العـولمــة.. وحديث الحوارات/ صبحة بغورة

العولمة مصطلح حديث فرض نفسه على المستوى العالمي خلال سنوات التسعينات بعد سقوط المعسكرالاشتراكي، ولم يكن هذا المصطلح معروفا في المجال العملي والتطبيقي في الوطن العربي كما لم يكن متداولا في الأبحاث الفكرية بالرغم من مرور بعض الدول العربية بأنماط مشابهة مثل فترة حكم محمدعلى في مصرالذي بدا منفتحا على الغرب بشكل جريء لنهل العلوم والمعرفة مدفوعا بحلم تكوين أمبراطورية مستقلة عن الباب العالي بتركيا، وحديثا تتبلور العولمة في شكل انتشار مميزات الحضارة الغربية على باقي دول العالم أي بمعنى حضارة تفرض نفسها، ومن ذلك ينبثق صراع البقاء  اما للانتصاربغلبة الوجود أو الذوبان المرادف عمليا للزوال ، وتشير المعطيات الى أن العولمة تعني فرض أو تصدير النموذج الأمريكي لقولبة الشعوب الأخرى وتنميط هذا النموذج عالميا ولكن من خلال أساليب "مهذبة" وبعبارات تراعي عدم النفور السريع منها كالحديث عن التأثيرات الثقافية المتبادلة ثم توحيد الأنظمة الاقتصادية في الشكل الرأسمالي لتحقيق الانسجام وتسهيل التبادلات التجارية ثم عولمة المعارف والعلوم وعالم الاتصالات والمواصلات وصولا الى العولمة السياسية التي تبدو في  الظاهرهي نهاية المطاف ولكنها في الحقيقة هي البداية لمراحل أخرى تمنح فيها للدول العظمي الموصوفة بالصناعية الكبرى التي تمثل الطرف القوي فرصة التأثير في اتجاه واحد على باقي الدول الصغيرة والشعوب الضعيفة اذ لا يعقل أن تنتظر الدول المتقدمة بمقاييس الحضارة الحديثة لحاق الدول التي تخاذلت أو تأخرت في الأخذ بأسباب القوة العلمية كسبيل لتحقيق نهضتها وذلك من أجل الشروع في التفكير بعملية التفاعل الانساني المثمر، فالفارق الحضاري بينهما يحسب بعدة قرون والنتيجة عدم انتظار أوتوقع تقليل الفارق الحضاري سريعا بالمقومات الذاتية لهذه الأمم المتخلفة حتى منها تلك التي شهدت على أراضيها حضارات قديمة منذ آلاف السنين تركت شواهد على قدرة الانسان ومهاراته الابداعية وتحقيقه السبق المعرفي في مجالات حيوية عديدة على أمم أخرى لم تدرك ماأدركته تلك الحضارات القديمة الا مؤخرا.

نفهم أن العولمة قد تأخذ بيد المستضعفين في الأرض ولكن بمقابل يبدو للكثيرين خطيرا وهو تنازلها عن سيادتها طوعا والانقلاب على مقوماتها اضطرارا  ثم الذوبان الكلي في منظومة عالمية ترغيبا وذلك من أجل مواكبة حضارة صنعها أبناء أمم أخرى تأسيسا على ثقافتهم ووفق معتقداتهم ،ومن هنا تأتي مرحلة الاستلاب الفكري والاغتراب عن أصول الهوية الوطنية حيث تصبح هذه المجتمعات مادة لينة طيعة لاعادة تشكيلها بعيدا عن خصوصياتها بل وفي كثير عن مقومات شخصيتها التي كانت الى عهد قريب دافعها الأساسي لنيل حريتها ولاستقلالها عن المستعمر بالدم والعرق والدموع ، لم يكن بوسع العديد من الأمم التفكير كثير بالأمرفهي أمام خيارين اما الانسجام سريعا مع منظومة حياة أخرى تماما بغية الأمل في احداث التقدم الاقتصادي ودفع عجلة جهود التنمية لتحسين المستوى الاقتصادي وترقية الوضع الاجتماعي ، واما البقاء في دائرة التخلف التي يتفق الجميع على أنها دائرة مغلقة على البطالة و الفقر و الجهل لضعف قدراتها الذاتية لاحداث الوثبة الحضارية بمفردها. 
أن الأمر حقيقة يبدو في غاية الحساسية والتعقيد لأن مثل هذه الاعتبارات المتعلقة بتهديد السيادة الوطنية والثوابت الأصلية والمعتقدات الراسخة على مدى قرون من الزمان في حياة الشعوب يصعب كثيرا المساس بها بهذه السهولة دون أن تتصدى لها النخب الوطنية السياسية والمثقفة بالمقاومة وبالمعارضة الشديدة وتواجهها الأوساط الاعلامية والحقوقية بالنقد وبالرفض الأمر الذي يضع السلطة بين نارين في مواجهة شعبهاتحت اتهامات حادة بالعمالة قد تبلغ حد الطعن في الوطنية..الأمر يقتضي من يملك المهارة كي يقرن الفضاء العام الأنيق باغراءات العولمة بالممارسة الجادة والفعالة لتحريك ثقافة العمل باعتبارها معيار التقدم ،العمل الذي يعني البحث عن نظام دولي جديد قائم على السلم  والعدالة ورفض فكرة احتكار التقدم .

تعني العولمة فيما تعنيه الانفتاح على العالم مع ما يتيحه ذلك من فرص التأثيرالثقافي المتبادل بين شعوب أقطاره وتضاعف امكانيات التواصل بينها سياسيا و اقتصاديا وتقنيا وبيئيا .. وهذه الحركة ناتجة عن التطورالكبير في وسائل الاتصال والمواصلات التي تحولت كداعم لها على الانتشارومنها تتوجه المجتمعات نحو نوع من التجانس تغلب فيه الشخصية العالمية ذات الطابع الانفتاحي على ما حولها من مجتمعات وثقافات مختلفة ، ولاشك أن المجتمعات الكبيرة تتمتع بميزة فائقة لتوفرهاعلى وسائل اتصال أكثر تطورا وبقوة دعائية أوسع انتشارا وبامكانيات اقتصادية كبيرة وقدرات علمية هائلة تمكنها من التأثير في المجتمعات الأخرى المفروض أنها هي الأضعف، لذلك تكون فرص تحقيق التأثير المتبادل ضئيلة ومن ثمة تسير الأمور في اتجاه واحد لن يستثن القطاعات الثقافية و الفنية والفكرية و الاجتماعية .

 ان النظر الى التغيرات الهائلة والمتواصلة في عالمنا المعاصر والى صروح الحداثة الهائلة التي تفوق قدرة استيعاب الشعوب المتخلفة سيجعلها دائما تتنفس وتتحرك في حاضرها وكأنها تعيش في عالم افتراضي لأنه يتغير في كل لحظة ،واذا وقفت بعض مجتمعات الضعيفة مشدوهة أمام ما يفوق تصورها ومالت الى التمتع بمنجزات العلم الحديث دون استعدادها لبذل جهد المشاركة في صنعه تحت مبرر ضعف التأهيل العلمي لكوادرها وتواضع المستوى المهني لأبنائها أو أنها وقعت فريسة قوى داخلية غلب عليها الطابع التجاري الاستغلالي البحت على حساب الجهد الاستثماري الوطني، فان الأمر قد بدا مختلفا لشعوب أخرى لم تر في العولمة عائقا و اشكالا أو حجر عثرة يحول دون اجتهادها في ايجاد بدائل ذاتية متجددة للتكيف مع عالم متجدد اذ مثلت العولمة لها حافزا لتغيير المسلمات و الآليات التقليدية التي تولد عنها الفكر المأزوم بمطلقاته ، انها عملية البحث عن بدائل تجدد الولاء للواقع المعاصر بثقافته ومستجداته وقضاياه .. ، العولمة من حيث أنها اكساب الشيء طابع العالمية يبقى تعريفا سطحيا ما لم ينظر اليها من خلال رؤية شاملة لنطاق جميع المتغيرات الثقافية و الاقتصادية والسياسية و العسكرية التي يعيشها المجتمع الدولي ،وهذه الرؤية بعدا لا يخفى وهو أن هناك حضارة منتصرة ظافرة ينبغي أن تحكم العالم وتوجهه في شتى المجالات ونكون هنا بصدد الحديث عن مفهوم وحدة الحضارة من خلال الانفتاح على الثقافات الأخرى،ولكن مع التطور السريع في وسائل الاتصالات والمواصلات سنكون أمام ظاهرة السير بخطوات واسع ومتسارعة نحو السيادة وستكون للقوة السياسية والاقتصادية دورها الحاسم في الانتشار الثقافي لهذه الحضارة التي سينظر اليها كونها من مظاهر التطور العالمي المذهل لما تجمعه بين طياتها من مرادفات ، ورغم ان العولمة مصطلحا ما زال غامضا في أذهان البعض حتى الوقت الراهن الا أن هناك محاولات متتابعة تسعى حثيثا لوضع مسارا واضحا لتطويرها على اعتبارها مفهوما شموليا يذهب عميقا لتوصيف حركة التغيير المتواصلة في حياة الأمم ومستقبل الشعوب ،نستطيع اذن فهم أن العولمة تعني تعميم نموذج الحضارة الغربية وأنماطها الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية على دول العالم كله،ونستطيع الوقوف على صدى ذلك بعد " استفراد " أمريكا بالعالم ، ونتبين تأكيده بعد أن مطالبتها دول العالم بالتوقيع على اتفاقية انشاء منظمة التجارة العالمية التي تفتح المجال واسعا أمام احكام الشركات الأمريكية الكبرى العابرة للقارات سيطرتها على الأسواق العالمية مما يؤكد أن العولمة بثوبها الجديد أمريكية المولد و النشأة لأنها اعتمدت على العناصرالأساسية التي نهض عليها الاقتصاد الأمريكي وأدت الى بروزه و تعاظمه والتي تمثل في الوقت نفسه المحددات الرئيسية لانتعاش علاقاتها الدولية في المجال الاقتصادي ومنها تحرير التجارة الدولية ، وحرية تدفق الاستثمارات المباشرة الى جانب الثورة المعرفية مع تعاظم دور الشركات المتعددة الجنسيات.

لم يخف عن المجتمع الدولي الطابع الاحتكاري للعولمة الذي يميل للانتصار لمصالح طرف على حساب مصالح معظم دول العالم، كما لم يخف عن دعاة العولمة أن حدة مظاهر المقاومة والمغالبة لهذا الوضع العالمي الجديد نابعة أساسا من خلافات سياسية بحتة لم تجد لها حلا بسبب ما تبديه أطرافهامن تشدد في مواقفها وتمسكا بمطالبها الوطنية مهما طال أمد النزاعات تحولت الى صراعات مسلحة دامية فشل المجتمع الدولي في احتوائها ، فمثل هذه الأوضاع لا تثير الرغبة أو حتى الطمع لدى الدول الضعيفة في الاندماج في جهود العولمة وهي ترى العجز الدولي والأممي عن ايجاد الحلول الجذرية لمآسي شعوبها التي يدعي أنصار العولمة أنهم يعملون من أجل سعادتهم وتطورهم .. فكان من الضروري البحث عن بوتقة أخرى يتم فيها التقاء الارادات لصهرها أولا قبل ادخالها كمكون أساسي في المنظومة العالمية والمقصود هنا هوالحديث عن " تحالف الحضارات " الذي سريعا ما تم وأده لاستحالة تحقيقه في الظروف الدولية الراهنة التي تتسم بالتهديدات الأمنية الخطيرة على الأمن و السلم العالميين والشكوك المتعاظمة من تنامي التيارالاسلامي بصفة خاصة ،وقد بدا أن غرض التحالف اقامة علاقة التابع بتابعه أي عبر علاقات غير متوازنة تفقد التحالف مضمونه بل ومعناه .. وجدواه، فكان أن جرى تخفيض سقف الحديث الي ما يسمى "تقارب الحضارات" وذلك تعبيرا عن الرغبة في تأكيد  أهمية تلمس وايجاد نقاط مشتركة يمكن أن تشكل أرضية مناسبة تتيح امكانية احداث نوع من التقارب المريح بينها وابقاء نقاط الاختلاف مؤجلة وعدم اثارتها وتركها رهن تقدم الوعي الانساني للأجيال القادمة ،ولكن بقي أثر الاخفاق في تحقيق تحالفها ملازما لجهود التقارب خاصة من نظرات الشك في حقيقة النوايا بالرغم من بعض الجهود اللافتة التي تبلورت في عقد لقاءات دولية لبحث سبلها وعوائقها والتي بدت على كثرتها وتنوعها وجوب التفكير في تفكيك خيوطها المعقدة أولا،فتراجع مستوى الحديث لمرتبة أدنى وتم طرح مفهوم "حوار الحضارات" ويكون هذا المستوى المقبول شكلا قد شجع أكثر من طرف على الخروج من دائرة التحفظ والتردد بالكشف عن مبررات الاحجام عن التحالف والتقارب ما بين الحضارات وقد  أسفرت صراحة اللقاءات عن بون شاسع في المنطلقات الأساسية التي لا يمكن لأي سلطة سياسية في هذه الدولة أو تلك المساس بها فضلا عن ارتباط عدة أنظمة بمعتقدات يصعب التنازل عنها تحت أي ظرف ومنها المتعلقة بالدين و العادات و التقاليد والسيادة الوطنية لذلك لم تستسغ كثيرا الدول النامية سياسة الاغراءات الاقتصادية والمالية والعسكرية ،فيما ضغطت أخرى بطرح ورقة سياسية لدعم مواقفها في نزاعاتها مع دول الجوار مثلا، ورأت أخرى في الاغراءات العسكرية تقوية لدولة خصم لها سيخل دعمها بتوازن القوى العسكرية في المنطقة ، وشيئا فشيئا برز التنافر وسرعان ما وصلبت الأمور الى طريق مسدود ، واذا كان دعاة العولمة لا يبدون صبرا أمام تلهفهم لوضعها موضع التطبيق العملي على المستوى العالمي فقد انتقل حديث الحضارات الى مستوى آخر يتناول بعدا من الأبعاد الهامة الذي جرى اعتباره أبرز المحددات في العلاقات الدولية لطابعه الحساس في عصرنا المعاصر وهو المذهب الديني من خلال الدعوة الى "حوار الأديان" ذلك لأنه لا مجال موضوعي للحديث عن تحالف الأديان أو تقاربها ، وكما لا ينتظر أو يتوقع أحد احتمال حدوث تنازلات من دعاة كل دين لدين آخر فكذلك كانت النتيجة وهي عدم استعداد كل فريق لمنح الفرصة أو الترخيص لدعاة دين ما بنشر تعاليم دينهم في أوساط المريدين والمؤمنين بدين آخرا بل وتجريم محاولة اغرائهم للارتداد عن دينهم الأصلي ولوكان تحت ضغط دعوات منظمات حقوق الانسان بضرورة توفيروضمان حرية المعتقد و المذهب ،وأمام فرضية الارتباط العضوي بين السياسة و الدين في العديد من الدول فقد أصبح مجرد الاتصال بقادتها مثار للشبهة ومصدر ازعاج ، ولأن مسألة الأديان تكتسي حساسية بالغة الى جانب التباين الشاسع في مسألة الايمان وقواعده وأركان العبادات فقد تم اقفال الملف الى أجل غير مسمى ، ولكن لم تتوقف جهود البحث عن أبعاد جديدة من شأنها أن تمثل مجالا آخرا لابراز احدى مظاهر التكامل الانساني التي يمكن أن تحدث الانسجام المنشود فكانت البداية من " حوار الثقافات " ولكن سرعان ما طفت على سطح المناقشات الأولية مفاهيم لا تفرق بين التنوع   الموضوعي بين الثقافات الذي لا مفر من الاعتراف به كحقيقة تاريخية تشكلت معها  خصوصية كل ثقافة منها عبر المراحل الزمنية ،وبين مظاهرالاختلاف فيما بينها التي سرعان ما تحورت ثم تبلورت الى نقاط خلاف بشأنها من زاوية استناد كل ثقافة الى عوامل قوة خارج المجال الأدبي والثقافي والفكري والفني  ومنها النفوذ السياسي و المركز المالي و الاقتصادي و القوة العسكرية فتحول الأمر الى صراع ثقافات ولمن ستكون الغلبة في النهاية .. فالثقافة الغربية مثلا التي تخلصت من سلطة الكنيسة وتحررت من السيطرة البابوية تتمسك بما حققته من حريات فردية وجماعية تصل الى حد يمكن اطلاق العنان في تصور حجمها وقدسيتها حتى وان كانت تخالف في بعضها قواعد الأخلاق العامة والآداب وذلك على أساس الحرية المطلقة ومفاهيم حقوق الانسان ... لذلك فهي تأبى العودة الى نقطة الصفر فما بالك اذا كان الأمر يتعلق بثقافة عربية متأثرة بشدة بتعاليم الدين الاسلامي وأوامره ونواهيه والعقائد المرتبطة به، وكذلك الأمر نفسه بالضبط بالنسبة للديانات الأخرى، ومع بلوغ حديث الحضارات هذا المستوى بدت سخافة الاسترسال الى ما هو أقل من ذلك كتعايش الحضارات وتلاقح الحضارات وتناقح الثقافات وتسامح الديانات وما الى ذلك من محاولات هي في حقيقتها نبيلة وتهدف لايجاد نقاط تماس بين مختلف الكيانات البشرية لتشكيل نقاط مشتركة ترتبط بها المصالح وتدور حولها الأهداف من منطلق انساني عام يمكن أن يكون يوما عاملا حاسما لكبح للتوتر والشقاق و النزاعات المسلحة .
ان توقف حديث الحضارات عند هذا المستوى سيكون أفضل من الاستمرارفي اللهث بحثا عن مجالات أخرى يمكن أن تكون سببا اضافيا للاحباط حيث يخشى أن تنقلب الأمورفيما بعد الى صراع الحضارات وعداء الديانات وتنافر الثقافات ...ان الحديث عن "صدام الحضارات" ليس غريبا ولا مستبعدا أيضا انطلاقا من قناعة مفاداها أن منظومة التفكير الغربية تريد فرض نموذج حضاري على العالم العربي و الاسلامي خاصة قائم على الهيمنة وعلى جعل شعوب العالم تنصهر في منظومة التفكير الليبرالية والعلمانية ، وكذلك الأمر نفسه بالنسبة لمسألة صدام الثقافات وعدم قابليتها للحوار التي أصبحت توظف لخلق حالة من عدم الاهتمام بالمشاكل الاقتصادية والسياسية والتركيز فقط على أخطار الثقافات والديانات الأخرى باعتبارها مصدر للصدام وليس للنقاش ، اذ لا تخفى بعض الأراء تدعمها تيارات توظف حوار الثقافات في اطار صراع الحضارات كوسيلة لالهاء الشعوب عن المشاكل الحقيقية التي يعاني منها العالم ، وكما أنه من الانفعالات يمكن فهم الشخصية في حالات استوائها و اضطرابها فكذلك هو نفسه المدخل لتفسير حدة الأصوات المتشنجة للانتصار للعولمة بدون اعطاء الفرصة الكاملة لتفاعل المجتمع الدولي مع مقتضياتها على نحو مثير للشكوك وكأن شيئا ما يستحق التوقف عنده هنا لتحليل ما يحدث بدقة وتمعن عندما يكون الصراخ على قدر الحرج . 
من المعروف أن الطبيعة تكره الفراغ ، وأنه لابد من ايجاد بديل انساني يقضي على أزمة الفكر و الحضارة ، والسبيل الوحيد لذلك هو الحوارالذي من خلاله يمكن ايجاد حضارة مشتركة بين البشر من منطلق أنه لا يوجد مجتمع لوحده يحتكر مسألة الحقيقة ،الحوارالذي عن طريقه أيضا يمكن بذل الجهود من أجل تطويع النظام العالمي لوقائع التنوع العالمي من منطلق الاسترشاد بالقيم الانسانية العالمية بروح المسؤولية المشتركة                  
ما يدفعنا الى ملاحظته الآن هو ما يمكن أن نثير حوله التساؤل الحائرالتالي ، هل كان هناك خطأ فى منهجية تناول مسألة الحضارات ؟ أكاد أرى عدم المنطقية فيما ذهب اليه المجتمع الدولي الذي بدأ اهتمامه من سقف عالى وبدون أرضية تفاهمات وفي توقيت غير مناسب يعرف فيه العالم نزاعات سياسية وصراعات ايديولوجية تحولت معظمها الى مواجهات دامية وعنيفة وجرائم بحق الانسانية ، الأكيد في المسألة أن المسلك والتناول كان ينبغي أن يكونا أكثر عقلانية لأن ما جرى يثير الشكوك في نزاهة المسعى بل ويدفع الى الاعتقاد أن أمرا كان مقصودا من قبل من به علة نفس أو سوء تقدير لتعميق البون الحضاري الشاسع بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى على سبيل التميز و التفرد وتأكيد جدارة الانفراد بالريادة في كل المجالات ، كان من المفروض أن تبدأ الأمور بشكل تصاعدي مرحلي يقينا الزلل والسقوط والمزيد من مشاعرالاحباط تجاه الواقع الانساني الراهن ، هل كان من الضروري التنبيه أولا الى طرف خيط البداية المتمثل في " تعارف الحضارات " أولا الذي يعني في ما يعنيه تكريس سنة " التواصل " لربط التعارف أي تعريف المجهول ، والتعارف بمفهوم التواصل ينطلق من الاعتراف بوجود الآخر ويهدف الى الانتقال من المستوى الفردي الى الجماعي الى الدولي  فالأممي ثم العالمي ، لذا يعتبر في حد ذاته منهجا ،ويكون أيضا أداة لاجادة فن التعامل مع أزمة الانسان حيث يكون التعامل وفق ما تمتلكه الأطراف من مشتركات تمثل لغة التقبل تعارفا ، كما أنه غاية لأنه يهدف الى كسر الحواجز التي انتهت الى الجهل واللامعرفة بحقيقية وطبيعة الآخر و التي منها نشأت الخشية من ذلك الآخر مادام الجهل به بقي قائما ، كان من المفروض أولا التعامل مع مسببات الجهل المتبادل الذي كان سببا مباشرا في ظهور الاستعلاء العنصري والحضاري بالقضاء عليها وفتح المجال الذي سيؤدي تدريجيا الى خلق التآلف الاجتماعي البشري و تعميقه ثم بداية الطريق نحو التعارف عن طريق الفهم المتبادل وبدونه لانتصور كيف يمكن الحديث عن الوئام الانساني والشراكة في المشروع الأساسي . 

CONVERSATION

0 comments: