البدائل الإستراتيجية لبلدان الربيع العربيَّة/ سامي الأخرس

يدون التاريخ أن العقد الثالث من القرن الحاديِّ والعشرين شهد تحوّلات ومتغيرات خطيرة جدًا في المنطقة العربيَّة عبّرت عنها ما أطلق عليه ثورات الربيع العربيِّ والتي طرحت جدلًا فكريًا وسيَّاسيَّا بين جموع المثقفين العرب، فهناك من رأي إنّها تعبّر عن إرادة الشعوب العربيَّة التي تقبع تحت ظّل أنظمة سيَّاسيَّة تتبنى الديمقراطية شعارًا وتمارس الديكتاتورية فعلًا وعملًا، انتقلت بالشعوب العربيَّة من أزمة لأزمة، ومن حالة تخلف لحالة أكثر تخلفًا، وأهدرت كُلّ الحقوق الوطنيَّة القوميَّة العربيَّة التي تحررت من الاستعمار الجغرافيِّ ولكنها لَم تتحرر منه سيَّاسيَّا واقتصاديًا، بل ازداد عمق وتجسيد في الحياة العربيَّة بكُلّ مكوناتها، وجزيئياتها، فلَم يمارس أيّ نظام من الـ (22) نظام، أيّ استقلالية وطنية تؤدي لتنميَّة بشرية حقيقية تنقل الوطن العربيِّ الغنيِّ والثريِّ بثرواته الاقتصادية والزراعية والمائية إلى وطن يثقل كاهله الديون الخارجية، والتخلف التنمويِّ، وتحوّلت مجتمعاته لمجتمعات تعانيِّ"الفقر والبطالة والتسكع في دهاليز الظلم والقهر والتخلف" وانعدام أيّ أفق مستقبليِّ للأجيال القادمة، ممّا دفع هذا الشباب المبتذل والمضطهد والمهمش في وطنه إلى الإمساك بالفرصة التاريخيَّة التي ساقتها المصادفة، والثورة على هذه الأنظمة، والثأر من عقود الظلام التي لا زالت سائدة في البقعة العربيَّة، رغم أن النور عم كُلّ أرجاء المعمورة، ولَم يعدّ هناك أنظمة تمارس ما تمارسه هذه الأنظمة العربيَّة التي تستغل سلطاتها السيَّاسيَّة لامتلاك المواطن والثروات وتتصرف بها وكأنّها ملكية حصرية، وكـ أن المواطن هو أحد الأصول المملوكة للحاكم وحاشيته والمقربين منه، سواء في الأنظمة الجمهورية أو الأميرية أو الملكية منها، ولو قارنا بين الممالك العربيَّة والممالك الأوروبيَّة، وأخضعناها لعملية مقاربة نجد أن الممالك العربيَّة ما هي سوى أدوات تنفذ سيَّاسات الاحتواء الشامل لكُلّ شعوبها وثروات هذه الشعوب، لَم يتبق لها سوى أن تعلن إلوهيتها وتقييم دور العبادة التي يمارس بها المواطن العربيِّ طقوس العبادة لها، على عكس الممالك الأوروبيَّة التي تعبرّ عن حالة سلطة رمزية لا تملك سوى رمزية سيَّاسيَّة تعبرّ كحدّ أدنى عن حضارة وتاريخ هذه الشعوب، وهذه البلدان. أما الرأي الآخر فهو يرى بالربيع العربيِّ ثورات مفتعلة حرّكها الاستعمار الثقافيِّ والسيَّاسيِّ الغربيِّ ليستطيع انجاز مشاريعه في المنطقة، في ظّل نهاية صلاحية الأنظمة القائمة التي أصبحت مستهلكة لا جديد يمكن أن تقدمه منذ ما يقارب من القرن بعدما قَدمت كُلّ ما هو مطلوب منها، وان ما يحدث حاليًا تحريك لمشاريع الاستعمار من موقع إلى آخر يتناسب ويتوافق مع التطورات والمستجدات الدولية، والإقليمية، ومع متطلبات العولمة السيَّاسيَّة والثقافيَّة والاقتصادية التي تحتاج لمستوى أعلى من المستوى الموجود حاليًا، وربما أن التجربة العراقيَّة 2003، أكدت على ضرورة التغيير، وضرورة تعميق قيادة الشعوب باسم الديمقراطية لاختيار نمط جديد من أنماط التبعيَّة، حيث لا يمكن تحقيق استقلاليَّة ثقافيَّة واجتماعيَّة دون التحرر الاقتصادي كأولوية أولى تحقق الحرية السيَّاسيَّة فيما بعد، وتحقق ديمقراطية حقيقية على نفس النهج الذي قاد به "شافيز" فنزويلا نحو حرية اقتصادية تبعها حرية سيَّاسيَّة، وإرادة شعبيَّة واعية يمكن لها أن تحقق الديمقراطية الفعلية، بل وتحافظ عليها. وهناك رأي ثالث أكثر وسطية يقف على جانب هذه الثورات فيؤيد جانب منها، ويرفض الجانب الآخر وخاصة ذلك المتعلق بالتدخلات الغربيَّة العسكرية-كما حدث في ليبيا- رغم أن التدخل العسكريِّ المباشر لا يقل خطورة عن التدخلات الأخرى، فكُلّ السبل والأدوات تؤدي إلى نفس الغاية والهدف، وهي السيطرة على المنطقة، التي أصبحت مفاتيح قوتها السيَّاسيَّة والاقتصادية تحت السيطرة بعدما تمَّ السيطرة على العراق-ليبيا- دول الخليج العربيِّ وهو مصدر الثروات النفطيَّة العربيَّة، وبذلك فإن معركة النفط عام 1973 طواها التاريخ ولن تعود، ولو من باب التذكر أو التهديد، وإن كان في المستقبل البعيد، وكذلك الحال سيَّاسيًا في ظّل إخضاع القوى المتمردة والممثلة بقوى الإسلام السيَّاسيِّ أو القوى الرافضة للغرب تدخّلاته الاستعمارية، والولايات المتحدة الأمريكية، ولَم يَعد هناك تصنيفات حقبة السبعينات ما بين قوى رجعية وأخرى استعمارية امبريالية، بل اختلفت التصنيفات كما اختلفت المسميات بعد انهيار القضيَّة الثنائية عام 1991التي لَم تسقط وتنهار لوحدها، بل أسقطت كذلك القوى القادرة على الصمود في وجه القطب الاستعماريِّ، تحت وقع ما يسمى"الواقعيَّة السيَّاسيَّة" أو ما يطلق عليه التعامل مع المتغيرات بمنطقية سيَّاسيَّة واقعية.
هذه الحالة التي تعم منطقتنا العربيَّة عامة خلقت حالة جدلية في البدائل التي يمكن أن تلجأ إليها الدول العربيَّة التي شهدت وتشهد حالة ثورية ربيعية، خاصة وأن هذه الدول منها من كان حليفًا للولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة مثل تونس ومصر، ومنها من كان حليف للاتحاد السوفييتيِّ المنهار والمهزوم مثل ليبيا وسوريا ونصف اليمن- بما أنّه كان- يمن جنوبي اشتراكيِّ، ويمن شماليِّ قوميِّ.
وعليه بدأ البحث عن البدائل الإستراتيجية للاتحاد السوفييتيِّ عامة، أو البدائل الإقليمية بعد ما انهار التوازن مع انهيار واحتلال العراق عام 2003، وتراجع دور مصر إقليميًا كنتيجة للنظام السابق. عدم توفر بدائل عربيَّة خاصة وأن الولايات المتحدة الأمريكيَّة أطبقت سيطرتها على منطقة الخليج العربيِّ كليًا.
في ظّل هذه الأحداث، وهذه المتغيرات هناك العديد من البدائل المطروحة إقليميًا ودوليًا، حيث نتناولها في سياق هذه الورقة، ونحلّل أيّ من هذه البدائل يمكن أن يشكل ملجأ استراتيجيِّ للبلدان العربيَّة ما بعد الربيع العربيِّ، وما بعد الانقلاب الكبير في الهيكلية الأساسيَّة للنظم الحاكمة من نظم ليبرالية-علمانية إلى نظم تقودها أحزاب وقوى الإسلام السياسيِّ.
أولًا: البديل الاستراتيجي:
قبل استعراض القوى التي يمكن أن تشكل بدائل إستراتيجية، لا بد وأن نقف قليلًا أمام معنى البدائل الاستراتيجية بالنسبة إلى دولة معينة، وما هي الصفات والشروط التي يمكن أن تتوفر في هذا البديل، وتؤدي إلى التوافق والتلاءم معه في التوجهات السيَّاسيَّة، وما هي الرغبات التي يجب أن تتوفر في بناء هذه العلاقة(علاقة المشاركة) التي تحقق مصالح جميع الأطراف؟.
بداية هناك مزج وخلط بين مفهوم بديل ومفهوم تحالف، فالحليف هو دولة تقيم علاقات تحالفيه تنتج من خلال وثيقة تعاقدية رسمية تتعلق بمواضيع عسكرية أو بمفاهيم أمنية تحدد التزامات كُلّ طرف من الأطراف، وبدون هذه الوثيقة لا يمكن إنشاء تحالف، أيّ بالمعنى الضيق أن الحلف هو عبارة عن علاقات أمنية-عسكرية. أما البديل الاستراتيجيِّ فإنّّه لا ينتج أو ينهض بناء على وثيقة تعاقدية ولا يقتصر على مجال معين، بل هو مفهوم أكثر اتساعًا وشمولًا من التحالف أو الحلف، فهو يشمل جميع القضايا دون أيّ وثائق رسمية، أيّ أنّه أقرب لمفهوم"الائتلاف الاستراتيجي" منه إلى مفهوم الحلف. كما أنّه لا يشترط بالبديل الاستراتيجيِّ أن يشمل كُلّ الميادين والمجالات بل يمكن أن يكون مشاركة في مجال واحد فقط سيَّاسيَّة أو اقتصادية، ويمكن أن يكون هذا المجال هو مجال شراكة ومشاركة إستراتيجية.
كما أن هناك عدة شروط لا بد وأن تتوفر في هذا البديل الاستراتيجيِّ، منها:
1.أن يمتلك هذا البديل قدرات وإمكانيات سيَّاسيَّة واقتصادية وعسكرية وثقافية ليحقق استفادة للدول الساعية لتحقيق شراكة إستراتيجية معه، وخلق توافق وتقارب، فلا يمكن اعتبار الدول الصغيرة والضعيفة بدائل إستراتيجية أو شريك استراتيجيِّ، ولنأخذ مثال دول قطر، فهي تمتلك مقدرات اقتصادية لكنها ممكن أن تمثل شريك استراتيجيِّ؟
2.أن تتوفر الرغبة من البديل في بناء علاقات مشاركة وشراكة لوجود مجموعة أو شبكة مصالح مع الطرف الآخر، أو المراد الدخول منه في شراكة ومشاركة إستراتيجية.
3.أن تتوفر شراكة ومشاركة في مجمل القيم والتوجهات السيَّاسيَّة التي يسعى إلى تحقيقها في العلاقات الإقليمية والدولية، حيث من الصعب بناء علاقات مشاركة في ظّل تفاوت كبير في القيم والتوجهات السيَّاسيَّة والثقافيَّة الأساسيَّة، وعليه هل يمكن اعتبار "إسرائيل" أو إيران بديل استراتيجيِّ.
4.لا بد من توافق وطنيِّ داخليِّ داخل البديل الاستراتيجيِّ حول مشروع المشاركة، أيّ أن هذا التوافق يحقق إمكانية إقامة علاقات مشاركة في المدى الطويل، وأن لا تكون هذه المشاركة مرتبطة بحزب معين في السلطة، إذا خرج منها سقطت المشاركة، وهي حالة يمكن تمثيلها بتركيا و"إسرائيل" والمشاركة الإستراتيجية بينهما، وعليه هل يمكن أن تمثل تركيا بديلًا استراتيجيًا؟
من خلال هذه الاشتراطات الأربعة يُفرض علينا سؤال، ما أهمية وجود بديل استراتيجيِّ؟ وهل هناك ضرورة حتمية لوجود هذا البديل؟ّ
طرحت العديد من الآراء حول الإجابة عن هذين السؤالين في معرض النقاشات والجدل القائم حول البدائل المتاحة أمام المنطقة العربيَّة وخاصة بعد المتغيرات التي شهدتها المنطقة منذ انتهاء القضيَّة الثنائية عام 1991، وبدء التحرك نحو القضيَّة الوحيدة، أو حسب ما طرح أحمد أوغلو عالم متعدد الأقطاب، في حين لخص محمد السيد سليم وجهة نظر حول هذا الموضوع من خلال عملية مقاربة تحليلية.
جملة هذه الجدلية الحوارية والنقاشة أفاضت إلى وجهتين نظر، حول أهمية البديل الاستراتيجيِّ تمثلت بالتالي:
الأولى: ترى أنّه ليس من مصلحة الدول الدخول في علاقات مع بديل استراتيجيِّ لان ذلك يترتب عليه التزامات على الدول لا تستطيع الوفاء بها أو تعرض مصالحها للضررّ- وربما هذا الرأي فيه شيء من الصوابية ولو استعرضنا أو حللنا علاقة المشاركة بين الأقطار العربيَّة والاتحاد الأوروبيِّ لهذه الشراكة أو المشاركة في الفرض على الدول العربيَّة عملية تطبيع مع"إسرائيل" دون أن تفي الأخيرة بأيّ التزامات سيَّاسيَّة، وكذلك نشر قيمة في الأقطار العربيَّة أدى لسقوط المشاركة، وسقوط البديل الاستراتيجيِّ، وهذا نتاج ضعف الأقطار العربيَّة ممّا جعل الاتحاد الأوروبيِّ يفرض شروطه، وبالتالي انتهاء المشاركة.
الثانية: ترى وجهة النظر الثانية أنّه كلّما زادت البدائل الإستراتيجية، زادت قدرة الدول على تحقيق أهدافها ومصالحها، وقدرتها على التحرّك المستقل في العلاقات الدولية. وخاصة للدول الصغيرة، وهنا يمكن الاستعانة بإمارات(الإمارات) العربيَّة التي كانت محاطة بواقع قوى أقوى منها تعادي الوحدة وتخافها إلاَّ أنّها حققت وحدة سيَّاسيَّة وجغرافية بمسمى (اتحاد الإمارات العربية) من خلال خلق بدائل إستراتيجية فيما بينها.
إذن فالبديل الاستراتيجيِّ أن لَم تتحقق الاستفادة منه، فإنّه لا يحقق أهداف ومصالح المشاركة للدول، وهو ما يتطلب وضوح الأهداف المتوخاه من المشاركة، أيّ أن تمتلك الدول أهداف واستراتيجيات محددة، ورؤية واضحة للعلاقات مع البدائل الإستراتيجية وإلاَّ فالمشاركة لن تحقق مبتغاها، وهو ما تمارسه تركيا حاليًا في محاولاتها لخلق بدائل إستراتيجية مع الجميع. كما على الدول الساعية إلى المشاركة الإستراتيجية في بناء آليات المشاركة، والحيوية الفعالية في هذه المشاركة، وعدم الاقتصاد على هز الرأس أو الموافقة على ما يتم طرحه من البديل الاستراتيجيِّ، أيّ عدم التبعية.
على ضوء ذلك ما هو البديل الاستراتيجيِّ المناسب للأقطار العربيَّة التي شهدت ثورات الربيع التي أفرزت حكم أحزاب الإسلام السيَّاسيِّ؟ !
يمكن حصر البدائل الإستراتيجية المتاحة أمام هذه الأقطار العربيَّة في مستويين رئيسيين هما المستوى العالميِّ، والمستوى الإقليميِّ وتناول البدائل التي يمكن طرحها في كُلّ مستوى من هذه المستويات.
أولًا: المستوى العالميِّ:
هنا يمكن حصر البدائل المتاحة أمام الأقطار العربيَّة على المستوى العالميِّ في أربعة بدائل وهي:
1.الولايات المتحدة الأمريكية:
معظم الأقطار العربيَّة سواء قبل انهيار القطبيَّة الثنائية  عام 1991، أو بعد الثورات الربيعيَّة عام 2010 كانت مرتبطة بالولايات المتحدة الأمريكية، وتدور في مجرتها، كما أن المشروع الأمريكيِّ مطبق فعلًا في المنطقة العربيَّة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتمَّ تطبيقه في الخليج العربيِّ- على وجه الخصوص- في كافة المجالات- بل وتعتبر مشاريع اقتصادية تحت إشراف السيَّاسات الأمريكيَّة، في حين كانت مصر والعراق وسورية تعتبر الاتحاد السوفييتيِّ(السابق) هو بديلها الاستراتيجيِّ في زمن الحرب الباردة رغم انفكاك مصر من البديل السوفييتيِّ في عهد الرئيس المصريِّ أنور السادات الذي قال أن أوراق اللعبة في المنطقة هي بيد الولايات المتحدة الأمريكيَّة. رغم التحالف الاستراتيجيِّ بين الولايات المتحدة الأمريكية و"إسرائيل" إلاَّ أنَّ معظم الدول العربيَّة ساندت وتحالفت مع الولايات المتحدة الأمريكيَّة سواء في حرب أفغانستان عام 1979، وحرب الخليج الثانية 1991، وحرب الخليج واحتلال العراق 2003، وكانت معظم إن استثنينا" العراق، وسورية، والجزائر" تقف بعلاقات مشاركة مع الولايات المتحدة الأمريكية، حتى سوريا لجأت للوقوف مع الولايات المتحدة الأمريكية في حرب الخليج الثانية عام 1991 ضد العراق.
ولكن! هل نمط الدول التي شهدت ربيعًا عربيًا يمكن أن تلجأ للولايات المتحدة بعلاقات مشاركة، واختيارها بديلًا استراتيجيًا رغم كُلّ ممارسات الولايات المتحدة الأمريكيَّة ضدّ العرب، ودعم"إسرائيل" إلَّا أن الدول العربيَّة عامة لا زالت تؤمن أن الولايات المتحدة الأمريكيَّة هي الوحيدة القادرة على الضغط على"إسرائيل" للتوصل إلى تسوية سلمية، بحكم إنّها القوة الوحيدة العظمى وهو ما أكدته في استدعاء الثورة الليبية عام 2011 للولايات المتحدة الأمريكيَّة ضد النظام الليبيِّ، وها هي الحالة تتكرر في سوريا كما أن الخطاب السيَّاسيِّ التونسيِّ والمصريِّ حاول مغازلة وطمأنت الولايات المتحدة الأمريكيَّة بشكل مباشر وغير مباشر، ومحاولات حركة حماس المسيطرة على غزة التقرب من الولايات المتحدة الأمريكيَّة. كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تعدّ ضامن لأمن العرب وخاصة في الخليج، وهي المصدر الأوّل للمعونات الاقتصادية والعسكرية لمصر، وبدأت تغزو الصحراء الجزائرية الغنية بالنفط هل تمثل بديلًا استراتيجيًا؟ وهل يمكن لهذا البديل أن يحافظ على الهوية القوميَّة والدينيَّة للعرب؟
2.البديل الأوروبيِّ:
 يعتبر البديل الأوروبيِّ متوافقًا مع الولايات المتحدة الأمريكيَّة في السيَّاسات الأمنية والاقتصادية في المنطقة العربيَّة، ويكملان بعضهما البعض في سياق تشكيل البنية الشرق أوسطية، حيث ترُكز الاستراتيجيات الأوروبيَّة والأمريكيَّة على تعزيز الخلل الموجود في المنطقة لصالح" إسرائيل" ومقاومة أيّ مجالات لتعديل هذا الحقل تبريرًا بسعيها للاستقرار في المنطقة، وقد كان احتلال العراق وتدميره تحت هذا الغطاء، وتأسيسيا على ذلك، والقارئ والمراجع لمشروع الميثاق الأوروبيِّ" ميثاق السلام والاستقرار في البحر المتوسط لن يلحظ أيّ إشارات لتغيير الوضع، كذلك اتفاق أوروبا مع الولايات المتحدة على رفض امتلاك أيّ دولة في المنطقة لأسلحة نووية عدا "إسرائيل"، وتأكيدًا على ذلك حربهم للمشروع النوويَّ الإيرانيِّ الحالي، والحالة الذيلية التي تمثلها أوروبا للولايات المتحدة الأمريكيَّة في معظم القضايا المتعلقة في المنطقة، وتذهب أوروبا للاتفاق مع الولايات المتحدة في مسألة التفوق الساحق لـِ"إسرائيل" على صعيد الأسلحة والتسليح حتى لا تفكر أيّ دولة إلاَّ بالتفاوض مع"إسرائيل" والموافقة على شروطها، وهو ما يؤكده كوشنر وزير خارجية فرنسا عام 2008 قائلًا: أن التطبيع الكامل من العرب مع"إسرائيل" هو ثمن"وقف الاستيطان" فقط.
معظم السيَّاسات الأوروبيَّة المتعلقة بالمنطقة يستنبط التقاسم بين أوروبا والولايات المتحدة في العمل تجاه منطقتنا العربيَّة وتكمل دورة الدوران للولايات المتحدة الأمريكية، وإنما من يعتبر أن الموقف الأوروبيِّ شهد تطورًا من خلال علاقاتها مع دول المنطقة أو رفع بعض دولها للتمثيل الدبلوماسيِّ للبعثات الفلسطينيَّة، وتصريح هنا وآخر هناك ما هي سوى تمايزًا هامشيًا للدور الأوروبيِّ عن الأمريكيِّ في دائرة اللا فائدة من هكذا مواقف على البعد الاستراتيجيِّ، وربما تكون أو تأتي في دائرة تسهيل المواقف والسيَّاسات للولايات المتحدة الأمريكيَّة، وامتصاص بعض الصدمات الناشئة عنه.
فالموقف الأوروبيِّ في المنطقة والمنطقة المتوسطية لَم يسعى بأيّ مرحلة من مراحل الصراع، لحل هذا الصراع وإنهائه بل توقف عند حدود(منع الصراع)، وترك الصراع للولايات المتحدة الأمريكيَّة، حيث أن فرنسا وألمانيا عارضتا ضرب العراق عام 2003، إلاَّ أنّها بلحظة الحسم أيدتا هذا العدوان، ودعمتا الموقف الأمريكيِّ، كما تحالفتا معه في ضرب ليبيا 2011، واتفقت أوروبا والولايات المتحدة حول المشروع الذي تقدمت به الولايات المتحدة الأمريكيَّة عام 2004 تحت اسم" مشروع الشرق الأوسط الأكبر"، إلاَّ أن ألمانيا قدمت مشروع"الشرق الأوسط الأوسع". ويتقاطع المشروعان عند نقطة محورية، تأكيد أسبقية الإصلاحات العربيَّة على حلّ الصراع العربيِّ- الإسرائيليِّ، وهنا ماذا كان يقصد بالإصلاحات؟ وهل الثورات العربيَّة هي إصلاحات بوجه النظر الأوروبيَّة والأمريكيَّة؟ وهل بعد هذه الثورات يتم حلّ الصراع العربيِّ- الإسرائيليِّ؟!
فإن كان مشروع البديل الاستراتيجيِّ الاقتصاديِّ قد فشل مع الاتحاد الأوروبيِّ الذي حاول تقديم الوصاية على الدول العربيَّة والفصل بين المسارات الاقتصادية والإسرائيليَّة، بحيث بحث عن شراكة تكون"إسرائيل" دون حلّ للصراع العربيِّ- الإسرائيليِّ، وإصراره على اعتماد القيم الأوروبيَّة وحدها للمشاركة.
أما على الصعيد الخليج العربيِّ، فإن النشاط الأوروبيِّ ينشط في مجال ما يسمى"أمن الخليج" وهو نشيط جدًا في فرض قيمه الثقافيَّة الغربيَّة على المنطقة العربيَّة وخاصة في بلدان المغرب العربيِّ، وبعض البلدان الخليجيَّة.
من خلال ما تقدم فإن البديل الأوروبيِّ يعتبر قاسم مشترك بين العرب مثلًا وتركيا، ولكن لا يمكن أن يكون بين العرب والولايات المتحدة التي تقبل البلدان العربيَّة حمايتها في مواجهة إيران، كما قبلته من قبل في مواجهة العراق، بل ذهبت بلدان الخليج العربيِّ إلى قبول حمايتها ضد بعضها البعض.
3.البديل الروسيِّ:
الدب الروسيِّ وريث الاتحاد السوفييتيِّ السابق، حيث غابت عن المسرح الدوليِّ منذ تفكك وانهيار المنظومة الاشتراكيَّة، والاتحاد السوفييتيِّ، حتى انتهاء عهد"يلتسين" واستلام"بوتين" السلطة عام 2000حاول وسعى لاستعادة الدور الروسيِّ العالميِّ والشرق الأوسط والسعي الدءوب والنشط للسيَّاسيَّة الأمريكيَّة بعد أحداث أيلول(سبتمبر) 2001، وأصبح يُغازل محاربة أمريكا لما يسمى"الإرهاب" متأملًا في الحصول على دعم الولايات المتحدة في حربه ضد انفصال الشيشان، والتخلص من نظام(طالبان) في أفغانستان، وقدمت للويلات المتحدة تسهيلات قاعدية في أوزباكستان وقيرغيزستان لضرب أفغانستان، وهو ما فُسر في الرؤية الأمريكيَّة أنّه تحوّل عن ضعف فعمقت من سيَّاستها الانفرادية، ولَم تكترث للمعارضة الروسية لاحتلال العراق 2003، حيث أوغلت الولايات المتحدة في تجاهل روسيا كليًا في مجمل القضايا ممّا دفع روسيا للبحث عن سيَّاسات جديدة، دفعت بوتين لتوقيع قانون عام2007، ينص على حق روسيا في تحريك قواتها المسلحة في أيّ مكان في أراضيها، وسعت لبناء مشاركة إستراتيجية مع الصين ودول آسيا الوسطي في إطار منظمة شنغهاي للتعاون.
وواصل ميدفيدييف أتباع سيَّاسة الردّ الروسيِّ على سيَّاسات الولايات المتحدة وأهمها قانونه المتعلق بإعادة تسليح الجيش والأسطول الروسيِّ والتركيز على تعزيز القوات النووية ألروسية في مواجهة مشاريع توسيع الحلف الأطلسيِّ، حيث انضمت جورجيا وأوكرانيا للحلف أيّ أصبح على حدوده مباشرة. كما وعادت روسيا للعب دور أوسع في الشرق الأوسط حيث دعمت المشروع النووي الإيرانيِّ، ويبدو هذا الدعم وكأنّه محاولات روسية لخلق أقطاب أيّ اتجاه يخلق عالم متعدد القضيَّة، كما وأعفت سورية من ثلاثة أرباع تلك الديون، وعقدت معها صفقات أسلحة عام 2005، وتوصلت لاتفاق مع السعودية للتنقيب واستخراج الغاز من حقل الربع الخالي لمدة 40عامًا، ودخلت منظمة المؤتمر الإسلاميِّ كعضو مراتب. وهو ما يؤكده ويتوسع به محمد سليم عندما ذكر أن الصعود الروسيِّ هذا يأتي في صالح المنطقة والوطن العربيِّ، لأنه كلّما زادت تعددية العلاقات الدولية، حقق ذلك المصالح العربيَّة في اتجاه لَجم الغزوات العسكرية العلنية المتلاحقة للدول العربيَّة والإسلاميَّة. والتي لَم تحرك ساكن أمام ضرب العراق 2003، وضرب ليبيا 2011، إلاَّ انّه حرّاك هام وضروري للجم للإستغوال الأمريكيِّ- الأوروبيِّ ضد العرب، وربما من مصلحة الدول العربيَّة دعم وتعزيز هذه التوجهات الروسية رغم أنّّها لا زالت في مركز ضعف، ومرحلة إعادة بناء قدراتها الاقتصادية، وتشارك العرب في مفهوم التعددية الثقافيَّة الدوليَّة وضرورة الحوار بين الحضارات.
يمكن تعزيز دور روسيا كبديل استراتيجيِّ وخاصة لدى دول عربيَّة شهدت ثورات الربيع مثل مصر وتونس واليمن، لكن هل يمكن الانسجام بين ليبيا وروسيا، خاصة وأن روسيا جابهت وعارضت ضرب ليبيا؟ كما يمكن التعاون والمشاركة بين روسيا وبعض الدول الخليجية(قطر والإمارات) التي شركت بضرب ليبيا عسكريًا؟
في حال هذا الانقسام العربيِّ وعدم وضوح الأفق العربيِّ يمكن أحداث مشاركة إستراتيجية تقوم على قاعدة اختراق البدائل المطروحة بين"ألولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبيِّ" فبالنظر للحالة العربيَّة المجزئة يمكن تخيل أو هيكلة علاقة مشاركة بين روسيا وبعض البلدان العربيَّة مثل"الجزائر- السودان – المغرب- اليمن- مصر- تونس- الصومال" بما أن هذه البلدان لديها متناقضات مع الولايات المتحدة الأمريكيَّة، في حال شكّلت روسيا بديلًا متكاملًا، حيث لا يمكن لبلد مثل مصر يتلقى مساعدات أمريكية عسكرية التخلي عن الولايات المتحدة الأمريكيَّة دون توفير البدائل المناسبة.
4.البديل الصينيِّ:
أصبحت الصين قوة عالمية اقتصادية صاعدة، وتعتبر ثاني قوة اقتصادية في العالم من حيث القوة الشرائية، إضافة لامتلاكها قدرات نووية، وتمتلك مجتمعًا قوميًا يتسم بعراقته الثقافيَّة والحضارية. ورغم ذلك لازالت الصين تعاني العديد من الأزمات الداخلية والنزعات الانفصالية، وسلطة الحزب لواحد، وانعدام الإستراتيجية السيَّاسيَّة العالميَّة. ما يؤّكد عدم قدرة الصين على تقديم نفسها كقطب في عالم تسعى إليه متعدّد الأقطاب، خاصة وإنّها لَم تتعارض مع التوجهات الغربيَّة أو الأمريكيَّة في مجلس الأمن إلاَّ بموضوعين تايوان وحاليًا سوريا، أما باقي القضايا لَم توضح من خلال مواقفها أيّ محاولات لتحجيم النفوذ الأمريكيِّ، بل لجأت للصمت الدبلوماسيِّ أمام قصف سفارتها عام 1991 في بالجراد، ولَم تتحرك ضد الولايات المتحدة في السودان التي ترتبط معها باستثمارات ضخمة، وامتنعت عن التصويت على قضيَّة تمسّ مصالحها مباشرة.
رغم القوة الصينية الاقتصادية الهائلة والصاعدة عالميًا إلاَّ إنّها لَم تعدّ حتى الآن قوة مؤثرة في السيَّاسات الدوليَّة أو الإقليميَّة ولَم تتعاون مع قوى أخرى للقيام بدور عالمي، بل تقوم وتعتمد على سيَّاسات حذرة لا تمسّ بالتوازنات القائمة، كما أنّها لَم تمارس أيّ دور في منطقة الشرق الأوسط، بل كُلّ أولوياتها تصب في الصعود الاقتصاديِّ. كما أنّها لَم تقف موقف الضدّ من سيَّاسات وقرارات مجلس الأمن فيما يتعلق بالملف النوويَّ الإيرانيَّ وهو ما قلص الدور الصينيِّ وأضعفه مقابل القوى الأخرى. كما أن المتأمل للموقف الصينيِّ حوّل القضايا الشرق أوسطيَّة يلّمس التوافق مع المواقف الغربيَّة والأمريكيَّة، ولَم يقف ضدها سوى في القضيَّة السورية على وجه التحديد.
ثانيًا:البدائل الإقليميَّة:
في قراءة القوى الإقليميَّة للعرب كبدائل إستراتيجية يمكن تحديد ثلاث قوى رئيسية لديها بعض المقومات أن تصبح بدائل إستراتيجية، مع استبعاد واحدة من هذه البدائل وهي"إسرائيل"، يتبقى قوتين أساسيتين في الواقع الإقليمي ألاَّ وهم"إيران وتركيا"
1.البديل الإيرانيِّ:
شكّل احتلال العراق عام 2003 أفقًا جديدًا لإيران في المنطقة العربيَّة عامة، بعد حرب طويلة مع العراق استمرت لثمانية سنوات دعم العرب عامة خلالها العراق في الحرب، حتى أعلنت إيران موافقتها على القرارات المتعلقة بالحرب وهو ما فُسر كهزيمة لإيران ضد العراق آنذاك، كما أن معارضة إيران للتدخل الأمريكيِّ في أفغانستان وكذلك في العراق، معارضة من باب الاستحياء وكأنها تعبّر عن موافقتها أيّ بعيارة أخرى( الصمت علامة الرضى) وتأتي على قاعدة التحالف والتخالف، فإيران تعتبر أحد دول"محور الشر" التي صنفها الرئيس الأمريكيِّ جورج بوش عام 2001، ورغم ذلك فهذا العدو الممثل بالولايات المتحدة الأمريكيَّة قد خلص إيران من عدوين هما حركة طالبان في أفغانستان وهي تعتبر بمثابة عدو مذهبيِّ لإيران، وخلص إيران من صدام حسين العدو الرئيس لإيران، وجاء بأنظمة موالية ومحالفة لإيران مذهبيًا وسيَّاسيًا، فأصبحت إيران تواجه عدو واحد من ثلاثة أعداء.
ومنه بدأ نفوذ إيران في المنطقة يشهد توسعًا من خلال السيَّاسة الثورية التي يمثلها الرئيس الإيرانيِّ "أحمدي نجاد" منذ استلامه السلطة عام 2005، وتأكيده على إصرار إيران بمواصلة برنامجها النووي، ودعوته المباشرة لمحو"إسرائيل" من الخريطة، ودعمه لحزب الله عام 2006، في حربه ضد"إسرائيل" ودعمه لحركة حماس في حرب"إسرائيل" على غزة، وتبنيه لقوى وفصائل المقاومة الفلسطينيَّة بكُلّ توجهاتها، ودعمه لدول الممانعة ولسوريا كدولة مواجهة مع"إسرائيل" ، وتهديده بمحو إسرائيل عن الوجود في حال ضربها أو توجيه ضربه لإيران، وتقاربها مع معظم الدول العربيَّة وخاصة مصر بعد ثورة 25يناير ودعمها للثورات العربيَّة المصرية والتونسيَّة، ومعارضتة الشدّيدة لضرب ليبيا.
هذه المواقف السيَّاسيَّة تأتي في تعميق الروابط والصلات التاريخيَّة والجوار والتداخل الجغرافيِّ والسكانيِّ مع المنطقة العربيَّة، والعلاقات التاريخيَّة التجارية والتواصل الدينيِّ الإسلاميِّ، والثقافيِّ، واللغويِّ، وتحسنت العلاقات العربيَّة- الإيرانيَّة، رغم الخلافات حول الجزر الإماراتية، والخلافات المذهبية الشيعية- السينية، والخلاف الأخير مع دول الخليج حول سورية، ولجوء دول الخليج لموازنة القوى مع إيران للغرب والولايات المتحدة التي تحاول صناعة عدو دائم للعرب في الخليج بعدما قضت على العراق وأعدمت"صدام حسين" الذي جعلت منه في السابق بعبع الخليج ومرعب دول الخليج، ها هي تمارس نفس الدور مع إيران للإبقاء على حمايتها للدول الخليجيَّة وبذلك الحفاظ على قواعدها العسكرية، ومصالحها النفطية، وهو ما ترى فيه إيران تهديدًا أساسيًا لأمنها، وأن أمن الخليج حسب وجهة نظرها هو شأن خليجيِّ داخلي لا بد من معالجته بين دول الخليج داخليًا، من هنا اعترضت إيران على معظم الاتفاقيات الأمنية الخليجيَّة مع الغرب، كما اعترضت على إعلان دمشق عام 1991 بخصوص الترتيبات الأمنية والدور الذي مُنح لسورية ومصر في هذه الترتيبات. أما على مستوى إيران الداخليِّ فهو تواجه عقوبات اقتصادية، ومقاطعة غربية، ونقص في الاستثمارات، وعلاقاتها المتوترة مع الغرب منذ الثورة الإيرانية عام 1979، والتوتر بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكيَّة على ضوء البرنامج النووي الإيرانيَّ، ومواجهة الدول العربيَّة المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكيَّة.
في ضوء هذه الحقائق والأوضاع غير المستقرة في إيران، والهواجس الخليجيَّة من البرنامج النووي الإيرانيِّ، والخلافات المذهبية بين الخليج العربيِّ والدول العربيَّة عامة، فإيران الشيعية تواجه جميع الدول العربيَّة السنية ما عدا سورية(العلوية)، هل تشكل إيران بديلًا استراتيجيًا لدول الربيع العربيِّ؟!
2.البديل التُركيِّ:
من المؤّكد أن تركيا دولة مهمة في الشرق الأوسط، بل وتعدّ من الدول المحورية في المنطقة، فتركيا تستطيع بما تملكه من مقدرات تاريخيَّة وموقع مميز أن تؤثر في المنطقة، وسيَّاسيَّات المنطقة، وخاصة مع استلام الإسلام السياسيِّ السلطة في تركيا ممثلًا بحزب العدالة والتنميَّة. ولكن السؤال ماذا يتوفر لتركيا من مقدرات تؤهلها أن تكون بديل استراتيجيِّ؟!
أجاب(كرامر) عن هذا السؤال في دراسة مهمة له، حددّ فيها ثلاثة عناصر للقوة التركيَّة هي الاستقرار السيَّاسيِّ، القدرات الاقتصادية، والقدرات العسكرية.
منذ عام 2002 شهدت تركيا تطورات ومتغيرات عميقة دعمت ما ذهب إليه هانز كرامر عام 1996، حيث توسعت تركيا في مفهوم الديمقراطية والاستقرار السيَّاسيِّ، وتمَّ تحجيم المؤسسة العسكرية وتدخلاتها في الشؤون السيَّاسيَّة والمدنيَّة، ونجح أردوغان عام 2003 في تغيير بنية وتكوين مجلس الأمن القوميِّ الذي كان يسيطر عليه العسكر، وأصبح أمينه العام يتم تعيينه من رئيس الوزراء، وأصبح دوره استشاري وليس تنفيذي ملزم. كما تمَّ تعديل طريقة انتخاب رئيس الجمهورية، بحيث يتم انتخابه من الشعب مباشرة، وتخفيض مدة الرئاسة إلى خمس سنوات بعدما كانت سبع سنوات، وبالتالي خطت تركيا خطوات نحو الديمقراطية، كما أنّها تتفوق على جميع جيرانها، ولديها قاعدة صناعيَّة، وزراعيَّة متطورة، أما المستوى العسكريِّ فإن تركيا كذلك هي الأقوى بين جيرانها، وميزان القوة الإقليميِّ يميل إليها عسكريًا.
الأهم في هذا كّله هو السيَّاسات التركيَّة التي صاغها وزير الخارجية أحمد داود أوغلو في رسمه لخارطة السيَّاسات الخارجيَّة التركيَّة، وخاصة مع المنطقة العربيَّة، والتقارب الملحوظ بين تركيا والعرب، وأتباعها سيَّاسة التوازن مع الدول العربيَّة وخاصة مع محوريِّ الاعتدال والممانعة وعدم الانحياز لأيّ من هذين المحورين، وتصعيد لهجتها وانتقاداتها"لإسرائيل" في حصارها لغزة وحربها ضد غزة عام 2008، كما كان موقف رئيس الوزراء التركيِّ بالانسحاب من مؤتمر دافوس لعدم منحه وقت إضافيِّ للرد علي الرئيس الإسرائيليِّ، وكذلك أسطول الحرية واستشهاد تسعة أتراك مفعول كبير ومؤثر على الرأيِّ العام العربيِّ، والتقارب التركيِّ مع المنطقة العربيَّة، بالرغم من علاقاتها الإستراتيجيَّة السيَّاسيَّة والعسكرية مع"إسرائيل".
وبناء على سيَّاسات أوغلو بدأت تتجه تركيا جنوبًا في علاقاتها، وبدأت في تطوير علاقاتها الاقتصادية مع الأسواق العربيَّة وحصولها على العديد من العقود في دول الخليج العربيِّ، وتطورت علاقاتها المتدهورة مع سوريا، وتقاربها مع إيران، والسعي لدور الوسيط في بعض الخلافات مثل الانقسام الفلسطينيِّ- الفلسطينيِّ، والخلاف الإيرانيِّ-الباكستانيِّ، وتصريحات أردوغان التي عبرّ بها عن"أن تركيا جزء من الشرق الأوسط الكبير، وعليها مسؤوليات ويجب أن تأخذ مكانها فيه" وهو ما أكده محمد نور الدين في دراسته حول تركيا والعدوان الإسرائيليِّ على لبنان، وتؤكد على أن تركيا في ظّل حزب العدالة والتنميَّة لديها الرغبة في بناء علاقات إستراتيجية مع العرب، ولكن هذه الرغبة موجهة إلى كُلّ الأقاليم التي تتعامل معها تركيا حسب سيَّاساتها الخارجيَّة.
كما أنَّ تركيا توافقت مع العرب في معظم القضايا حيث أنّها وقفت ضدّ "إسرائيل" في عدوان 1973، وضدّ الولايات المتحدة في عدوانها على العراق 2003، ورفضت استخدام قاعدة انجرلنك التركيَّة لضرب العراق، كما اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينيَّة عام 1979 وافتتحت لها ممثليه في تركيا ووقفت ضدّ حرب لبنان عام 1982، وضدّ "إسرائيل" في حربها عام 2008 ضدّ غزة.
وبناًء على الشروط التي جئنا عليها في سياق هذه الرؤية، وهذه الورقة يمكن قياس مدى ملائمة تركيا على أن تكون بديل استراتيجي للعرب أم لا.
خلاصة:
إن تحليلنا للشروط التي لا بد وأن تتوافر في أيّ بديل استراتيجيِّ يؤكد أن الخيارات العالميَّة المطروحة أمام العرب، هي خيارات محددة، ومحصورة في بعض المجالات فقط دون غيرها، وكذلك على المستوى الإقليميِّ في ضوء تحليل قدرات وإمكانيات كُلّ بديل، ومقاربته سيَّاسيًا وثقافيًا وحضاريًا، وتحديد مقاييس ما يمكن أن يقدمه من شراكة مع العرب في ضوء الاحتمالات السابقة.
وهناك خيارات أخرى متاحة من خلال إمكانية بناء علاقات مشاركة إستراتيجية مع أكثر من بديل سواء على المستوى الدوليِّ أو المستوى الإقليميِّ، حيث يمكن تحقيق علاقات مشاركة على المستوى السيَّاسيِّ مع القوة التي يمكن أن تحقق شراكة مع العرب في هذا المستوى وكذلك شراكة على المستوى الاقتصاديِّ والعسكريِّ على وجه التحديد، أيّ إمكانية إيجاد هذه البدائل التي يمكن أن تحقق علاقات بعيدة عن قوانين الفرض والتبعية، خاصة وأن هناك أربعة قوى يمكن دراسة حدود البدائل الإستراتيجيَّة معها في حدود معينة هي"روسيا- الصين- إيران- تركيا" ومزج عدة مستويات في عدة بدائل معينة، خاصة وأن كُلّ دولة من تلك الدول لديها شيء يمكن بلورة علاقة مشتركة معه كبديل استراتيجيِّ فروسيا وقوتها العسكرية كدولة وريثة للاتحاد السوفييتيِّ ويمكن لها لَجم الولايات المتحدة وأوروبا بما تملكه من حق النقض(الفيتو) الذي تستقوي فيه الولايات المتحدة بمجلس الأمن الدوليِّ، وما فعلته روسيا في الأزمة السورية تأكيد على ذلك، حيث يمكن خلق قوة موازية للفيتو الأمريكيِّ صديق ونصير"إسرائيل" الدائم، وتحوّيل الفيتو"الروسيِّ" لصديق ونصير للعرب وبشكل دائم، ولكن المعضلة في الرؤية العربية المقزمة والمجزأة، وغير الموحدة، والتعارض بين دول الثورات العربيَّة مع روسيا وخاصة ليبيا التي ترى بروسيا عددًا بعدما وقفت ضد التدخل الأمريكيِّ- الغربيِّ عسكريًا في ليبيا. كما يمكن خلق علاقة مشتركة اقتصادية مع الصين بما أن الصين تشكل القوة الاقتصادية العالمية الثانية ولديها مصالح واستثمارات اقتصادية مع المنطقة العربيَّة، وتعويض ما تحصل عليه بعض الدول العربيَّة من مساعدات من الولايات المتحدة الأمريكيَّة مثل المساعدات العسكرية لمصر على وجه التحديد، وكذلك بناء علاقات مشتركة سيَّاسيًا مع تركيا التي تتوافق وتتماثل سيَّاسيًا مع البلدان العربيَّة ذات ثورات الربيع بغض النظر عن موقفها الأخير من الأزمة السورية، وهو موقف يأتي من عمق مصالحها الوطنيَّة، أمنها القوميِّ، وكذا الحال مع إيران التي ترتبط بامتداد ثقافيِّ واقتصاديِّ وتجاريِّ، وجوار جغرافيِّ مع منطقة الخليج العربيِّ، ونشترك مع العديد من الأنظمة العربيَّة في مواقفها من المقاومة والمواجهة مع"إسرائيل"
ربما تشكل كُلّ حالة من هذه الحالات أو الدول محور لوحده في دراسة الخيارات الإستراتيجية كبدائل للعرب أو لدول الثورات العربيَّة على المدى القريب والمدى البعيد في التحرر من فلك القطب الأوحد، واملاءاته السيَّاسيَّة والعسكرية ضدّ كُلّ العرب.
3اب(تموز)2012م

CONVERSATION

0 comments: