من المرات القليلة التي أجد بها نفسي غير قادر على البداية بكتابة مقال ما، والسبب أن الفكرة تحمل بعض الغموض في طياتها، غموض وليس تعقيد، حيث يمكن للعديد من الأشخاص عدم استصاغة الفكرة بدلالاتها الحقيقية، كوني لمست ذلك في حواراتي مع العديد من المثقفين وغير المثقفين، ولذلك كان لزامًا البحث عن شئ من المرونة في تحديد الفكرة، وتسلسلها، ومن ثم تحليلها وسردها بأسلوب يمكن للقارئ من خلاله الفهم والاستيعاب، وربما معظم الطرح السياسي الذي أحاول الاستناد إليه يميل إلى الواقعية والتوازن في تناول الأمور بعيدًا عن لعبة الاستغماية السياسية خلف الشعارات البراقة، التي لا تستهدف سوى محاكاة عواطف الشعوب، والقراء، وخاصة إننا نكتب لشعوب عربية، تحتكم لعواطفها في معظم الحالات، ونادرًا ما تستدعي لغة التبصر، وحكمة العقل والتريث في النظر للأمور بمسمياتها، ووصف الشيء بما هو عليه، ولذلك فدومًا نحن منتصرون، ولم نهزم قط في أي معركة نخوضها أو خضناها، والدليل على انتصاراتنا أن إسرائيل لا زالت قائمة، وإنها لا زالت أقوى اقتصاديًا، وسياسيًا، وعسكريًا، وإعلاميًا من كل المنظومة العربية، التي ومنذ ما يقارب من اثنان وستين عام ونحن نحاول خلق التوازن العسكري معها، وأيضًا انتصاراتنا الجانبية (الفرعية) فالجزائر حققت نصر مبين على مصر بكرة القدم، ولا زالت المعركة على أشدها ما بين الحق والباطل، وكذلك لا زال أهل جنوب اليمن يبحثون عن الانفصال، والسودان يبحث عن الذات، والصومال يبحث عن الهوية، والعراق خرج شامخًا منتصرًا .....إلخ من معالم الانتصارات الكبرى والمستمرة.
الشيء القطعي الذي لا شك أو ريب فيه إننا انتصرنا في حرب 1948م وأعلنا تطهير فلسطين من عصابات اليهود، وانتصرنا في حرب 1967م ودمرنا آخر معاقل العصابات اليهودية ووحدنا القدس بغربها وشرقها، وانتصرنا في حرب 1956م وحررنا قناة السويس من الوصاية الاستعمارية، وانتصرنا في حرب الكرامة، وأرعبنا إسرائيل، وانتصرنا في حرب 1973م وحررنا سيناء والجولان، وانتصرنا في حرب 1982م وعادت قوات الثورة الفلسطينية متأهبة للعبور إلى فلسطين، وانتصرنا في حرب تموز( وأصبح لبنان قوة عظمي)، وامتلأت شوارع تل أبيب بالقتلى والدمار، وانتصرنا في حرب غزة 2008م ورفعنا سارية العلم الفلسطيني عاليًا في حيفا ويافا وعكا والناصرة، ووحدنا الوطن، وأصبحت إسرائيل حتى راهن اللحظة لا تقوى على مقارعتنا في كل الجبهات، فحدودها اشتعلت، ولم تعد تستطيع الراحة لحظة من جحافل المقاتلين، وزخات الصواريخ، والراجمات، وسمائها ترتعد من هدير الطائرات، وبحرها يثور من أشرعه سفننا، وقوضت إسرائيل في بقعة جغرافية أسيرة للانقسام السياسي بين أحزابها، وحصار شرس يفتك بشعبها، ولا تقوى على الحركة دون بطاقات(vip ) التي تمنح لها من المنتصر الفلسطيني ...........إلخ.
كل هذه الانتصارات وليدة سؤال أيهما الأولى بالحرية الأرض أم الإنسان؟ أكاد اسمع الكل يقول بصوت واحد الأرض أولى بالحرية، لن يشذ عن القاعدة أحد، لأن الأولوية للأرض حتمًا وقطعًا، نضحي بالبشر لأجل الأرض...من كرم الله؟ الأرض أم الإنسان؟ ولماذا خلق الله الإنسان ليرث الأرض ويعمرها، أم ليموت فداء لها ولأجلها؟ وهل الحجارة أكرم عند الله من الإنسان؟ " إن هدم الكعبة حجرًا حجر أهون عند الله من إراقة دم المسلمين"، والكعبة هي أقدس الحجارة ماديًا ودينيًا على وجه البسيطة، وهي بيت الله الحرام.
وهل المناضل الأممي تشي جيفارا قاتل وانتقل من بلد لبلد، واستشهد من أجل الأرض؟ فالأرض التي قاتل من أجلها جيفارا لم تكن محتلة، بل كانت محررة، ولكن الإنسان الذي عليها كان مضطهد، ومستعمر بكرامته، وحريته، ويعذب ويهان ويظلم، لذلك قاتل لحريته.
لست طوباويًا، أو خياليًا في نظرتي للحياة وللحرية، ولكنها وليدة المفارقة الفعلية للحرية بمفهومنا، وممارسة الحرية بين الغرب المتقدم، والشرق المتخلف، فالغرب حقق ثورته الاجتماعية، والفكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية، وفرض هيمنته، عندما حرر الإنسان، ولم يحرر الأرض، لأن الأرض لم تكن مستعمرة أو محتلة، بل كان الإنسان مضطهد، ومستعبد، ولذلك كان يغرق الغرب بالتخلف، والرجعية، والفساد، وعندما تحرر الإنسان بدأ يفرض سيطرته على الشرق، مؤمنًا بأن الاستعمار لا يكون للأرض بداية، وإنما للإنسان، ولذلك استعمر الإنسان ثقافيًا، وسياسيًا، واقتصاديًا ومن ثم استعمر الأرض، لأن من يستعمر الفعل لا يخشي ردة الفعل.
فنتأمل الإنسان في الشرق في نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، لا زال يعاني من الأمية، الفقر، الاضطهاد، الاستعباد، التنكيل، مصادرة حقوقه الإنسانية، هدر كرامته، يعيش ذليل في وطنه، مقيد بقوانين الطوارئ، مستعبد بمفاهيم المصالح العليا للأرض وللوطن، واي وطن نريد؟!!!
الوطن الذي نقمع فيه، ونعذب فيه، ونستعبد فيه، ونهان فيه، ونموت عليه كعبيد؟ أم الوطن الذي يحتوينا بعزة وكرامة، ويمنحنا حقوقنا الإنسانية، ويحافظ على هويتنا الإنسانية؟
أي وطن إذن نريد؟ وأي حرية نقاتل لأجلها؟ حرية الأرض التي تتكون من تراب، وحجار يفنى الإنسان ويهان لأجلها، أم حرية الإنسان الذي يمتلك النضال، والبناء، أم حرية يتكرش منها طبقة تستعبد الفقراء والمضطهدين باسم الأرض.
عندما تمارس الحريات البشرية، تحرر الأرض لأن من يمتلك الحرية والحقوق هو من يحمل السيف ويعشق البارود، ففاقد الشيء لا يعطيه، فكيف سيعطي الإنسان وهو فاقد لأمنه وحريته الشخصية، فرسولنا الأكرم – عليه الصلاة والسلام- حرر الإنسان أولًا، أم حرر الأرض أولًا؟ وهل منح الأرض الحق على حساب كرامة الإنسان وحقوقه؟ وهل القوانين الوضعية والأفكار التقدمية وضعت لأجل حرية الأرض دون الإنسان؟ وهل أباحت اضطهاد الإنسان لأجل الأرض؟ فالوطن ليس حدودًا جغرافية طبيعية أو اصطناعية، فالوطن هو الأمن، والعدل، والكبرياء، والحقوق ..............................
0 comments:
إرسال تعليق