دويلة... وأزهار الصقيع/ عبد العالي غالي


لعلمي بأن إسرائيل أسالت من المداد ما لو جمع لغرقت فيه كل جغرافيتها المطاطة تمددا وانكماشا حسبما يقتضيه التكتيك داخل سطرجة كلها توسع واحتلال. لعلمي بكل ذلك تجنبت وأتجنب الحديث عن هذا الكيان الذي شغل الدنيا بكل أممها المتحدةِ بعثرةً. دويلة بنيت بالحرب وعلى الحرب وللحرب وهلم حروف جر ما أسعفت لغة الضاد أو الضد لا يهم. دويلة قامت على وعد توراتي مقدس مزعوم، واستطاعت في لُحَيْظات أن تدمر كل المقدس في ربوع هذا العالم العربي الهائج خمولا حد البؤس. دويلة تُهاجـَم وتُشتـَم من على كل المنابر، ولا يلبث المهاجمون الشتامون أن يتسابقوا على تقبيل قادتها ولو خلسة أو خطأ كلما أتيحت فرصة عناق... فها دول الطوق ما طوقت إلا عناقا لاقتناعها أن "تل أبيب" هي حافظة أمنها القومي، ولست ادري كيف ولماذا. وحتى "القاعدة" بكل ارثها التفجيري العريق ما سمعناها تفجر في الأرض المقدسة إلا أن يزعم قائل أن الانفجار الديمغرافي ماركة قاعدية مسجلة. فالأرض المقدسة في عرفهم ألذ وأخصب من أن تلوثها أشلاء المفجّرين بفتحة على الجيم طالما أننا نجهل أصحاب الكسرة حقيقة، ولأرض أفغانستان والشيشان ومزارات باكستان مكاييل أخرى... وحتى بعض الألغام البشرية التي انفجرت بشموخ فوق ارض الميعاد، جعلونا نختلف بخبث في مصير أرواحها بين شهادة وانتحار...

واليوم وقد حال الحول ووجبت الزكاة شرعا على ثورات ربيعنا الذي ما تنسمنا من أزهاره غير روائح البارود والجثث المنهوشة والصديد، وكأن هذه الثورات إنما كانت تعدنا بدمار وخراب وجنات تجري من تحتها انهار من الدماء. ها قد بدأت الصورة تتجلى لكل غير ذي فكر أملس، فقد اتضح أنّ كل الرهانات الثورية لا تعني الشعوب إطلاقا، و أن ربيعنا لن ينعكس إيجابا على وضعنا الرث مهما طبلت الفظاعيات وزمّرت منابر المفتين و رقصت بشائر من لقبوا زورا وبهتانا بالمفكرين العرب... فالأفق لا يبشر بصريح تطور ولا حتى بأمل أمان مادام المتخمون بالغنى الريعي البترودولاري هم من يطبل ويزمر ويبشر... وهاهم رجال بلحى كثيفة كثافة التاريخ الإسلامي، وان شذبت بعض الشيء لضرورات المهمات الموعودة، إذ الأصل في المعانق والمقبـِّل أن يكون أملس الوجنتين متوردهما وبلا خجل... أقول هاهم يستخلفون رجالا قلنا وقالوا عنهم أنهم افسدوا علينا العيش دهرا بخنوعهم وخضوعهم لكل املاءات ورغبات الدويلة أعلاه. غير أن العجب العجاب يتبدى لمّا يعلن هؤلاء أنهم ملتزمون بكل الاتفاقيات الدولية التي وقعها أسلافهم المتنحون، وهم في ذلك إنما يلمحون بشكل فاضح لمعاهدات السلام الموقعة مع إسرائيل. ونجدهم لا يلبثون يذكِّـرون ويؤكدون أن جماعتهم ما شاركت في الهجوم الثوري على سفارة إسرائيل في القاهرة، ... كل هذا لأنهم يعلمون أن تسلم مقاليد الحكم في دول الطوق يحتاج شهادة حسن سلوك مختومة في "تل أبيب". أمر أعتقد وبكثير جزم انه مُعد سلفا في المصانع الأمريكية للديمقراطية، إذ لا شيء يترك للاعتباط في عالم الاستراتيجيات عكس ما يحاولون إيهامنا. وهاهو ربيعنا يعيد إنتاج ذات العبث وان تغير العابثون. عبث يبدو أنه يأبى أن يهجرنا مادمنا نصنع بعض أفراح وهمية بكثير مآسٍ وعظيم جثث.

فلتهنأ الدويلة الغريبة غربة بليدة - حتى نحفظ "للغربة" سعة حلمها ونبل أهدافها- مادام اللاحقون كما السابقين غرباء بأكثر من بلادة، إذ يبدو أنهم مصفدون بالوهم وكثير من الوقاحة. ومادمنا لم نبلغ بعد مستوى الحيوانات الأليفة التي تستبدل وداعتها بالشراسة وتكشر عن أنيابها إذا ما حشرت في الزاوية. أما نحن فليس لنا غير الانبطاح بعد الانحناء مادامت مجتمعاتنا مليئة بالمنجمين الذين يعبثون بأحلامنا.

وحتى لا نتهم باليأس والتيئيس نقول أن البديل لن يكون إلا بعواصف ثقافية تخلخل الفكر. ولنجعل من الاختلاف كعبة طوافنا الفكري إن نحن أردنا للحرية سبيلا. فما أظن الحرية غبية عمياء حتى تتخبط في الدماء والجثث لتحط الرحال بين أحضان المستنسخين في المختبرات الأمريكية، وتحت عباءات الشيوخ الأمراء والشيوخ المفتين.

المغرب

CONVERSATION

0 comments: