الثورة المصرية لم تصل بعد الى وزارة الداخلية والى رجال الشرطة التي كانت ممارساتهم احد اهم الاسباب التي اشعلت الشارع المصري. وايقونة الثورة، خالد سعيد، مات تحت الضرب والتعذيب فكان الشرارة التي أضاءت الطريق لملايين المصريين الذين كسروا حواجز الخوف واسقطوا في ثورتين متتاليتين دكتاتوريتين عاتيتين: واحدة عسكرية والثانية دينية، بعد ان دفعوا الثمن غالياً الوف الشهداء والمشوهين والمفقودين. وبدل محاكمة قتلة الثوار نجد اليوم الكثير من رفاق الشهداء في قفص الاتهام ومنهم من صدرت بحقهم احكام قاسية.
ففي 2/12/2013 اثناء جلسة محاكمة قتلة خالد سعيد في الاسكندرية، وقف بعض رفاق خالد امام المحكمة يحملون لافتات تطالب بالقصاص من قتلته. فجأة انهال احد الضباط ضرباً على احد الواقفين. تقدم رفيق له ليدافع عنه فالقي القبض عليه ايضاً، بعد ضربه بالطبع. تقدم الشاعر عمر حاذق من الضابط وسأله عن سبب القاء القبض على زميليه فكان نصيبه القاء القبض عليه ايضاً وتحويله الى المحاكمة بتهم:" تخريب المنشآت، تحطيم سيارات الشرطة، الاعتداء على الجنود والضباط، اتلاف الممتلكات العامة، مقاومة السلطة، التظاهر دون ترخيص، وتكدير الامن العام..." وبفترة زمنية قصيرة، لم تعرفها المحاكم المصرية، صدر الحكم على الشاعر والروائي عمر حاذق بالسجن سنتين وبدفع غرامة مالية قدرها 50 الف جنيه. كما صدر الحكم نفسه على الموقوفين الاخرين وبالتهم نفسها... مع العلم ان قتلة خالد سعيد، الذي استشهد سنة 2010 لا زالوا يحاكمون. ولم يصدر حتى الان اي حكم على من قتل وشوه الاف المتظاهرين المسالمين والذين لولا تضحياتهم لما وصل من وصل الى الحكم اليوم في مصر.
الشاعر الرومانسي عمر حاذق، الحاصل على الجائزة الاولى في الشعر في مهرجان الحب والعدالة والسلام في العالم بايطاليا، كتب من وراء القضبان لاصدقائه:" انا مشتاق لكم يا اصدقائي، يا اخوتي في الحرية وفي محبة هذا الوطن المسكين... " وحين استلم النسخة الاولى من روايته الاولى" لا احب هذه المدينة"، في سجنه قال:" انا اتمتع بطعم حريتي وقيمتي كانسان حر... اشهد اني هنا اعيش حياة حقيقية لا زيف فيها..." وعمر موظف في مكتبة الاسكندرية. تصدى سنة 2011 للفساد فصدر قرار بفصله من عمله. لكن تكاتف زملائه اجبر الادارة على التراجع... في بلاد العالم يحتفلون بشعرائهم بينما انظمتنا العربية تحتفل بشعرائها وكتابها ومفكريها خلف قضبان السجون. عمر الذي يكتب رواية جديدة في سجنه يقول:... ولكنني خائف لان هذا الزمان عدو لقلبي. لا تخف يا عمر. ألسْتَ انت القائل:" نحن قمحُكِ يا مصرُ لن يخبزونا..." وهل يمكن لمصر ان تعيش من دون قمح؟
شباب الثورة يقبعون اليوم بالمئات خلف القضبان. منهم: المدون والمبرمج والناشط والحقوقي علاء عبد الفتاح. والده المحامي والحقوقي والناشط السياسي احمد سيف الاسلام وامه الدكتورة ليلى سويف استاذة الرياضيات بكلية علوم جامعة القاهرة والناشطة السياسية ايضاً. وُلِدَ طفله الاول خالد، على اسم خالد سعيد، وهو في سجن طرة على خلفية احداث ماسبيرو. اعتقل عدة مرات على ايام مبارك والمجلس العسكري ومحمد مرسي. واليوم على ايام الثورة التي شارك بصنعها. والتهمة هي نفسها في العهود الاربعة: التحريض والاشتراك في التعدي على افراد القوات المسلحة واتلاف معدات تخص القوات المسلحة والتظاهر والتجمهر وتكدير الامن والسلم العام... قضى فترات تتراوح بين ال 26 يوماً وال 45 يوماً. وكل مرة كان قاضي التحقيق يُطلق سراحه. فلو كانت التهم اعلاه صحيحة لكان يجب ان يبقى في السجن لاعوام طويلة. لكن لائحة التهم المهزلة والجاهزة كان قد نساها حبيب العادلي على مكتبه في وزارة الداخلية ويشهرها خلفاؤه في وجه الناشطين ساعة يشاؤون. وكأن العادلي لا زال في مكتبه. وكأن نظام مبارك لم يتغير فيه الا الرأس... في نوفمبر 2013 أعتقل بتهمة التحريض ضد الدستور وباقي اللائحة. اقتحم عشرون من رجال الشرطة منزله. كسروا الابواب. صادروا اجهزة الكمبيوتر، سلاحه الاقوى، صادروا تلفونات العائلة... عندما سألهم عن المذكرة القضائية الخاصة بالقبض عليه، اعتدت الشرطة عليه جسدياً وعلى زوجته... ولا زال محبوساً. كتب من سجنه :اعلم ان اليأس خيانة. لكن الثائر في وطني – لو كان نبياً معصوماً – ورأى... تمكين الطاغية بأمر المظلوم/ وتهليل الفقراء/ سيفقد ايمانه... في كوابيسي يحيطون بامي راغبين في طردها من الميدان. تقاومهم ليلى سويف التي وُلِدت في رحم الهزائم فنزلت الميدان سنة 1972 ولم تعدْ للآن. لم يجرؤ اليأس على الاقتراب منها ومع ذلك خوّنوها ليطردوا شكوكهم وهزائمهم...( في اولى جلسات المحاكمة في 23/3/2014 أخلت المحكمة سبيله بكفالة مالية قدرها عشرة الاف جنيه).
لؤي قهوجي، ناشط آخر، دخل سجون مبارك والمجلس العسكري ومرسي. هذه الانظمة، حسب رأيه، يجب ان ترحل لانها " لم تقدم شيئاً للشعب المصري ليأتي بديلاً منها انظمة تحقق العدالة الاجتماعية وتحقق مبادىء الديموقراطية..." وبفضل الناشطين وملايين المصريين رحلت هذه الانظمة. ولكن البديل، بدل ان يحاكم قتلة الثوار، نراه وكأنه ينتقم ممن اسقط هذه الانظمة. فلؤي اليوم يقضي حكماً بالسجن سنتين في احد سجون " الثورة" ولائحة التهم نفسها. اضافة الى 50 الف جنيه. لؤي قهوجي لم يترك ميدان التحرير طوال ثورة 25 يناير. كان يأمل ان يُحاكَم قتلة خالد سعيد وقتلة الثوار ولم يكن يتصور بالطبع انه هو من سيقف في قفص الاتهام في عهد الثورة.
اسلام حسنسن، شاب صغير في التاسعة عشرة من عمره، يدرس في معهد بمنطقة المنشية. كان ماراً، مصادفة، بجوار المحكمة القريبة من المعهد، حيث كانت تجري محاكمة قتلة خالد سعيد. نزل من الباص ليتفاجأ بالاشتباكات واعتداءات الامن على المتظاهرين... القوا القبض عليه بعد ان البسوه لائحة التهم اعلاه. وبعد ان اخذ الحكم اعلاه ايضاً.
أحمد دومة: ناشط سياسي وكاتب صحفي ومتحدث سابق باسم "ائتلاف شباب الثورة". سُجِنَ 18 مرة في عهد مبارك وامتداده المجلس العسكري. سجن مرتين في عهد مرسي. عضو مؤسس في اغلب الحركات الاحتجاجية والمعارضة منذ 2004 مع ظهور حركة كفاية. عضو اتحاد كتاب مصر. يقضي عقوبة بالسجن حالياً لمدة ثلاث سنوات بتهمة التظاهر وبقية اللائحة... محامي الدفاع يقول ان دومة تعرض للضرب مع زميليه احمد ماهر ومحمد عادل، من قبل قوات حرس المحكمة خلال جلسة محاكمته. واحمد ماهر، احد اشهر الناشطين الشباب. مهندس مدني والمنسق العام ومؤسس حركة 6 ابريل التي انطلقت في ابريل 2008 تضامناً مع اضرابات عمال المحلة الكبرى والتي كان لها الدور البارز في كل التحركات. احمد ماهر موجود اليوم في السجن بالتهم نفسها...
ولائحة النشطاء خلف القضبان تطول. .. والاخطر الحملة المبرمجة التي تقف وراءها بعض وسائل الاعلام، وبعض الاعلاميين المتمسحين بالسلطة الجديدة، وكل سلطة. فهناك دعايات تُروَج تتهم الناشطين بالعمالة وتلقي اموال من الخارج واذاعة اشرطة توحي انهم عملاء...رغم ان الناشطين المذكورين اعلاه، وغيرهم الكثيرين، مثلوا امام القضاء وحُكِمَ عليهم بتهم التظاهر من دون ترخيص، وتكدير الامن العام و ...الى آخر اللائحة... ولم يُتهموا ابداً بما الصقه ببعضهم بعض الفضائيات. فالداخلية التي تعودت، خلال عقود، على فبركة التهم الجاهزة، لن تعف عن تهم مثل العمالة وقبض اموال من الخارج لو كانت صحيحة...
هذه الممارسات تنعكس، اول ما تنعكس، على حاكم مصر الفعلي منذ 30 يونيووحتى الان، و رئيس مصر القادم، المشير عبد الفتاح السيسي، وربما تعطي دلالة على اتجاه نظامه المقبل. ولا تبشر بدولة القانون والعدالة الاجتماعية التي دفعت مصر من اجلها الكثير. فقانون منع التظاهر لا يليق بثورة لم تكتمل بعد. ولو تقيَّدَ شباب مصر بهذا القانون طوال عهود مبارك والمجلس العسكري ومرسي لما كان اليوم السيسي حبيب الجماهير ومرشحهم المفضل، ورئيس مصر القادم. يجب التفريق بين متظاهرين مسالمين يطالبون بتطبيق العدالة وبين متظاهرين ارهابيين يروعون العباد والبلاد. الامن مهم جداً ولكن ليس على حساب الديموقراطية. وشعار " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" تركنا في احضان الديكتاتوريات، لعقود طويلة ..وتحصين قرارات اللجنة العليا للانتخابات لا تبشر ايضاً بخير. وتذكر بتحصين قرارات مرسي ووضع نفسه فوق القانون...وممارسات الامن ووزارة الداخلية تقول ان نظام مبارك لا زال حياً يقمع... وان سجونه لا زالت تغلق ابوابها على الاحرار والنشطاء...
السيسي امام خيارين: إما ان يدخل التاريخ كأحد من ركبوا الثورة المصرية وأعاد توجيهها باتجاه نظام مبارك. فيعيد الاعتبار لاركانه ولممارساته القمعية والتي نرى بعضها الان... وإما كأول مؤسس لنظام ديموقراطي عربي وذلك باصدار القوانين التي تتلاءم مع تطلعات شباب مصر وتنفيذ مطالب الثورة، وتثبيت دولة العدالة الاجتماعية وتطبيق الديموقراطية الصحيحة ومنها الغاء قانون منع التظاهر وبالتالي اطلاق سراح شباب الثورة اذ ينتفي السبب لمحاكمتهم. فشباب مصر مكانهم الطبيعي هو المساهمة الايجابية في بناء مستقبل افضل لمصر. وليس مكانهم سجون مبارك...
0 comments:
إرسال تعليق