متعةُ العبور وقصص أخرى/ صبري يوسف

قصص قصيرة جدَّاً

1 ـ متعةُ العبور

عبرَتْ سفينةٌ محمَّلةٌ بالأحلامِ، تمخرُ أسرارَ البحرِ، تهفو إلى الوصولِ إلى ضفافِ شاطئٍ مركونٍ فوقَ أكتافِ مروجٍ مستنبتةٍ من نداوةِ اللَّيلِ. ضحكَ البحّارُ ضحكةً مجلجلةً عندما اصطادَ صيداً ثميناً. سحبَ صنَّارته، تمتمَ مذهولاً: ما هذا؟! 
قصائدُ شاعرٍ من لونِ حفاوةِ الموجِ، قصائدٌ معفَّرة بملوحةِ البحرِ. قرأ القصائدَ بمتعةٍ لذيذةٍ، شعرَ وكأنَّها مندلقة من شهقةِ مرجانِ البحرِ!

ستوكهولم: 5 ـ 11 ـ 2007

2 ـ نكهةُ النّعناع

لملمَ حاجاته الضّرورية، وضعَها في حقيبةِ سفر، كانَ اللَّيلُ غائصاً في ألغازِ الرَّحيلِ، رحيلُ الإنسان في صباحٍ نديٍّ نحوَ جبالٍ مكلَّلةٍ بأقاصيصَ القممِ والطُّموحِ، حائراً في رحلةِ عبورِ الإنسانِ إلى ما وراءِ البحارِ، بحثاً عن وسادةٍ مريحةٍ لقفصِ الرَّأسِ، غالباً ما تكون رحلات مهتاجة على أجنحةِ الضَّباب!
حالما عبرَ ساحةَ الدَّارِ، تراءَتْ أمامه ذكريات الطُّفولة، مشاكساته مع أخته، حبّه الأوَّل، لقاءاته معَ الأحبّة الأصدقاء، دراساته المتعدِّدة في أمّهاتِ الكتبِ. 
سارَ شاردَ الذّهنِ، تاركاً خلفه أوراقاً تداعبُ محطَّاتِ عمره، كتاباته، أشعاره. دمعةٌ خرّتْ فوقَ خدّهِ، وأخرى انسابَتْ نحوَ ظلالِ الرُّوحِ. تذكّرَ مناجاته لنجمةِ الصَّباحِ خلال ليالي الصَّيف، حالماً في أوجِ المناجاة، أنْ يرتمي بينَ أحضانِ عاشقة تفوحُ من نهديها نكهةُ النّعناع!

ستوكهولم: 6 ـ 1 ـ 2007
3 ـ فوقَ ضفافِ القلب

فجأةً قفزَتْ إلى ذهنه مشاهدُ تدريبٍ على دبكةِ "باكيِّة وآهي لا يوني"، من قبلِ مدرّبةِ رقصٍ طافحة بالحنان، تاركةً صدرها الحنون يندلقُ على مرافئ قلبهِ كلَّما يستديرُ ليتقدَّم خطوتين نحوَ الأمام. 
كَمْ كانَ يتمنّى في حينها أنْ يمتدّ التَّدريب إلى مدى العمرِ، طالما كان يرافقُ إيقاعَ التَّدريبِ ارتعاشةٌ لذيذةٌ فوقَ ضفافِ القلبِ!
ستوكهولم: 6 ـ 1 ـ 2007

4 ـ مَطَرْ مَطَرْ قيقيْ

هطلَ المطرُ قبلَ انبلاجِ خيوطِ الدُّفءِ، نهضَ بتكاسلٍ نحوَ نافذةٍ تكسوها غربةً باذخةً، أزاحَ السِّتارةَ بهدوءٍ. صمتٌ هجين بدأ يغلّفُ أجواءَ المكان. تراقصَتْ حبّاتُ المطرِ على أوجاعِ نافذتِهِ. تذكَّرَ بيتَه العتيق، كيفَ كانَ المطرُ يهطلُ بغزارةٍ هائجة. ينظرُ إلى "بَقْبَقْوكاتِ الرَّبيع"، إلى فقاعاتِ الدَّوائرِ المتشكِّلة مِنْ تدفُّقاتِ زخَّاتِ المطرِ، وتذكَّرَ مقطعاً عذباً، مِنْ أنشودةٍ طفوليّة كانوا يردِّدونها أثناءَ هطولِ هكذا زخّاتٍ مطريَّة. 
"مطرْ مطرْ قيقي  رشّْ عَلْ دنيبيقيْ.."، (: أيُّها المطر، أهطلْ على ضفائري، ...). وفيما كانَ يردِّدُ هذه الأنشودة، تربَّصتْ دمعتان في محجريه. شهقَ شهيقاً عميقاً، متمتماً بصوتٍ ايقاعيٍّ خافِتٍ، "مطرْ مطرْ قيقيْ، رشّْ عَلْ دنيبيقيْ .."، أسدلَ السِّتارة، عائداً إلى نومِهِ، طافحاً في عبورِ خمائل الحلمِ، لعلّه يغفو على اِيقاعاتِ حبّاتِ المطرِ الَّتي تراءَتْ لهُ مِنْ بعيدٍ، مسربلةً بذاكرةٍ لا تُمحى!

ستوكهولم: 7 ـ 11 ـ 2007

5 ـ قَتْلُ حُبورِ الطُّفولة

هَرَبتْ زهرة من هولِ القصفِ، تجاوزَتْ عامها الرَّابع منذُ شهورٍ، دخلَتِ الأزقّة الضَّيّقة، انزلقَتْ أمّها على شظايا الرُّعبِ. تاهَتِ الطِّفلةُ عَنْ أمّها، عبرَتْ بنايةً متاخمةً لديرٍ قديمٍ، راودَها أنَّ العدوَّ لا يقصفُ بيوتَ الله وما يجاورُها. 
فيما كانَتْ تعبرُ صحنَ الدِّارِ، استقبلتها قذيفة مجنونة، هطلَتْ عليها من جوفِ السَّماءِ. 
تصدّعَ سقفُ البيتِ وتخلخلَتْ عظامُ صدرها الطَّريّ. تمسّكَتْ بلعبتِها، لَمْ تتركْها رغمَ انكساراتِ العظامِ. 
عبَرَتْ فضاءَ السَّماءِ تبحثُ عَنِ الله، هَلْ رأتْهُ مذهولاً؟!

ستوكهولم: 31 . 7 . 2006 

6 ـ وئامُ البهائمِ أرقى مِنَ البشرِ

يقصفونَ أطفالاً بدونِ رحمةٍ، كأنَّ قلوبهم مصنوعة مِنَ النَّارِ والبارودِ، ودماءهم مستحلبة من أنيابِ الثَّعابين! 
عجباً أرى، كيفَ ينامونَ بينَ أحضانِ أطفالهم، ألا يشاهدون حماقاتهم على شاشاتِ التِّلفازِ، ألا يتصوَّرنَ هؤلاء الأطفال ولو لثوانٍ معدوداتٍ أنَّهم براعم الله المنبعثة إلينا مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ؟! 
ماتَتْ قلوبهم، وتحوَّلتْ دماؤهم إلى سمومٍ ولا سمومِ العقارب وأفاعي الأدغالِ! 
مندهشٌ مِنْ ساسةِ هذا الزَّمان، مندهشٌ مِنْ غباءِ الكثيرِ مِنَ البشرِ. يراودُني دائماً هذا السُّؤال، كيفَ تعيشُ البهائمُ معَ بني جنسِها في وئامٍ، ولا يستطيعُ الإنسانُ أنْ يعيشَ معَ بني جنسه في وئام. 
كَمْ مِنَ القرونِ يحتاجُ الإنسانُ كي يصلَ إلى مرحلةِ البهائمِ ليعيشَ مع بني جنسهِ في وئام؟! 

ستوكهولم: 31 . 7 . 2006 

7 ـ طاساتُ السَّليقةِ

كنّا نهجمُ على دستِ السَّليقةِ، كأنّه من مخصَّصاتِنا. نحملُ طاساتِنا وابتساماتُنا مرسومةٌ على وجوهِنا وقلوبِنا وأرواحِنا. طاستي أكبر من بقيّة الطَّاساتِ، يعلِّقُ صاحبُ السَّليقةِ بدعابتِهِ المعهودةِ، لماذا طاستُكَ أكبر من بقيّة الطَّاساتِ؟!                                                                             
أجيبه بعفويِّةٍ طفوليَّةٍ لأنّها حصّتي وحصّة أختي الصَّغيرة. يبتسمُ لي، ثمَّ يقبِّبُها لي على التَّمامِ. يفوحُ منها نكهةُ البخارِ، شهيّةٌ ولذيذةٌ. أرشرشُ عليها قليلاً مِنَ الملحِ ثمَّ آكلُها بملعقةٍ صغيرةٍ بشهيَّةٍ مفتوحةٍ. طفولةٌ بديعةٌ، مطحونةٌ بعفويَّةٍ رائعةٍ، كأنّها مسترخية فوقَ زنابق نيسان في أبهى صباحاتِ العيدِ. حنينٌ عميق إلى بهجةِ الطُّفولةِ رغمَ شظفِ العيشِ الَّذي كانَ يحومُ في أرجاءِ المكان!!!                              
                         
ستوكهولم: 2003
8 ـ انشراخُ الأحلامِ

مرّ بجانبِ سورِ الحديقةِ شارداً، تراءى له من بعيد سديمُ الأحزانِ مثلَ فيلم سينمائي، على مقربةٍ منه عاشقان هائمان في بوحِ العناقِ، تذكَّرَ احتراق أجنحته وأجنحة الشّبابِ والشَّابات هناك، حيثُ المراهقون غائصون في أوجِ الاشتعال، كأنَّ أحلاههم تحترقُ بينَ ألسنةِ النَّارِ. 
ضجرٌ من تفاقماتِ الهموم، من أنينِ المساءاتِ، من بؤسِ الصَّباحاتِ المرافقةِ انشراخِ الطُّموحِ، طموحاتٌ مطوّقةٌ بأهدابِ الموتِ، تولدُ الآمالُ ميّتةً منذُ انبلاجِ المهدِ. 
وقفَ متنهِّداً بحسرةٍ حارقةٍ، تساؤلاتٌ عديدةٌ تنبعثُ مِنْ جراحِ الرُّوحِ. تنسابُ دموعُه على خدودٍ حزينةٍ، يتوهُ في خضمِّ الأحزانِ المستولدةِ مِنْ شفيرِ الحروبِ والصِّراعاتِ المريرةِ، والعاشقان عندَ أزاهيرَ الحديقةِ يزهوانِ في تجلِّياتِ العناقِ!  

ستوكهولم: 6. 7 . 2012

9 ـ حنينُ الرُّوح 

إسترخَتْ أحلامُه فوقَ هدوءِ اللَّيلِ، نقرَتِ الطُّيورُ نقراتٍ خفيفة على نافذتِهِ، كأنَّها تبلِّغُه سلاماً من خلفِ البحار. 
تناهى إلى مسامِعِه مثلَ الغمامِ هديلُ الحمائمِ الَّتي كانَتْ تزِّينُ أسوارَ بيتِهِ العتيق. حبسَ أنفاسَهُ ليتأكَّدَ فيما إذا يسمعُ هديلَ الحمائم، أمْ أنَّ هذا الإيحاء انبعثَ من وحي حنينِ الرُّوحِ إلى ذاكرةٍ مشلوحةٍ بعيداً فوقَ أزقةٍ دافئةِ الأحضانِ لعقودٍ من الزَّمان!

ستوكهولم: 6 . 7 . 2012

10 ـ أزهى تجلِّياتِ العناقِ

زهرتان مخضّبتان بعبقِ الرِّيحانِ، يشمخان فوقَ نهديكِ العاجيَّين. أنتِ كائني الجَّميل، لوحتي الغافية فوقَ خميلةِ حلمي المسترخي فوقَ مروجِ الذَّاكرة. تشبهينَ شجرةً وارفةً بأشهى الثِّمارِ، ثمارُكِ أشهى مِنْ نكهةِ التِّينِ، تلالُكِ مبرعمةٌ بأزاهيرَ الحياةِ، عيناكِ غيمتانِ غافيتانِ فوقَ أسرارِ حبرِ القصيدِ، منكِ يستمدُّ قلمي عطشُ الأرضِ لشهوةِ المطرِ. 
أراكِ تنسابينَ في يراعي مثلَ ينبوعِ فرحٍ، متدفِّقٍ مِنْ مآقي السَّماءِ. أنقشُ في خدِّيكِ مهاميزَ شوقي، وأرسمُ قبلتي فوقَ بسمةِ الرُّوحِ، حيثُ قلبكِ في أوجِ حنينِهِ إلى مهجةِ الإبتهالِ، يرفرفُ مثلَ عصافيرَ الخميلةِ شوقاً إلى ليلي الطَّافحِ بالأغاني. 
تعالي عندما ينامُ اللَّيلُ على إيقاعِ الأماني، كي أفرشَ فوقَ مقلتيكِ أزهى تجلِّياتِ العناقِ!

ستوكهولم: 6 . 7 . 2012

صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

CONVERSATION

0 comments: