صراع المجتمعات بين الحداثة والانغلاق!/ يوحنا بيداويد

ملاحظة نشر هذا المقال في العدد 16 من مجلة نوهرا دمدنحا التي تصدرها ابرشية مار توما للكلدان في استراليا ونيوزلندا.

مرت البشرية خلال العقود الاخيرة، بأزمات  كبيرة ومتنوعة، من جراء العوامل العديدة، مثل تصادم الحضارات، والاحتكاك بين القيم الدينية والثقافية، والثورة الهائلة في وسائل الاعلام، وسقوط النظام الاشتراكي العالمي وانفراد  النظام الراسمالي في قيادة  اقتصاد العالم.  نتيجة لذلك انقسمت البشرية الى عدة فئات او تجمعات او كتل، منها قومية او ثقافية- دينية اواقتصادية. ضمن التقسيم الثقافي – الديني هناك  ثلاث كتل، كتلة مؤيدي (الحداثة) وكتلة اخرى معارضة لها ( كتلة التعصب والانغلاق) وبينهما كتلة ثالثة هي كتلة المعتدلين.

الحداثة او النظام المدني  هو نظام حديث العهد،  ظهر في بلدان الغربية لاسباب عدة، منها الدمار الذي حل باوربا وامريكا واليابان من بعد الحرب العالمية الاولى والثانية، الصراع الفكري والسياسي والاجتماعي داخل المجتمعات الاوربية منذ عقود طويلة، تأثر المجتمع  الغربي من الناحية الاجتماعية والثقافية والسياسية  بالانجازات العلمية،  لاسيما الثورة التي حصلت في وسائل الاعلام والاتصالات، الامر الذي ادى نفور البعض عن كل فكرة دينية او تفكير فلسفي اوتعليم او موروث قديم بسبب اعتقادهم  محدودية امكانيته في حل مشاكل الانسان العصرية.

 اما فكرة (الانغلاق) او التعصب الديني، كانت موجودة على مر العصور، لكنه لم يكن معروف وواضح بهذه الصيغة، ولا بهذه الشدة، لان الشعوب كانت تدين بدين ملوكها، كذلك بسبب الفصل  او الانعزال الذي كان اصلا موجود بين الدول عن طريق حدودها والصراعات القائمة بينها، مثل الدولة الرومانية الفارسية(1)، ظهر التعصب الديني بوضوح في الحرب العالمية الاولى عند العثمانيين ضد الاقوام المسيحية، وفي الحرب العالمية الثانية ظهرعند الالمان ضد اليهود.

 لكن في نهاية السبعينيات ظهرت فكرة التعصب بصورة اوضح، على اثر نجاح الثورة الدينية في ايران1979 م، التي رفعت لواء تصدير الثورات الدينية الى البلدان الشرق الاوسطية،في نفس العام قامت الاتحاد السوفياتي (السابق) بغزو افغانستان عام 1979 م بصورة مفاجئة. أسرعت الدول الغربية في حلف ناتو الى اقامة طوق من الحكومات الدينية حول كتلة النظام الاشتراكي للحد من توسعها، او انتشارها اكثر، هكذا بدأ الاستعداء لخلق ظروف مناسبة كي يأتي الخريف العربي الحالي بثوبه المزيف تحت تسمية الربيع العربي  بعد ثلاثة عقود.

 كما قلنا، اليوم المجتمع الانسان منقسم الى ثلاث كتل من حيث قبولها ورفضها مواكبة الحضارة الانسانية الحالية. وهنا نقدم تحليل عن كيان كل كتلة واهدافها ومبادئها.

 الكتلة الاولى – كتلة الحداثة او التجدد  :

ان الكتلة الملحدين او (الوثنية الحديثة)، هي كتلة الذين لا يؤمنون بتعاليم الدينية وقيمها القبلية، يعتمد اتباع هذه الكتلة كل على ما تنتجه الحضارة الانسانية الحالية، بصورة شبه مطلقة لحل الازمات الاخلاقية والسياسية والاجتماعيىة والبيئية بين الدول، وان القانون المدني كاف يستطيع ان ينظيم ويدير الحياة و يحل مشاكلها.  وحسب رؤيتها، ان الاديان تشجع على الانغلاق، واستمرار العيش في الحياة البدائية، وبعض من قيمها بعيدة عن المنطق  وروح العصر، كما ان الدين سبب كثير من الصراعات بين الشعوب والامم عكس ما كان متوقع ان يقوم به، لان من مهماته، تحقق العدالة  او حماية التجمعات الانسانية  الضعيفة من كثيرة العدد،  بينما عقل الانسان الذي انتج العلوم والتكنولوجيا الحديثة، اثبت للعالم جدارته  حينما اعتمد على طريق الحوار والتفاهم ، لهذا هو  مؤهل ان يقود مسيرة الحياة للسير في الطريق الصحيح."

 الكتلة الثانية- كتلة الانغلاق او التعصب:

 هي كتلة المتدينين المتطرفين،  تعمل بعكس الكتلة الملحدين، هي كتلة الملتزمين بجوهر التعليم الديني، ولا تؤمن بالقوانين المدنية، وتصر على ان القيم التى اتت بها الحضارة او الفلسفات الحديثة، هي المسبب الاول في الفلتان الخلقي الذي ظهر بين البشر في عضر الحديث، لهذا هذه العلوم عندهم هي منبع لقوى الشر، و مصدر سموم للمجتمع، لا تقوم الا  بمساعدة هذه الخلايا السرطانية  على التكاثر التي ستقضي على استقرار المجتمع ، لهذا نرى ان المنطويين تحت هذه الكتلة، هم مستعدون لمقاومة اي تغيير  تحدثه الحضارة  بالقوة والعنف، ويتحدى اتباع هذه الكتلة، كل جهة  ترغب المساس بقدسية تعاليم ديانتها ، او التي تقود الى  ازدرا ء  مقدساتها مثل  تقاليدها اومعتقداتها او رموزها الدينية.

 ان هذه الكتلة بلا شك ترغب بالانغلاق على ذاتها وعلى مجتمعاتها، لا تحب فكرة التطور على الرغم التناقض الموجود في واقعها اليومي، فهي لا تستطيع الاستغناء عن ادوات والانظمة التي انتجتها الحضارة والعلوم الانسانية الحالية من استخدامها الحياة اليومية. ووصل الامرعند البعض من مؤيديها  تشكيل تيارات دينية متعصبة التي تمارس الارهاب والتكفير ضد من يخالفها  في الراي او الفكر، ويحاول المنتمون اليها  السيطرة على بعض البلدان واقامة انظمة دينية بحتة مغلقة على ذاتها.

الكتلة الاخيرة هي كتلة المعتدلين او الوسطيين،

ان اتباع هذه الكتلة لا يتبنون اراء كلا الكتلتين، فهم ضد الكتلة الملحدة او الوثينة التي لا تعطي اي اعتبار للخبرات الروحية والانسانية التي تراكمت عبر عصور من الزمن، والتي ساعدت على ظهور القانون المدني نفسه، ولا اية قيمة لرسالة الديانات السماوية.  في نفس الوقت، لا  يتبنون موقف الكتلة الدينة المتعصبة  التي تريد تكفير الاخرين وتحكم عليهم بالموت لانهم يخالفونهم بالايمان.

 يرى اتباع هذه الكتلة، من جانب ليس من السهل تغير الواقع او التخلي عن القيم والمعتقدات الدينية التي هي مقدسة في فكر ومشاعرالشعوب حتى وان كانت بعضها خاطئة او بدائية او غير منطقية اليوم، ومن جانب اخر تنظر الى الامور بعين واقعية، وتؤمن بان عقل الانسان دائما كان  الربان الحقيقي لسفينة الحياة. فكل شيء اتى الى الوجود كان من منتوجه، حتى الاديان رغم قدسيتها، الا انها (عند البعض منهم) منتوج فكري لا غير (2). لهذا يرى اصحاب هذه الكتلة، بان الحل الوسطي هو الافضل، لان كل البشر ليسوا على نفس الدرجة من  المعرفة او الوعي اوالثقافة او الفكر، ولا يعيشون حضارة واحدة متجانسة ، هناك اختلاف كبير بينها في القيم الاجتماعية والثقافة والحياة السيتسية والطقوس والتراث.  ثم مهما جددت الانظمة  الحالية اوالقديمة عن صيغتها،  ستبقى ناقصة عن التي ستتأتي غدا، هكذا لن تصل الى مرحلة الكمال، لاننا نعيش في عالم طبيعي ناقص، هو في طور التكامل دوما.  فهم يبنون رائيهم على مراحل الانتاج الفكري للانسان منذ ظهوره بهيئته الحالية قبل نصف مليون سنة على الاقل (3)، كما ان مسيرة الحياة التي ترجع الى اكثر مليارات سنة(4) دوما تسير الى الامام الامر الذي نستنتج منه انها ليس مصدرها الصدفة العشوائية بل هناك  جهة لها الارادة اوالفكر الذي ظهر في تصميمها تقدم الحياة دوما، ونحن لا نستطيع ادارك هذه الحقيقة الا عن الطريق الوحي (5).

في الختام  لا نظن هناك خلاص او مخرج اخر امام الانسان او البشرية اليوم  الا ان يعمل الجميع كعائلة واحدة، وان يعي كل واحد تماما، ان الحياة مقدسة بل هي فوق كل المقدسات، ولا خلاص لاي انسان لوحده، فان حدث خرق في القارب الذي يحملنا جميعا ، قد يؤدي الى نهاية الجميع معا.  وان الحقيقة التي كانت  صامدة وصلدة في السابق، اليوم اصبحت قابلة للتطاوع بسهولة، حسب المعرفة الانسانية والظروف الزمنية(6). كما ان  التعاليم الدينية، والقيم الاخلاقية،والتراثية هي ثروة للانسان، لانها اتت من تجارب اجدادنا السابقين الذين عانوا وتشردوا وتقاتلوا من اجل قبولها او رفضها، فلا يمكن باي حال من الاحوال الاستغناء عنها بدون مبرر الان، لكن في نفس الوقت يجب ان لا تقف حاجز امام تقدم الحياة.

إذن عجلة الحياة متغيرة ومستمرة في التحرك والتطور، ليس بمقدور اي كائن حي، او نظام او مؤسسة، او اي حزب او قوة، ان يُوقف  مسيرتها ، لهذا  من الافضل ان يعي كل واحد من البشرية، اينما كان، واي كانت ديانته، لديه مسؤولية اخلاقية وانسانية وايمانية  لاخذ بمبدا التعاون من اجل ايقاف التطرف الموجود لدى كلا الكتلتين الملحدة( اللادينية) الذين يزدرون القيم الدينية والقواعد الاجتماعية المتوراثة و كتلة التكفيريين الدينية المتعصبة- المغلقة، التي ترفض فكرة  التطور لا في  فقط الامور الاجتماعية التي تحدث في الحياة اليومية، بل حتى فكرة التغير على مستوى البايلوجي (في الجينات  DNAالوراثية).
.....................
1-      عبر التاريخ كان الشعب يدين بدين الملك، مثال على ذلك ان الشاه اسماعيل الصفوي ادخل المذهب الشيعي الى بلاد فارس بالقوة.
2-      History of Westren Philosophy, Bertrand Russell,George Allen & Unwin Ltd.,Lendon 1961K p147-162
3-      المصدر: الانسان والكون والتطور بي العلم والدين ، الاب هنري بولاد اليسوعي، دار المشرق،ط 3، بيرت ، لبنان، 2004، ص110 - 113.
4-      نفس المصدر ، ص78.
5-      نفس المصدر، ص 7- 10، ص57، 281.
6-      المصدر: العالم بين العلم والدين، جاسم حسن العلوي، المركز الثقافي العربي، ط1 ،  دار البيضاء، المغرب، 2005، ص 94، 136.

CONVERSATION

0 comments: