الامتحانات المدرسية مرآة تعكس مدى التخريب في العملية التربوية/ عبد الكــريم عليـــان

في سبعينات القرن الماضي حيث انفصل قطاع غزة عن الإدارة المصرية نتيجة الاحتلال الصهيوني لقطاع غزة وسيناء..  فصار امتحان شهادة الثانوية العامة في غزة تشرف عليه الإدارة المصرية بواسطة الصليب الأحمر الدولي، وكان المعلم والطالب يجتهدان في تجميع أسئلة امتحانات السنوات السابقة، ومحاولة وضع أفضل الإجابات لتلك الأسئلة.. فيقوم الطالب بحفظ تلك الإجابات النموذجية، ومع ذلك لم يحصّل الطلبة الأوائل على درجات تفوق التسعين بالمائة!! ولعل ذلك كان تقييما دقيقا أفضل بكثير مما نحن عليه اليوم حيث لا رحمة ولا تدخل من قبل الجهات السياسية لرفع نسبة النجاح، أو تحيز من قبل أحد.. وقد تكون وحدات القياس للإجابات قليلة فلا يحتار المصحح أو يتكهن بالمقصود؛ فتخرج النتائج أكثر دقة وثباتا ومصداقية من وحدات القياس العالية.. وقد يرجع ذلك إلى عدم وجود علاقة من قبل الإشراف والتوجيه بما يجري في مركزية الإدارة المصرية، حيث تقتصر العلاقة فقط في إجراء الامتحانات والرقابة عليها...

أما باقي المراحل التعليمية تجرى الامتحانات فيها بشكل اعتيادي دونما أي اكتراث يذكر، حيث يتم ترسيب اثنين أو ثلاثة من كل صف في كل مدرسة، سواء حكومية أو تابعة للأونروا، وذلك لاعتبارات مادية في الغالب، وهو ما تعتبره الجهات العليا "هدرا ماليا".. لكن ذلك كان يعالج من خلال الامتحانات الشاملة لكل مرحلة، حيث كان يجرى امتحان نهائي للمرحلة الابتدائية وكذلك المرحلة الإعدادية، وفي هاتين المرحلتين كان يرسب في الامتحانات أعداد كبيرة ويسمح لهؤلاء بإعادة السنة لاكتساب المهارات والمعرفة اللازمة لاجتياز الامتحان والدخول لمرحلة جديدة.. بالطبع يجتاز عدد منهم المرحلة، ومنهم من يخرج متفوقا حيث شكل الامتحان له (موقفا تعليميا)..، لكن عددا آخر منهم كان يتسرب من المدرسة لاعتبارات اقتصادية واجتماعية، فيذهبون للعمل أو التعليم المهني..

لفت انتباهي اليوم ما يسمى "كراريس الامتحانات" لكل الفصول من الصف الأول وحتى الثاني عشر ولكل المساقات التعليمية، وهي متوفرة بشكل تجاري كبير، ويقوم بطباعتها وبيعها تجار لا هم لهم سوى جمع الأموال.. وهي ليست على شكل واحد، بل تحت مسميات عدة، منها الرسالة، والشامل، والمجتهد، والمعتمد، والنجاح، والمثالي، وغيرها .. حسب التاجر الذي يبيعها.. منها ما هو مخصص لمدارس الأونروا ومختوما على عنوانها شعار الأونروا وكأنها مرخصة أو معتمدة من الجهة المختصة..؟ فنون عجيبة في التسويق من أجل الربح!! أما كراريس "الرسالة" ويبدو أنها تابعة لمؤسسة ربحية لحركة حماس فاخترعت جائزة تشجيعية لمن يشتري من كراريسها.. ومما يثير الذهول في ازدياد بيع تلك الكراريس في أسبوع ما قبل الامتحانات الفصلية التي تجري حاليا.. والغريب أن المتنافسين يسوقون بضاعتهم داخل المدارس بإذن من المدير وبعض المدرسين.. عدد من المدرسين يوصون تلاميذهم ويشجعونهم على شراء نوع من الكراريس وحفظ الأسئلة وأجوبتها..؟؟ إحدى المعلمات قامت بجمع ثمن الكراريس من الطالبات وقامت بشراء الكراريس بالجملة لطالباتها... سلوكيات سيئة من مدارسنا وكأن تلك الأسئلة صارت هي الغاية وليست وسيلة ويفضح بشكل كبير عملية التخريب والتجهيل في العملية التعليمية والتربوية للأسف الشديد، دون متابعة من الجهات العليا، وكأن الأمر متعمدا..!

لم نناقش هنا.. الفساد والعملية التجارية، وما يشكله من عبئ مالي وقلق وتوتر على الأسرة الفلسطينية جراء الامتحانات ونتائجها مرتين في السنة، بقدر ما نوضح الخطورة من تكريس هذه الظاهرة التي تفشت في المجتمع وتزداد سنة بعد أخرى لتصبح واقعا سيئا على المعلم والطالب في نفس الوقت، ومن ثم على باقي المجتمع.. إذا لا يعقل أن تصبح الامتحانات هي الغاية من العملية التربوية وليست وسيلة لتقويم العملية التعليمية قبل أن تكون موقفا تعليميا للطالب، وليس موقفا إرهابيا له ولأسرته... بعض الأسر التي لديها عددا كبيرا من أبنائها الطلبة، ومن المؤكد أنهم يكونوا في مستويات ومراحل مختلفة، وكل منهم يحتاج لمتابع مختص، كما تشتكي غالبية الأسر من ذلك.. فلا الأم قادرة، ولا الأب بإمكانهما تتبع أولادهما.. فيعيشون شهرا وربما أكثر من الإرباك والقلق والتوتر إلى حد فقدان السيطرة.. ظاهرة لن تجدها إلا في المجتمع الفلسطيني، وعلى الأخص المجتمع الغزْيّ، وهي ظاهرة حديثة لم تكن موجودة في السابق كما هي موجودة اليوم.. ظاهرة تحتاج من الأخصائيين الوقوف على دراستها وكشف الأسباب التي أدت إلى حدوثها ومن ثم وضع الحلول والتوصيات لمعالجتها والحد منها.. وبالطبع مقالتنا هنا ليست إلا إشارة للمشكلة وبعض من جوانبها موجهة للرأي العام وللجهات المسئولة وأصحاب الاختصاص من الجامعات لحثهم على دراسة الظاهرة علميا..

الامتحانات المدرسية وجدت أصلا لقياس الأهداف التعليمية، وليست لتصنيف الطلبة أو ترفيعهم، أو ترسيبهم.. ففي كثير من الدول لا توجد امتحانات في المرحة الابتدائية والأساسية.. لكنها تعوض ببطاقات شخصية لكل طالب وتقيس كل قدراته من ميول واتجاهات ومعرفة تغطي كافة الأهداف المعرفية والسلوكية والوجدانية متدرجة طيلة العام الدراسي يقوم بها المعلم كل حسب اختصاصه، ومصممة بطريقة علمية لا يستطيع المعلم التحيز فيها لأحد... "إن نظريات القياس والتقويم التربوي تؤكد أن الامتحانات التحريرية مهما كانت درجة دقتها فإنها لن تقيس أكثر من 60% من قدرات الطالب .." من هنا نعتقد أن برامج الامتحانات السائدة في مدارسنا وطريقة التحضير لها، وطريقة إجرائها لا تخدم العملية التعليمية، وكأننا أصبحنا نعلم أسئلة وأجوبة فقط ! وأدى ذلك أيضا لظاهرة الدروس الخصوصية والتي انتشرت بشكل كبير... كل ذلك بسبب الامتحانات السائدة، واعتمادها كوسيلة قياس وحيدة لا بديل غيرها.. أو مشاركتها لوسائل قياس أخرى بجانبها...

لا نلوم المعلم الذي وضعت له خطة سنوية مكتظة متضخمة لا جدوى منها سوى اختتام المنهاج الكبير.. مما دفعه لطلب المساعدة من أولياء الأمور لتكملة النقص الذي قد يحصل في الخطة... ماذا لو كان ولي الأمر أميا وغير قادر على فهم ذلك؟؟ ماذا لو كان ولي الأمر غير قادر على توفير متطلبات ذلك ماديا وثقافيا؟؟ معظم أولياء الأمور يشكون من المنهاج وبرامج المدرسة، كما اشتكى منها المعلم من قبل!! كثر هم المعلمون الذين سألوني عن المنهاج بصعوبته وضخامته، وأن السنة الدراسية غير كافية لإتمامه.. أجل! شكواهم في محلها.. لكنني أقول لهم ولأولياء الأمور: المنهاج ليس صعبا، ولا هو ضخما.. بل على العكس تماما لأننا نعيش في عصر انفجرت فيه المعرفة..! والمعرفة المقدمة عبر المنهاج غير كافية وغير ملائمة مع متطلبات الحياة التي نعيشها.. وهي ليست بالصعبة كما نتوهم؛ لأن الوسائل المتوفرة اليوم لم تكن في السابق وهي توفر التعلم دون جهد كبير.. لكن المشكلة الجوهرية التي نعيشها هي: عدم التركيز على (مهارات التعلم) المطلوبة خصوصا في المرحلة الأساسية.. وأهمها مهارة التعلم وتنظيمها؛ ورحنا نركز فقط على انتقاء الأسئلة والأجوبة عليها.. من هنا بدأ الخلل الكبير في عملية إكساب الطالب مهارات التعلم المطلوبة لصقل شخصيته بتعزيز ثقته بنفسه وقدرته على تقييم ذاته؛ فصار الخوف يلازمه من رهبة الامتحان والمدرسة من جهة، والأهالي والمجتمع من جهة ثانية.. هذا هو حال أبنائنا الذين نعلق عليهم آمالنا بمستقبل أفضل..!

هذا لا يعني أننا نطالب بإسقاط الامتحانات كوسيلة قياس تربوية وعلمية، بقدر ما يعتمد المعلم على وسائل قياس أخرى معروفة.. وأن تتحول هذه الامتحانات إلى مواقف تعليمية وليست مواقف إرهابية للطالب والمجتمع.. قبل أن نجري مثل هذه الامتحانات وبالغالب هي امتحانات ليس حسب المواصفات العلمية التي من المفترض أن تقيس مدى تحقق الأهداف التربوية.. ما يحيرني أن معظم الطلبة بعد تقديمهم للامتحانات لا يمكنهم أن يتذكروا شيء منها.. مما يؤكد أننا لم نعلم المهارات التربوية المطلوبة.. من هنا ننادي الجميع بتحمل المسئولية الكاملة لما يجري من تخريب لعقول أبنائنا وهدم لشخصياتهم التي يمكنها أن تتحول لشخصيات متطرفة لعدم قدرتها على التكيف مع الحياة ومتطلباتها.. علينا إعادة النظر في كل البرامج المدرسية المقدمة للطالب بحيث نركز على تربية الشخصية السليمة المتزنة المبدعة والخلاقة والتي تمتلك روح المبادرة والتفكير المنطقي والقدرة على حل المشكلات والبحث العلمي... وكلها مهارات غابت تماما من البرامج المدرسية ولا يمكن قياسها بالامتحانات التي تجرى حاليا.. فليقتنع المعلم والمدرسة وأولياء الأمور، أن المهارات السابقة إذا ما اكتسبها الطالب؛ فإنه سيصبح أكثر قدرة على التحصيل والاستيعاب، وسيصغر المنهاج مهما كان كبيرا.. وسيسهل على المعلم وولي الأمر على متابعة أبنائنا بكل يسر وكل أمان.. وسنخرج أجيالا قوية تعتمد على ذاتها لخلق مستقبل أفضل..!!

CONVERSATION

0 comments: