الإسلاميون والحكم .. المخاوف والتحديات/ د. عيدة المطلق قناة

عاشت الأمة عقوداً مظلمة في ظل أنظمة مستبدة احتكرت السلطة باعتبارها حقاً إلهياً مطلقاً.. عاثت في البلاد والعباد فساداً .. وأحاطت نفسها بنخب – على شاكلتها – من حملة المباخر والمسبحين بحمدها آناء الليل وأطراف النهار.. نخب تربت على حب الذات والأنانية وعدم الاهتمام بالأخر.. أوكلت إدارة البلاد لحكومات فاشلة .. وبرلمانات مغيبة أو مزورة .. أوصلت البلاد إلى تصحر شامل فتك في كل مكونات الأوطان الإدارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الأخلاقية والإنسانية .. فتراجع التعليم والصحة والإعلام والتنمية البشرية وحتى الأمن الإنساني .. وانتهكت حقوق الإنسان .. واتسعت نطاقات الفقر والبطالة .. حتى ازدحم تاريخنا المعاصر بصفحات الفساد والقمع والاختفاء والتعذيب والمحاكم العسكرية وحين أترعت الكؤوس وفقدت الشعوب كل الخيارات.. ويئست من إصلاح الأنظمة، كانت الثورة الزلزاليةً .. التي أنجزت حتى تاريخه إسقاط أربعة أنظمة ديكتاتورية وخامسها بالانتظار .. وتتوالى ارتداداتها عبر الجغرافيا العربية من الماء إلى الماء ومن الصحراء إلى الصحراء عبر ثورات وحراكات قيد الانفجار في غير قطر .. ثورات نقلت المنطقة إلى مرحلة جديدة من التاريخ .. وبدأت تؤسس لواقع جديد على المستويين الإقليمي والدولي بعيداً عن الهيمنة الدولية بكل مستوياتها..

وفي سياق هذه المعركة الوجودية التي تخوضها شعوب الأمة .. بدأت المنجزات تتوالى فكان أولها "استرداد الشعوب لسلطاتها" .. هناك - عبر جغرافيا هذا الحراك الثوري - دساتير جرى ويجري تعديلها / أو تغييرها.. وهناك استفتاءات شعبية جرت وسوف تجري ..
وحيث اطمأنت الشعوب إلى شروط النزاهة والحرية والشفافية والأمان عبر تمارين الاستفتاءات.. وغيرها من الضمانات .. أقبلت هذه الشعوب - ولأول مرة في تاريخها - دون ضغط أو ترهيب - على الانتخابات التشريعية ..فكان هذا المشهد العربي التاريخي المشرف الذي أذهل العالم ..

وبدأت رسائل الشعوب التي أرسلتها عبر صناديق الاقتراع تصل إلى "كل من يهمه الأمر" في الداخل والخارج.. رسائل مفادها "أن شعوب هذه الأمة تريد استرداد سلطتها.. وتريد أن تصنع التغيير الحقيقي بنفسها ووفق بوصلتها"..

رسائل شرفت الثوار .. ولكنها أزعجت الكثيرين في الداخل والخارج .. فأخذوا بقرع أجراس التحذير والتخويف وإطلاق فزاعات بالية - تعود لزمان بائس ولى وإلى غير رجعة - بحول الله- .. وكل هذه الضجة إنما تهدف بالدرجة الأولى إلى إشغال القوى الصاعدة وفي مقدمتها "الإسلاميين" في الدفاع عن أنفسهم.... ريثما يتم تبريد هذه الثورات واحتوائها ومن ثم إجهاضها ... والحيلولة دون تحقيق أهدافها ..

وتتلخص أكثر المخاوف تداولاً في بورصة التشكيك في أن :
• ديمقراطية الإسلاميين هي ديمقراطية المرة الواحدة .. والتشكيك بصدقية الإسلاميين بقول الآخر وتداول السلطة ..
• الإسلاميون سيقيمون الدولة الدينية / الثيوقراطية التي تحتكر الصواب.. مما يعني إقصاء الأقليات الدينية وخاصة المسيحيين ( في كل من مصر وسورية ولبنان ) .. وإقصاء القوى العلمانية والسياسية من قومية ويسارية .. وبالتالي الوقوع في الفتن ما ظهر منها وما بطن ..
• الإسلاميون ليس لديهم الخبرة الكافية في الحكم .. وبالتالي المراهنة على إخفاقهم في تجربة الحكم !!
• الإسلاميون سينقلبون على ما يسمونه "مكتسبات الحداثة" وفي مقدمتها ( حرية المرأة وحقوقها)
• أما القوى الخارجية فأكبر مخاوفها تتلخص في الخوف على مستقبل إسرائيل والاتفاقيات والمعاهدات التي وقعتها الأنظمة برعاية أمريكية وغربية .. وترفضها الشعوب وما فتئت تقاومها منذ توقيعها حتى إلغائها !!

هذه المخاوف أخذت تفرض تحديات أمام القوى الصاعدة لعل منها :
• تحدي قوى الثورة المضادة وفلول الأنظمة الاستبدادية التي تسعى لاسترداد كرامتها ودورها وإعادة إنتاج العجلة !!
• تحدي الأزمة العالمية والتنمية المستقلة .. وبالتالي التحدي في تحويل شعارات الثورة في الحرية والكرامة والنماء إلى برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي متكامل !!
• تحدي الأمن الوطني والإقليمي والدولي في إطار الأمن القومي العربي .. وبالتالي تحدي إدارة العلاقات الدولية والإقليمية .. دون أن تتعارض أو تتناقض هذه العلاقات استراتيجياً مع مصالح الأمة ومشروعها الحضاري !!
• تحدي مواجهة العداء السافر حينا والمبطن حيناً آخر مع الغرب والصهيونية !!
• تحدي الهوية

هذه المخاوف والتحديات كانت موضوع بحث معمق في ندوة "الإسلاميون والحكم" التي عقدها مركز دراسات الشرق الأوسط يومي (السبت والأحد 19-20/11/2011) .. والتي تناولت مجمل هذه القضايا .. وقدمت فيها دراسات معمقة .. وشهدت حواراً جاداً وهادفاً وعلمياً ومسئولا من قبل الجميع وبين الجميع .. كما شهدت خطابا رصيناً متميزاً أكد على القبول بالآخر - الداخلي والخارجي - وعلى التعايش والتعاون مع القوى والحركات الأخرى عبر مشروع حضاري ونهضوي يؤكد على ثوابت الأمة الوطنية والقومية والحضارية .. وينفتح على كل القوى والمكونات المجتمعية .. ويؤكد على دور هذه المكونات في بناء نهضة الأمة في إطار التنمية الشاملة المستقلة.. خطاب يقبل بالتعددية .. والعمل في إطار الشرعية .. والوصول إلى السلطة .. وتداولها عبر آليات الديمقراطية وصناديق الاقتراع .. والعودة الدورية المنتظمة إلى الشعب ليكون فيصلاً بين الفرقاء.. والقبول بنتائج الانتخابات مهما كانت وبمن جاءت..
خطاب يتعاطى مع الحداثة ويتفاعل معها .. منفتح على كل الأفكار والمنجزات الحضارية والإنسانية .. خطاب يعلن بأن الدولة الدينية / الثوقراطية - حسب المنظور الغربي- "لا وجود لها في الإسلام".. فالدولة المدنية في المنظور الإسلامي هي التي "لا قداسة فيها لحاكم" .. بل إن "الشعب مصدر السلطات".. وأن "حرية الرأي هي جزء من الشورى الملزمة" ..

خطاب يحترم كرامة المرأة وحقها ودورها في المشاركة السياسية والحياة العامة في جميع أبعادها ومؤسساتها .. بل يحث المرأة على العمل والإنتاج..

خطاب يؤكد على العلاقة بين السلطة والشريعة والحرية .. فالله خلق الناس أحراراً .. والسلطة جاءت لخدمة الحرية وحمايتها .. ودولة المواطنة التي تحترم حقوق الأقليات – والتي أرسى قواعدها الرسول الكريم في وثيقة المدينة - ..

منتدو ندوة "الإسلاميون والحكم" - ومن موقع الناصح الأمين - أوصوا بعدم التقوقع على الذات .. والحذر من الاحتواء الأمريكي .. و تجنب المحاصصات البائسة.. والاهتمام بالتنمية وبناء دولة حقيقية !!

بقي أن أشير إلى موقف رائع بدر من الدكتور خالد السفياني حين سارع إلى التحذير من المبالغة في التطمينات بالقول "لماذا تطمئنون الآخر وقد اختاركم الشعب .. ؟؟ فالطمأنة يقوم بها المجرم وليس المنتخب " .. !!

نعم إن الثورات العربية أفرزت واقعاً جديداً.. وما على الآخرين إلا احترام هذه الأمة كما هي .. وكما تريد أن تكون .. فالأمة ما بعد "تونس" ليست كما كانت قبلها!!


CONVERSATION

0 comments: