تلعب المجلات المتخصصة دوراً رئيسياً في الحراك الثقافي وتنشيط الحركة الفكرية في أي بلد ، كونها مطبوعات توثيقية ريادية تقدم لقرائها بانوراما شاملة عن التجارب الأدبية الإبداعية والظواهر الثقافية . فكم من مجلة أدبية وثقافية أدت دوراً مهماً ، وساهمت في انتشار الحركات الأدبية الطليعية ثم اختفت وغابت عن المشهد الثقافي والإعلامي ، كمجلة "شعر" اللبنانية ، التي أسسها الشاعر يوسف الخال وأنضم إليها فيما بعد الشعراء أنسي الحاج وعلي احمد سعيد (ادونيس) وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقه ، وكان لها إسهام فاعل في تعميق وتوطيد أسس الحداثة الشعرية ، ومجلة "مواقف" التي أصدرها ادونيس وأنضم إلى هيئة تحريرها لاحقاً عصام محفوظ ورياض نجيب الريس ، ولا تزال تثير جدلاً بخصوص دورها في حركة الشعر العربي رغم انطفائها واختفائها . هذا بالإضافة إلى مجلة "الآداب" ، التي أسسها سهيل إدريس سنة 1953 ، وتعتبر من أرقى المجلات واهم الصروح والمنابر الثقافية العربية ، وشكلت حاضنة لكل الأقلام المبدعة المعروفة في الوطن العربي ، ونتيجة تراجع عدد قرائها والمشتركين فيها وانعدام الموارد المالية لم يكن مناص من رئيس تحريرها الدكتور سماح إدريس سوى الإعلان عن اضطرار المجلة إلى الاحتجاب المؤقت أو النهائي ، لأنها لم تعد قادرة وحدها القيام بكامل مصاريفها في المستقبل .
ولا يختلف حال المجلات الأدبية والثقافية هنا في بلادنا وفي المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، فمجلة "الجديد" العريقة التي أنشأها وكان يصدرها الحزب الشيوعي الإسرائيلي ، ولعبت دوراً تعبوياً وثقافياً في مواجهة سياسة التجهيل والعدمية القومية ، لم تصمد في النهاية واحتجبت عن الصدور ، ومثلها مجلة "المواكب" التي أسسها الشاعر الراحل فوزي عبد اللـه وواصل إصدارها الشاعر المرحوم جمال قعوار،وقداحتجبت عن الصدور ولم تواصل الحياة والبقاء . وفي المناطق الفلسطينية المحتلة توقفت المجلات الثقافية والأدبية والفكرية ،التي صدرت قبل مجيء السلطة ، مثل "البيادر" و"الكاتب" و"الفجر الأدبيط و"العهد" ، وأيضاً "الشعراء" و"دفاتر ثقافية "و"الكرمل " ، التي صدرت بعد قدوم السلطة الفلسطينية .
وفي حقيقة الأمر أن غياب هذه المجلات الرائدة خلف فراغاً هائلاً في الحياة الثقافية العربية والفلسطينية ، وأدى إلى انحسار وتراجع الإبداع الأدبي والثقافي . وانطلاقاً من أهمية صدور دورية جديدة في المشهد الثقافي والإعلامي الفلسطيني ، على ضوء الواقع القهري التعسفي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني تحت حراب الاحتلال ، جاءت المبادرة إلى إصدار مجلة فصلية فكرية ذات هوية تنويرية ، عن مؤسسة ياسر عرفات في رام اللـه ، وهي "أوراق فلسطينية " التي يرأسٍ تحريرها الروائي يحيى يخلف ، وفي هيئة تحريرها الشاعر غسان زقطان ، فيما تضم هيئتها الاستشارية نخبة من الشعراء والكتاب والأدباء الفلسطينيين والعرب من الداخل والخارج ، منهم انطوان شلحت وحسن خضر واحمد حرب وفايز السرساوي ومحمود شقير وماهر الشريف والياس خوري .
وقد صدرت حتى الآن ثلاثة أعداد من هذه المجلة الفصلية الدورية التي جاءت – كما كتب المحرر في عددها الأول – "وليدة الحاجة المباشرة إلى خلق فضاء ثقافي وفكري يواصل المشروع النهضوي ، الذي ابتدأه رموز الثقافة الوطنية ، وقضوا في سبيل رفع القضية الفلسطينية والتأصيل لها في الوعي السياسي والثقافي باعتبارها مشروعاً تحررياً وإنسانياً " .
وتعنى هذه المجلة بالقضايا الثقافية والمسائل الفكرية التي طرحتها وأثارتها انتفاضات العالم العربي ، كالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمجتمع المدني ومكانة المرأة ومساواتها ، عدا عن مسائل الليبرالية والعلمانية والإسلام السياسي والمعضلة الفلسطينية والحراك الشعبي والجماهيري الواسع في البلدان العربية وغير ذلك من أجندة وموضوعات .
من نافلة القول ، إن مجلة "أوراق فلسطينية " تشكل مساهمة تنويرية فلسطينية هامة في مجال الدوريات والمطبوعات الفكرية الجادة على مستوى العالم العربي ، وذلك عبر مواكبتها للمتغيرات والتقلبات السياسية والأحوال الناجمة عن الانتفاضات العربية وما تطرحه من قضايا تهم المثقفين والنخب الفكرية والقوى السياسية والجماهير العريضة الواسعة في المنطقة العربية ، وكذلك تركيزها على القضية الفلسطينية في هذا الحراك العربي الواسع .
إنني إذ أحيي القائمين على هذا الصرح الفكري والمنبر الثقافي الفلسطيني الحر ، نرجو أن يتواصل صدور المجلة لتستمر في أداء دورها ورسالتها التنويرية والمعرفية ، وخدمة القضايا العربية والفلسطينية المصيرية ، في ظل انحسار الصحافة الورقية والإقبال على الصحافة الالكترونية ، وفي خضم هذه المرحلة الصعبة التي يمر فيها المشروع الوطني الفلسطيني ، ونواجه فيها الكثير من التحديات التي تطلب تعميق ثقافة التنوير والعقلانية ، وإرساء التقاليد الديمقراطية ، ونشر الوعي المجتمعي ، القادر على التغيير في مستقبل مشرق ومضيء للشعوب العربية الطامحة للحرية والديمقراطية والعيش بكرامة .
0 comments:
إرسال تعليق