من يتأمل ما يجري في الجنوب هذه الأيام يحزن بدون شك؛ ليس على من "يلحس المبرد ويتلذذ بطعم دمه" فقط، بل على من يشحذ سيف الجلاد ويدفعه ليستعجل بقتله، غير عابئ بالذين يحاولون تخليصه من القتل المحتوم لا بل هو يهاجمهم ويتوعدهم إن هم قاموا بأية حركة لتأخير عملية القتل هذه.
لن نخوض هنا في مصطلحات حزب الله وتسمياته ولو كنا نعلم أن "الأهالي"، أصحاب المشاكل، ليسوا سوى جماعته المندسة بين الأهالي الحقيقيين، ولكننا نحاول أن نقرأ في عيون المساكين من هؤلاء الذين كدحوا لسنوات طويلة في لبنان وخارجه لكي يستقروا في هذه المنطقة الجنوبية العزيزة، والتي ما فتئت محرومة من الرفاه، والرفاه نتاج طبيعي للاستقرار وتابع له وليس العكس - ومهما استقدمنا من الأموال والهبات والمشاريع، ومهما أقمنا من البنى التحتية والفوقية، بدون استقرار داخلي أولا ومن ثم استقرار المحيط، فكل ما نفعله يذهب سدىً مع أول هبة ريح تعصف بالمنطقة ومن أين أتت هذه الريح - نحاول أن نقرأ، قلنا، نظرات الخوف والقلق على المصير التي لا يخفيها العنف المسيطر على القرى حيث يتحول الرفض لكل الحلول إلى نقمة مبرمجة على رمز الحماية الدولية الحقيقية التي تسعى إلى إزالة السبب الذي لا شك سيؤدي إلى دمار الأحلام وسفك الدماء البريئة من أبناء هذه المنطقة.
الجنوبيون المحرومون منذ وجودهم لم يعرفوا بعد، على ما يبدو، هذه المعادلة البسيطة بين الرفاه والاستقرار، فقادتهم الحاليون تعلموا التبعية واعتقدوا بأن الرفاه مظهرا خارجيا وعملية تفرض بالقوة، وهو بالحقيقة حالة يعيشها المرء في داخله كما سبق وقلنا، وتبدأ معه عندما يتعرف كيف يقبل الآخر ومن ثم كيف يقبل الواقع الذي حوله كما هو ثم يحاول بجهده المتواصل أن يغيره نحو ما يعتقد بأنه الأفضل له، أي ما يريحه هو، وليس ما يرى الغير أنه يناسبه أو ما قد يرى الآخرين يقومون به.
الجنوبيون محرومون بالتأكيد في هذه الأيام من القادة ومن أصحاب الرؤية، ولذا فهم يتخبطون بالرغم من كل أموال العرب وإيران والغرب، وبالرغم من كل ما ينهب من أموال الدولة والشعب ومن الأموال "النظيفة" والطاهرة وغيرها، وبالرغم من ظواهر الثروة البادية في الشوارع المزفتة طبقة فوق أخرى، وفي الأبنية الكبيرة التي تزينها أسطح القرميد وتحيطها الخضرة والسياجات، فإن حياتهم اليومية ومشاريعهم المستقبلية متأرجحة ومترجرجة لا تعرف الاستقرار، ولذا فهم بالطبع لن يعرفوا الرفاه.
الجنوبيون الذين تربوا مؤخرا على ثقافة الحقد والغزو، ثقافة مد اليد والاستكبار، وثقافة الاستعلاء والتشوّف، لن يفارقهم الذل للأسف الشديد، لأنهم لم يبلغوا بعد حالة القناعة الداخلية وقبول الواقع، ولم يصلوا بعد إلى حالة الملّاك الحر الذي يشعر بالسيادة والاستقلال ويقدّر قيمتهما وقيمة ما يملك، فهم لا يزالون يعيشون حالة البضاعة المعروضة لمن يشتري، وحالة الأجير المستخدم لمن يدفع، ولذا فإن البلاد برمتها تعيش حالة السوق المفتوح لتصفية مشاكل الآخرين بدمائهم هم وبأبخس الأثمان.
الجنوب هو لب القضية اللبنانية، وهو مركز الداء والدواء، وهو مشكلة البلد ومدخل الحل فيه؛ لأن الأكثرية من أهله لم تعرف بعد طعم المواطنة، ولا لذة الانتماء، ولم تدرك ماهية الاستقرار وأهميته، والبناء الذاتي ورسم المستقبل، وكل ما يقوله ويفعله حزب الله لا يعدو عن تنفيذ لأوامر أسياد هم الآن فرسا وعجما وقد كانوا قبلهم ثوار فلسطين أو البلاشفة والناصريين ومن يدري من سيأتي بعدهم؟
حرب حزب الله على القوات الدولية التي قيل فيها الكثير هي بداية النهاية لكل احلام الجنوبيين، فالثورات وحركات المقاومة عادة تهدف إلى إخراج قوى الاحتلال لا إلى اختلاق ظروف لعودتها. فمن يقول بأن القرار 1701 كان لوقف حرب إسرائيل على لبنان يعرف جيدا بأن أي مساس بهذا القرار إنما يؤدي إلى عودة هذه الحرب. وإذا كان حزب الله قد أتم تدريباته وتجهيزاته وهو واثق الآن من قدرته للقضاء على إسرائيل فإنه على حق بمهاجمة قوات الأمم المتحدة لكي يحضّر الظروف لتنفيذ هذه المهمة، وعندها قد يرتاح الجنوب والفلسطينيون والعرب من المشاكل المستمرة إلا إذا قرر الإسرائيليون التمسك "بحق المقاومة". ولكن الخوف هو أن تكون إسرائيل أكثر جهوزية من حزب الله وأكثر تعبئة لقدراتها وألا يستثني ردها أحدا، لا في قرى الجنوب ولا في مدن الشمال، فماذا تكون جنت "براقيش"؟
عندما هددت إسرائيل بضرب لبنان للرد على أي تحرك لحزب الله وقامت من ثم بمناوراتها في طول البلاد وعرضها لم يهدأ للحكام في لبنان بال فركضوا إلى الأمم المتحدة وفرنسا يحذرون من الاعتداء ويطلبون التدخل، ما يعني أن لبنان ليس جاهزا للحرب ولا أهله يتمنون وقوعها، فلماذا إذا يقوم "الأهالي" في الجنوب بتحضير الأجواء لهذه الحرب؟ وكيف سيقدر العالم أن يساندهم ويدافع عنهم عندما يهاجمون قواته الموجودة أصلا للدفاع عنهم ويذلونها وبفرضون عليها شروطا لا يقبلها أحد على نفسه؟ وماذا يعتقد الجنوبيون أن يكون موقف فرنسا بالذات التي هوجم جنودها وضربوا؟
من المؤسف أن يتحول كل المنطق الذي عرف عند اللبنانيين وخاصة رجال السياسة، ومنهم الكثير من رجالات الشيعة الذين عشنا معهم وتشاركنا السراء والضراء، إلى مجرد أداة لتهييج العواطف واللعب على الكلام والتشاطر في أمور مصيرية يعرف الصغير والكبير أهميتها ودقتها، ولكن السياسيين والمنظورين بين أبناء الجنوب الأعزاء يتلطون اليوم خلف حزب الله ويتركونه يسوق "القطيع" إلى الهاوية بدون هدف إلا تحويل الأنظار عن مشاكل أسياده وتنفيذ أوامرهم بدون مناقشة.
الجنوب يدخل مرة أخرى ساحة الصراع وهذه المرة يصرّح السيد بأن صواريخه قادرة على ضرب البر والبحر، ومنع الطيران من العودة إلى مدارجه في حال حاول الخروج، وقصف كل شبر من أرض "العدو". إن الحرب في الجنوب قد أعلنت وبدأت فصولها ولكن لا يزال وجود قوات الأمم المتحدة يمنع حصول الاشتباك المباشر ولا بد من إخراج هذه القوات لكي يتم الاحتكاك وتنطلق الشرارة. فأين سيذهب "الأهالي" هذه المرة ولم يعد هناك مكان ممنوع على حزب الله من جبال صنين والباروك حيث يقال بأن الرادارات الإيرانية موزعة هناك إلى أعالي بلاد جبيل البترون حيث تنتشر جماعات موالية للحزب إلى البقاع حيث تقبع الصواريخ الطويلة المدى التي ضج العالم بأخبارها؟ "الأهالي" لا بد محشورون هذه المرة فحتى دمشق مهددة بالدخول في الحرب القادمة وطهران كذلك، فأين الرحيل؟
من جملة الاشارات العملية لهذه الحرب وزعت إسرائيل في نهاية الأسبوع لائحة أولية بأسماء القرى والأماكن التي جهزها حزب الله بالمخازن والتي ستكون بدون شك أول من يتعرض للعمليات الحربية، وإذا كانت استراتيجية حزب الله الهجومية والدفاعية على السواء تعتمد على غطاء "الأهالي" وهؤلاء قد أظهروا رفضهم لحماية القوات الدولية فإن النتائج المتوقعة ستكون بدون شك وخيمة.
يبقى أننا لا نطلب من الله "رد القضاء بل اللين فيه"، رحمة بالمساكين من أهلنا في الجنوب الذين لا يعلمون أين يؤخذون. فليستعد المنظرون العسكريون وليشحذوا أقلامهم وأفكارهم لتبرير الهزائم وخلق التسميات الجديدة للانتصارات الوهمية في جنازة الوطن الذي لم ينس بعد نتائج الحروب السابقة ولو سميت كلها انتصارات الآهية.
تورونتو - كندا
0 comments:
إرسال تعليق