الحقيقة أن المشكلة ليس مبالغاً بها، فعمالة الأطفال ظاهرة استفحلت وامتدت لتشمل جميع المهن ولها وجه آخر في قطاع غزة بعد أن انخرط الأطفال على مختلف أعمارهم وعلى نطاق واسع في أداء أعمال مختلفة ومتعددة في إجازة الصيف، وأصبحوا يعملون أعمال شاقة ومرهقة وخطيرة، منها البيع في الطرقات وعلى أبواب المساجد والمحال وعلى الأرصفة ويجوبون، ويركضون هنا وهناك وراء المارة وبين السيارات المسرعة وعلى شاطئ البحر ينتظرون لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة ليبيعوا ما لديهم من بضائع ومأكولات، يزاحمون، وينافسون بعضهم البعض، وآخرون اندمجوا في مساعدة ذويهم في المصانع والمتاجر والمطاعم والورش والأسواق الشعبية، والبعض الأخر وجد في مهنة العتالة رزقاً مربحاً، وفي أخطر تلك الأعمال هو انتشار أعداد كبيرة من الأطفال المتجولين قرب الإشارات الضوئية وفي الأماكن العامة، وقد لفت انتباهي بشدة مشاهدة أحد الأطفال الذي لا يتجاوز عمره الخمسة أعوام يحمل بين يديه مثلج البراد ويتوسل المارة أن يشتروا منه..!
لم تقتصر عمالة الأطفال على الذكور فقط بل أمتد أيضاً ليشمل الإناث، لكن بسبب طبيعة المجتمع الذي لا يسمح بدفع البنات للعمل في الشارع خوفاً عليهن من المخاطر كما هو متعارف، لكن من خلال مشاهدتي لأطفال من البنات لا تتجاوز أعمارهن السادسة، الأولى كانت تعمل ببيع الملابس والثانية كانت تحمل في يدها بعض البالونات وذلك في متنزه حي الشجاعية بمدينة غزة تتوسل المتنزهين للشراء، لتتضح خطورة الآفة التي تنتشر يوماً بعد يوم.
وآخرون بحثوا عن وسائل رزق في بلد تتفشى فيه البطالة والفقر والحصار والنمو السكاني، إلى جانب الفراغ العائلي، وباتوا يؤدون أعمالاً قاسية ومحفوفة بالمخاطر والأمراض حيث يقلبون طوال النهار الحاويات ومكبات النافيات فيجمعون المخلفات بما يمكن الاستفادة منه في إعادة تصنيعه وبيعه، وقد كان ثلة من الصبية ركنوا عربتهم الكارو وأخذوا ينقبون كأنهم يبحثون في مناجم للفحم على "إبرة في كومة قش" ليجمعون الحصى، بينما ثانٍ أخذ يكربل التراب بغربال ليفصل الحصى عن التراب، ومن ثم بيعه إلى مصانع الطوب أو الكسارات المنتشرة في قطاع غزة..! وإجمالاً تشكل هذه الأعمال ضرراً بالغاً على صحة الطفل وعلى نموه البدني والعقلي والروحي والمعنوي والاجتماعي، وتؤدي إلى الانحراف السلوكي، وتترك أثاراً أخرى على مستقبله، وربما تحدد مصيره التعليمي والمهني .
ليست هذه الحالة الوحيدة لعمالة الأطفال التي بتنا نشهدها في جميع الأماكن دون استثناء، فهناك أعمال متعددة يقومون بها الفتية الذين ينتظرون إجازة الصيف بفارغ الصبر بعد انتهاء العام الدراسي ليقوموا بجبي الأموال لشراء احتياجاتهم الخاصة بعد أن جعلتهم الظروف مسؤولين عن أنفسهم وذويهم مقابل مبلغ مالي يسد به رمق عائلتهم الفقيرة.! لكن المفاجأة اليوم هو إقحام المرأة إلى سوق العمل الشاق، متحملة قسوة الحياة وهمومها من أجل لقمة العيش التي يخطئ من يظن بأنها سهلة المنال في زمن الجوع والفقر لتزج نفسها في عمل لا يقدر على أدائه إلا الرجال الأقوياء والأشداء، فمن جديد العمل المنتشر الذي يجوب قطاع غزة، وهو جمع الحصى والحجارة والحديد ومواد البلاستيك التالفة وبيعها لإعادة تصنيعها.
تعجبت لأمر المرأة حينما أبدت لي رضاها واعتزازها بالعمل طالما أنه شريف ولا يدفعها للتسول والمذلة، مضيفةً أنها تخرج كل يومٍ باكراً للعمل، فعندما تشاهد طوبة أو تصل منطقة بها كومة من الركام تقوم ابنتها ذات السبعة أعوام بمتابعة قيادة عربة الكارو بينما هي تقوم بحمل الحجارة ومخلفات الهدم من ردم وتضعها على العربة الكارو وهكذا حينما تجمع كماً لا بأس به تذهب إلى أحد الكسارات وتبيع ما جمعته من مخلفات، أما مواد البلاستيك فهي تضعها في كيس آخر وتبيعه إلى مصانع البلاستيك.
ونتساءل في النهاية أليس من حق الطفل أن ینمو طبیعیاً وأن يعيش طفولته ویتمتع بخیرات المجتمع في أجواء الحریة والكرامة والترفيه واللهو ويلقى الرعاية الأسرية من الحب والاستقرار الذي يحتاجه بقوة في سني حياته الأولى.؟
كاتب وباحث
0 comments:
إرسال تعليق