صراعُ الحضارات، أقبحُ القباحات/ صبري يوسف



أتذكّر أيام زمان، كنتُ أتناقش مع الزُّملاء والزميلات بعض قضايا التطوّر والتحضُّر والكثير من هموم المرأة والظلم الجاثم فوق رقبتها الطريَّة، وإذ بي أحياناً كنتُ أصادف بعض النِّساء، أو أنثى ما، تقف في وجه رؤاي قائلة يا أستاذ أنا قانعة ومبسوطة هكذا، بكلِّ هذه الضغوط والحال والأحوال، ولا أريد تغييراً أو تطويراً على أحوالي والخ .. كنتُ آخذها برحابة صدر، وأردُّ عليها، يا عزيزتي أنا لا أدعو إلى تحرير أنثى مثلكِ بل لا بدَّ من وجود هكذا نماذج في عالمنا وإلا كيف سنعرف أن مجتمعنا ما يزال متخلِّفاً، ومسروراً في تخلفه، وكنّا نغوص أحياناً في كوميديا نقاشيَّة ساخرة، والطريف بالأمر أن يقبل المرء واقع حال تخلفه والظلم الجاثم عليه، فكيف تدّعي أنثى ما في الكون انها سعيدة بحالها وواقعها عندما يكون واقعها مريراً؟ ولهذا فإنَّنا نحتاج في مثل هذه الحالة إلى جهود مضاعفة لتغيير صيغة تفكير الكائن الحي أنثى كانت أم رجلاً!

المبدع لا يملك مفتاحاً سحرياً، مثله مثل أيّ كائن حيّ، لكنَّ الفرق بينه وبين الإنسان العادي، انه مبدع، والكارثة الكبرى أنَّ المبدع نادراً ما يكون مقبولاً لدى أيَّة سلطة سواء كانت السّلطة سياسية أو دينية أو مدنيّة، أو مجتمعية الخ .. لأنَّه غالباً ما يتجاوز برؤاه صيغة تفكير واقعه وهو يجنح نحو عوالمه الفسيحة الرَّحبة بعيداً عن تقيُّدات آخر زمن، والمبدع الحقيقي يغوص في عوالم جديدة وعرة ليقدِّم أبهى ما لديه للمتلقِّي، لكن المتلقِّي كائناً مَن كان لا يستوعب أحيانا كثيرة هذه الفضاءات التي يغوص فيها لهذا تراه غير مقبول أحياناً بطروحاته وأفكاره ورؤاه، فمثلاً كوبرنيكوس، طرح فكرة دوران الأرض، فاعتبروه مجنونا يهذي؟ وسقراط من الفلاسفة العمالقة حكموا عليه بالموت مسموماً، وهكذا فلكي يحقِّق المبدع دوره كاملاً فإنّه يحتاج إلى مؤسَّسات تدعم رؤاه وأفكاره وتوجُّهاته لا أن تبقى مؤسَّسات في وجهه وقوى فاقعة وداكنة في طريق تبصره فلا يجد والحالة هذه سوى الرَّحيل نحو عالم يسوده الهدوء والفرح والنور والإبداع الحقيقي، لأن المبدع جلّ تفكيره الإبداع وليس الجاه والسلطة والمال والشهرة .. لكن بعض هذه المسائل تتحقق كتحصيل حاصل، كالشهرة والمال والموقع ... ولكن هو في العمق يهدف إلى خلق نصٍّ جديد غير مطروق، إبداع فكرة غير مسبوقة وهكذا نراه في سباق مع ذاته ومع الحياة!

لو عدنا إلى عوالمي في الكتابة، ببساطة هدفي من الكتابة هو المتعة أولاً وأخيراً، لأنَّني أشعر عندما أغوص في عوالم النصّ، بنوع من المتعة والفرح والبهجة والنشوة، لا تعادلها أيَّة نشوة على وجه الدُّنيا! لهذا فأنا عبر الكتابة أحقِّق رغبة ومتعة خاصّة وفعلاً لا أكترث بالمتلقِّي لكن هذا الاكتراث يأتي كتحصيل حاصل فنصِّي بالنتيجة يبقى ملكَ القارئ أثناء قراءته، ولكني مع هذا لا أتوقّف عند ردود فعله كثيراً، خاصة عندما تكون انطباعاته بعيدة عن عوالمي التي أهدف إليها، وأنا أرى أنَّ من أكبر مشاكل الحياة والكون والساسة والشَّرق والغرب وحوار الحضارات أنَّ الأطراف المتشابكة لا تصغي إلى بعضها بعضاً بشكل حضاري ولا تريد أن تستفيد من خبرات بعضها بعضاً، فكلُّ طرفٍ يطرح نفسه عبقري عصره ولا يصغي إلى الآخر الذي تجاوز مراحل العبقرية لأنه في مرحلة تشكيل وصياغة أسس العبقرية والتطور الكوني، ببساطة عوالم الشرق يفتقر إلى نقطة جوهرية ومحورية في صراعه مع العولمة والكون والحداثة وما بعد الحداثة والانترنت والفضائيات وعشرات قضايا تطوير وتغيير الحياة، وهو أي عالم الشرق وأقصد المؤسسات الرسمية والحكومية والذين هم في موقع المسؤولية على كافة الأصعدة، لا يحاولون الاستفادة من منجزات العصر وتقنيات العصر وتطورات العصر، حتى الديموقراطية يفهمونها خطأً والحرية لا يفهمونها إلى بشكل أعوج، فمثلاً حالما يتحدّث كاتب ما يقيم في الغرب، فكرة ما حداثوية تطورية وفيها نفس ديموقراطي سرعان ما يُتّهم بتحيُّزه للغرب والخيانة، وأنه يحمل أفكار هدّامة، والاتهامات جاهزة دون أن يقلِّبوا أفكاره ويقدِّموا دراسات تحليلية عن رؤاه، فهل كانت أفكار كوبرنيكوس هدّامة عندما طرح فكرة كروية الأرض؟ من هذا المنظور لا أتوقَّف عند ردود فعل المتلقِّي خاصَّة إذا كانت قاصرة، فلا يمكن لمتلقي عادي أن يتقبَّل لوحات تشكيلية غارقة في الإبداع، لا يفهم أبعاد وعوالم اللوحة فيأتي ويقول هذه عبارة عن شخبطات! أو يأتي قارئ أجوف في الرؤية ويدَّعي ان محمد الماغوط أو حنا مينة أو عبدالرحمن منيف في كتاباتهم أفكار هدّامة، بالمختصر المفيد، يجب على أية دولة أو أمّة أو مؤسَّسة مهما كانت صغيرة أن تهتم بمبدعيها حتى ولو كان المبدع على صعيد تلحين أغنية بسيطة جدّاً أو كتابة نصّ شعري أو قصّة ما أو لوحة تشكيلية، فالدولة أو الأمّة التي لا تهتم بمبدعيها وبمفكريها هي أمّة في طريقها إلى الزوال والإضمحلال والتقوقع والتخلف، عندها لا يمكن اللحاق ببقية الأمم الناهضة! والأمّة العربية في الكثير من رحابها وتلالها أمّة غير مهتمة بمبدعيها لهذا نجد فيها كل عوالم النهوض من أقتصاد وطاقة بشرية شابة وجغرافية دافئة وملايين الأسباب التي تقود إلى قمة التطوُّر والتحضُّر ومع هذا فهي أمَّة مهزومة أمام فتّاشة من فتَّاشات الدُّول النَّاهضة مثل اليابان والغرب والصِّين.. لماذا؟ لأنها لا تعرف كيف تستثمر إمكانياتها الاقتصادية والفكرية والحضارية والجغرافية وهمّها الوحيد الضغط على مواطنها الذي جل تفكيره أن يحصل على جواز سفر وفيزة إلى دولة من دول الغرب، ولو تمّ تسهيل الخروج والسياحة للمواطن في العالم العربي إلى قارات أوربا وأميركا لأصبح العالم العربي شبه خالٍ من السكان خلال قرن أو قرنين بإستثناء قادة الأمّة وبعض المتنفعين، وأحياناً يراودني أنَّ القادة أنفسهم يريدون أن يشمِّعوا الخيط إلى عالم الغرب لما في الغرب من رفاهية وهدوء وفرح وحياة رغيدة، ولهذا تجد بعضهم يعبرون خلسة إلى عوالم لندن وباريس ويصرفون في ليلة وضحاها ما يكفي لآلاف الأطفال الجائعين في دنيا الشَّرق!

الموضوع مفتوح وطويل والصفحة هنا لا تتّسع للدخول في تفاصيل أسباب خلخلة أجنحة الشرق!!

قال عبد الرحمن منيف، "مَن يملك الشَّرق يملك العالم" ..
نحن في الشَّرق ولا نملك العالم، لماذا؟ لأنَّنا لا نملك الشَّرق الذي هو شرقنا فكيف سنملك ما ليس لنا؟!
لهذا أكتب شعراً، كي لا أملك الشرق ولا الغرب، كي أملكَ نصّاً منبعثاً من وهج الرّوح، من الينابيع الخفيَّة المتدفِّقة من شهقة الحلم! أكتب كي أعيد توازني في الحياة، فأنا إنسان مخلخل الأجنحة وبي آلاف الهموم والجراح والأحزان ودموعي تكفي لسقاية زنابق بيتنا في حوشنا العتيق، أكتب من أجل الخلاص من ضجر هذا الزَّمان، زمنٌ فاقع لا لون له ولا طعم سوى طعمِ الهزيمة! أكتب من أجل البحث والغوص عميقاً نحو كائن غير مرئي متخفّي خلف لهاث حرفي ، كائن له بسمة إنسان، كائن من نكهة المروج البرّية، أكتب لأن الكتابة هي جنّتي الفسيحة التي أسبح في كنفها، لا يعجبني رؤى الشَّرق ولا حتّى رؤى الكثير من قادة الغرب، أكتب كي أهرب من أحزان النهار ومن خفافيش الليل، أكتب لأن الكتابة تغلغلت في أعماقي الخفية وأصبحت عشيقتي السرمدية، هي التي خفَّفت عنِّي الكثير من فظاظة غربتي وفظاظة تعاملات البشر، هي التي أنقذتني من ورطات لا حصر لها، الكتابة هي خشبة خلاصي من فقاقيع هذا الزَّمان، زمن يلهث خلف الفقاقيع، زمن بائس، يحتاج إلى قرون فسيحة كي يفهم أنَّ الحياة لا تتطلَّب كلّ هذه الصراعات السَّخيفة والحروب القميئة، أليس عارّاً ونحن في بداية قرن جديد وما يزال على وجه المعمورة من يفكر بطريقة العصور ما قبل الحجرية، العراق آهٍ .. يا عراق، أبو الحضارات على وجه الدُّنيا وهو يغوص الآن برؤى أشبه ما تكون منبعثة من مستنقعات مستفحلة بالطاعون والسل الرئوي، أول قرية عُمِّرت في الكون كانت في أرضِ العراق أوَّل حضارة كانت في العراق، بلاد ما بين النَّهرين أمُّ الحضارات، الآن بلاد ما بين الحربين وما بين السمّين وما بين مجانين تنطح بعضها بعضاً على توجيهات قادة هذا الكون، كون ينجرف نحو براثن الدمار، كون لا قائد له ، مجموعة من سكارى هذا الزَّمان يتحكَّمون بجغرافية الكون، ونحن معشر الشُّعراء لا نملك سوى أقلامنا نشهرها في وجه قباحات هذا العالم!
هل قرأتم نصّي، أميركا حضارة نارٍ وكبريت؟! هل قرأتم: حصار الأطفال، قباحات آخر زمان؟!.. هل توافقوني الرأي أن صراع الحضارات هو قباحة القباحات، فإلى متى سيدور الإنسان في حلقات فارغة، بعيداً عن قيم الحضارة، وقيم الإنسانية؟ نحن الآن أحوج ما نكون لحوار إنساني كوني، يعيد للإنسان انسانيته، بعيداً عن التعصب الديني والقومي والعرقي والقارّي والشرقي والغربي، ويجب أن ننظر إلى الإنسان كإنسان على إمتداد الكرة الأرضية برمتها، ونضع مخطَّطات ورؤى جديدة لمعالجة مشاكل الفقر والجهل والمرض والحروب والتفجر السكاني وتلوث البيئة، بحيث أن يكون هدف سياسات الكون برمّتها بناء وتطور الإنسان، وإلا سيكون مصير الكرة الأرضية ومصير هذا الكائن الحي ـ الإنسان الدوران في حروب مجنونة إلى أجلٍ غير مسمّى!
أيّها الإنسان العاقل على وجه الدنيا، لقد آن الأوان أن تأخذ دوركَ كاملاً بما فيه خيركَ وخير البشرية!


كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

CONVERSATION

0 comments: