الكتابة السياسية.. القوة الناعمة/ صبحة بغورة

 أن يكتب الانسان معناه أن يفكر أثناء الحركة، ذلك لأنه من المفروض أن يكتب وهو في قلب الحدث يكابد الأمرين، فقد تراه يخضع صاغرا الى ضبط النفس، يكبح جموحها، يعد خطواته في الانتقال بين الافكار، يراقب عناده، ويخشى الضياع في سفر ليس بعده بلوغ مراد، وقد تراه في حالة نحيب عقلي خوفا من أن يكون قد قام بتضييق واسع أو باجحاد واقع، كما تراه يحرص كل الحرص على ألا يكون 
ما كتبه يقع في خانة رب صيحة تخفي عقدة نقص وعلة نفس وسوء تقدير..وقد تضعه الظروف ـ هو نفسه ـ على هامش الحدث ينظر.. فاذا بالنظرة تولد خطرة، والخطرة تولد فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة ارادة، ثم تقوى الارادة فتصير عزيمة جازمة فيقع الفعل ومنه يتدحرج الكاتب نحو قلب الحدث، وسيكون حينها قد تشبع بكل الحذرمن ألا يكون هناك مايمكن أن يؤدي الى نقص في الفهم، قد يقود الى خلل في التفهم ثم اختلال في التوازنات، لأن على الكاتب من خلال ما يكتب أن يحقق توازنا بين الانفعالات العاطفية للقارئين وتقبلهم العقلي له. 
 الكتابة معناها الاستكشاف، فالكتابة رحلة طويلة شاقة في الظلام، وعلى أي قارئ أو ناقد له أن يقطع مسافة الرحلة نفسهاالتي قطعها الكاتب حاملا مصباحا في يده مصباحا ينير به طريقه، و الكتابة عبارة عن مبنى؛ ويبقى على الآخرين ملاحظة درجة تماسكه،والكاتب الناجح يصاب ـ هو نفسه ـ بالدهشة للأثر الذي تحدثه كتاباته وسيكون سعيدا بالطبع، لكنه على الرغم من توخيه الصدق فانه يتسائل دائما عن ما اذا كان اخلاصه أصيلا أم أنه قد غش على الرغم منه، واعتقادي أن كل جديد هو أصيل وصادق، أما ذلك الذي يشبه كل ماعداه فهو زائف لأن التقليد زائف، فالشيء المخلص و الصادق هو ما لم يعلمك اياه الآخرون، والببغاء ليس مخلصا لأن ما ينطق به لا يعنيه و يظل غير مفهوم، كذلك أن يكون الانسان دائما نفسه فهو كمن ينظر الى المرآة وأن يرفض نفسه كلاهما صعب ، وأن يكون للانسان محك أو مقياس للقيمة ليس بالضرورة دليلا على الموضوعية، أضف الى ذلك أن تنوع المقاييس و تعددها هما اعتراف صريح بأن الأمر نسبي، وهما لا يفعلان شيئا أكثر من البلبلة؛ لذلك فعلامة القيمة لأي عمل هي الاخلاص فيه، أي مستوى جديته ونقائه.
في الكتابة السياسة يبدو ثقل الكلمة كأمانة، و الأمانة مسؤولية، و المسؤولية أساس كل مصداقية، ومن المصداقية أن توضع الكتابة السياسية في اطارها الزمني؛ لأن بترهاعن هذا الاطار يعد من قبيل الكذب  بالحذف، ذلك أن حقائق المرحلة موضوع الحديث لا تكتمل بدون احاطتها بالظروف السائدة خلال وقوع أحداثها و بالاعتبارات المختلفة التي على ضوئها ووفقا لها تم اتخاذ القرارات ،وأيضا بطبيعة الضغوط المحلية أو الاقليمية والدولية، فكلها ستبين مبررات المواقف وستكون هي معللة في حد ذاتها سواء بطبيعتها الايجابية أو السلبية، والأسوأ من ذلك أن تصاغ الكتابة بعبارات تخرج كاتبها من مأزق موقف ليس بوسعه اتخاذه، انها في الحقيقة كتابة خالية من أي معنى، وعارية من أي قصد، لا نلمس فيها أي توثب لدى كاتبها للانتصار لمواقف، أو تجاوبا لمشاعر أو تضامنا مع وجدان. ان الكتابة السياسية تعني تجريد الذات والصرامة البحثية و الجهد في تقصي المعلومة والتمحيص قبل الكتابة، فاذا كان المفكر يسبق الأحداث والصحفي بستعرضها فان الكاتب يحللها ثم يأتي دور المؤرخ ليسجلها .
والكتابة السياسية هي أيضا تفكير أثناء الحركة ، فليس من الكتابة السياسية خطب التأبين التي ينتهي دورها بالقائها ، ولن تكون كتابة المذكرات مرجعا لكتابة مرحلة معينة ما لم يوضح كاتبها موقعه من الحدث لأن هذا هو أساس مصداقيته عند المؤرخين الذين يعتمدون على الرؤية المباشرة التي تؤكدها أو تنفيها أو تضعف منها درجة القرب أو البعد عن الحدث ، كما أنه ليس من الكتابة السياسية العمود الافتتاحي في أي صحيفة يومية لأن مهمته هي التعليق على وضع راهن في حالة تحول لذلك يصعب مناقشة الأفكار التي وردت فيه ، ومع ذلك يبقى أن طبيعة الأحكام عادة ما تكون محكومة بمواقف أصحابها و الزاوية التي ينظرون منها للأشياء ، فهناك من يرى مثلا أن الديمقراطية تفتح الطريق واسعا لتحقيق الاستقرار الذي يشجع بدوره على الاستثمار و التنمية ، فيما يرى آخر أن التنمية  أولا هي التي تضمن الاستقرار الذي يمهد للدخول في التجربة الديمقراطية بهدوء ، وسيبرز بين أصحاب هذا الرأي أو ذاك المصابون " بالبرانويا" وهذه فئة تميل دائما الى تفسير فشلها بعقيدة التآمر.
الكتابة السياسية تتبع الفعل السياسي، وطبيعي أن أي حركة سياسية تنطلق عن ظاهرة اجتماعية وتمثل تعبيرا لها ، وهذه الظاهرة قد تحمل في طياتها احدى النزعتين ، النزعة نحو المشاركة ، أوالنزعة الى الاختلاف ، وبديهي أن للفعل السياسي مهام تاريخية و أيضا مصيرية كمهام التحرر الوطني السياسي أو الاقتصادي ومهام البناء الوطني والتنمية لذلك يصعب الاعتقاد أن الكتابة السياسية ستتستر على نزعتي المشاركة أو الاختلاف لأن تصور تحييد الفعل السياسي المرتبط في الحقيقة بمهام تاريخية مثل استكمال البناء السياسي والوطني الصلب القائم على ركيزتي الاقتصاد المنتج للثروة ،والثقافة الوطنية المبدعة للأفكار معناه بقاء الكتابة السياسية في دائرة تصوير نزعة المشاركة في مجرد اقتسام المنافع وتبادل المصالح كسبيل للاستيعاب و الاحتواء ، أو اعتبار نزعة الاختلاف كمرادف للتهميش ومبررللاقصاء ، وبذلك سنكون أمام معضلة طرفها الأول مجال متقدم للكتابة السياسية يقابله وعيا اجتماعيا متأخرا فاقدا للثقافة السياسية فتفشل جهود الكتابة السياسية في رسم المشهد السياسي سواء بمرجعية تختزنها الذاكرة الجماعية للمواطنين، أو بمرئيات مستقبلية ، ولا يخفى خطورة من لا ثقافة سياسية له لأنه سيجد في العنف وسيلته وأداته لتحقيق أهدافه والحصول على حقوقه، كما لا يوجد اختلاف في أن الثقافة السياسية توحد الفكرعند الفرد، فتتحدد قناعاته بالمواثيق وبالقواعد التي تحكم العلاقة بينه وبين حاكمه، وبالتالي يمكن قياس توجهات المواطن وما يؤمن به من قيم، وأن الثقافة السياسية تحدد مدى استجابة الأفراد لما يحدث لهم وحولهم و قياس قدرتهم على الانجاز والابداع، ومعرفة ما يحلمون به، وأن الثقافة السياسية كذلك تنمي الوعي بالحقوق والواجبات والشعور بالالتزام والاعتراف بالمسؤولية في حالة الصواب كما في حال الخطأ. من هنا ووفقا لكل هذه الفضائل التي تميز الثقافة السياسية كانت أهمية وضرورة الكتابة السياسية وحيويتها في حياة الأمم و المجتمعات لأن الكتابة السياسية أثناء تحليلها للأحداث تقوم في الوقت نفسه بدور مؤثر في تشكيل الرأي العام سواء في الاتجاه المحابي للتوجهات العامة للسلطة أو في الاتجاه المعارض لها، على أن مستوى النضج العام للثقافة السياسية عند الأفراد يمكن أن يكون هو الضمانة للتعامل الواعي معها بعد تمييز الطابع الموضوعي البحت عن الطابع التهليلي أو التهويني لمختلف التناولات في الكتابات السياسية، فكثير من الكتابات تضع النتائج لحدث ما في عنوانها الرئيسي وبابراز لافت قبل ذكرها الحدث نفسه،  ونجد صدى ذلك تحديدا في أخبار الأوضاع الأمنية المضطربة القائمة في عدد من البلدان، حيث يتسم تناولها بالطابع التهويلي للنتائج السلبية بذكر عدد الضحايا من القتلى و الجرحى لعمل مسلح قبل الحديث عن الحدث نفسه الذي وقع؛ وهذا النوع من الكتابات انما يتعمد التضخيم بهدف توجيه السلوك نحوغاية 
مقصودة أي انها كتابات معبأة مسبقا لاثارة البلبلة.
ومن الكتابات أيضا ما تصاغ عناوينها بطابعين مزدوجين في آن واحد، حيث ينساق الملتقي الى القراءة بصيغة تقريرية بالرغم من انتهاء العبارة بعلامة الاستفهام، وصيغة الاستفهام في الجملة قد يمكن أدركها مع اللحن الاستفهامي لآخر كلمة فيها، وهو أسلوب يبدو تقريرياعند قراءته بالعين واستفهاميا عند نطقه باللسان بالرغم من عدم وجود أي أداة استفهام في بداية الجملة، و الغرض منه لفت الأنظار للعنوان فيتلقاه اللاشعورعند القارئ على نحو يوحي اليه بوجود مشكلة..في حين لانرى أثرا لهذه المشكلة في المضمون، ومثل هذه الكتابات مسيئة للأفراد و للأوضاع بصفة عامة، و المفارقة أنها تتيح لكاتبها فرصة التذرع بالطابع الاستفهامي الخفي للتملص من أي اتهام أو توجيه المسؤولية اليه باثارة الفتن.
كثير من الكتابات السياسية تميل الى استباق الحدث، بل وترسم ملامح وضع سياسي معين قبل اكتمال معالمه، وقد يصل الأمرببعضها الى اصدار أحكام تبدو تقديرية متسرعة تجاه مرحلة لاتزال في حالة تحول لم تستوف بعد المدة الزمنية الكافية لها لتجاوز الظرف الانتقالي الى شكلها النهائي بمختلف جوانبه، مثل هذه الكتابات ترمي في معظمها الى محاولة قطع الطريق أمام مشاريع سياسية في مرحلة البلورة بابراز سلبياتها، وهي ما زالت في مهدها، وطبيعي أن يكمن وراءها اختلاف في المصالح أوتباين في المرئيات تجاه معالجة وضع ما.
 شاعت مؤخرا في الكتابات السياسية طريقة الاسقاط، اذ يتم تناول تحليل واقع أحد الاوضاع في مقابل آخر يتناول وضعا مماثلا أو مرتبطا به وقد ارتسمت معالمه بدقة أو بنزاهة وشفافية أو بأسلوب علمي وموضوعي كدلالة غير مباشرة على أن حقيقة الواقع موضوع التحليل اتسم بالفوضوية أو الغموض أو بأساليب خالية من أي معايير، وطريقة الاسقاط قد تفيد اذا كان الأمر في بدايته، فتعد بذلك من قبيل التنوير بالتجارب السابقة من أجل بحث امكانية الاستفادة من ايجابياتها وتجنب سلبياتها، أوالاقتداء بها كلية اذا تقاربت المنطلقات وتشابهت الظروف وحتى الأهداف، كما قد يكون الاسقاط من قبيل الانتقاد حيث ستتبادر للذهن على الفور فرضية المقارنة التي من شأنها توسيع بصيرة الرأي العام بأن ليس هذا الوضع هو أفضل ما يمكن بلوغه ومن ثمة تبرزالرغبة في التغيير التي ستجد مجالها في التعبير من خلال الجدل السياسي الحاد.
في بعض الكتابات السياسية يمكن أن نميز بين من ينظرالى سياسات الدول من خلال زعمائها فقط على اعتبار أنهم هم من يرسمون توجهاتها ويحددون مواقفها بصفة انفرادية، ومثل هذه الدول يتسم نظام الحكم فيها بالكثير من الديكتاتورية، وهذا التناول  تفرضه الكاريزما العالية لهذا الزعيم أو ذاك وقوة تأثير شخصيته في التحكم بشؤون بلده أولا، ومن ثمة في رسم خطوط السياسية الخارجية دونما معارضة، لذلك يرتبط نظام الدولة بهم ويستمد قوته من وجودهم ويضمن استمراره ببقائهم .. وبدونهم ينهار كل شئ، وفي التاريخ نجد صدى ذلك عندما نتحدث مثلا عن فترة الحرب العالمية الثانية، حيث ارتبط النظام الألماني بشخصية (أدولف هتلر) من خلال النازية الهتلرية، وفي ايطاليا بشخصية (موسيليني) من خلال الفاشية، وفي روسيا بشخصية (ستالين)، وفي بعض النظم الأخرى يبقى الأمر نفسه حتى في وجود برلمان أو أحزاب سياسية معارضة، أونوع من الرقابة الشعبية كما كان الشأن في عهد الرئيس العراقي الراحل (صدام حسين)،أو القائد الليبي الراحل معمر القذافي اذ كانت الكتابات السياسية حينها تستمد الهامها و المعلومات من روح الزعيم الأوحد، تترقب كل شاردة أو واردة من خلال أحاديثه ولفتاته، وحتى من نظرات عينيه لمعرفة سياسة الدولة، فالدولة هي الزعيم والزعيم هو الدولة، و الكثير من الكتابات مجدت حينها هذه الفترات تملقا واستطاعت أن تجد لها المبررمن خلال الاشادة بفضائل وحدة الفكر، ووحدة النظرة، ووحدة الهدف والمصير، فكرست بذلك للنظام الأسس لترسيخ أركانه، ولكن هذه الكتابات نفسها كانت أول من انقلب الى النقيض بعد رحيل هذا الزعيم

 والآن، هل بالامكان اعتبار الكتابة السياسية شكلا من أشكال " القوة الناعمة " ؟
 اعتقادي أن مفهوم القوة الناعمة يرتبط بكونها ثمرة تحويل الثقافة الى حضارة عابرة للحدود، وقادرة على الالهام، وهي تتيح القدرة على الحصول على ما نريد عن طريق الاغراء و الترغيب وليس الاجبار، وتظهر في قوة الجذب الذي تمارسه ثقافة بلد ما ومثله العليا في السياسة، ومدى غنى هذا البلد في ميادين الأدب و الثقافة و الفن والرصيد التاريخي والطموح الحضاري، و بالتالي يمكن اعتبار "القوة الناعمة"  وسيلة من وسائل الهيمنة التي تعني القيادة بواسطة الاقناع والرضا باستخدام الأجهزة السلمية، ومن بينها الدعاية و المنظومات التعليمية و المؤسسات الدينية و الاعلامية والثقافية لتحقيق أهداف وغايات محددة، وهي في ذلك تختلف عن مفهوم السيطرة كمفهوم سلبي يطبق في الواقع بوسائل العنف وبالممارسات الأيديولوجية القمعية ووسائل القوة الغليظة مثل توظيف الجيش من أجل تحقيق أهداف الطبقة أو النظام السياسي.
ان التغيرات السريعة في الحياة السياسية سواء على المستوى القطري أو على مستوى العلاقات الدولية، قد ألقت بظلال ثقيلة على المحللين و المراقبين السياسيين، فليس من الصعب أبدا في وقتنا الحالي الكشف عن خبر ما مهما كانت درجة التعتيم حوله، بفضل التطور الهائل في مختلف الوسائط الاعلامية والانجازات المثيرة في عالم الاتصالات الفضائية و شبكة المعلومات (الانترنت)، ولكن التحليل السياسي الممكن للتعرف بدقة على الخلفيات الحقيقية لسمات وضع ما مع امكانية استشراف التوجهات الرئيسية المستقبلية هوما أصبح تواجهه عدة صعوبات لرسم ملامح أوضاع شديدة التقلب و دائمة التبديل ، حتى أصبح خير من يمكنه التعامل مع هذه المعضلة هو ذلك الذي تسمح له دائما علاقاته الشخصية بالاقتراب من دوائر صنع القرار ومراكز النفوذ الفعلي، وبغير ذلك سيكون ما نلاحظه من تحليلات أشبه بالتخمينات.

CONVERSATION

0 comments: