعض الدول العربية.
لقد أعطت "اتفاقيات أوسلو" عام 1993 لإسرائيل الاعتراف الفلسطيني بها قبل تحديد حدود "الدولة الإسرائيلية" وقبل اعتراف إسرائيل بحقّ وجود دولة فلسطينية مستقلّة، وبتسليمٍ من قيادة منظمة التحرير بنصوصٍ في الاتفاقية تتحدّث عن "إعادة انتشار القوات الإسرائيلية" وليس عن انسحاب مُتوَجَّب على قوّاتٍ "محتلّة". فإسرائيل أخذت من الطرف الفلسطيني في اتفاق أوسلو كلّ شيء (بما في ذلك إلغاء حقّ المقاومة المسلّحة) مقابل لا شيء عملياً لصالح القضية الفلسطينية. فكفى الأمَّة العربية والقضية الفلسطينية هذا الحجم من الانهيار ومن التنازلات، وكفى أيضاً الركون لوعود أميركية ودولية يعجز أصحابها عن تحقيق ما يريدون من إسرائيل لأنفسهم فكيف بما يتوجّب على إسرائيل للفلسطينيين والعرب؟!
0 comments:
إرسال تعليق