اولا: في مصر:
ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، أنزل فيها من قطار الحاضر محاولا الاسترخاء والتجوال في شوارع وحدائق حياتي. اثناء تجوالي أحكي للقارئ حكاية من هنا او من هناك.. اربطها بحكاية اخرى او حكايات. وإن اقتضي الأمر العودة الى قطار الحاضر..
سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر الذي سيصبح يوما.. ذكريات.. العمر اللي فات.
دعونا الآن نكمل الحكاية..
في ذكرياتي المرة السابقة تحدثت عن احداث شهر يونيو/حزيران عام 1967، وأهم الأحداث كما نعرف كانت الهجوم الاسرائيلي المفاجئ في صباح يوم الاثنين الخامس من الشهر، وما احدثه ذلك الهجوم من تدمير جميع طائراتنا الحربية المتواجدة في المطارات في جميع انحاء الجمهورية في وقت واحد. وطبيعي ان يحدث ذلك لتواجد ضباط الطيران الحربي ليلة الهجوم (الاحد 4 يونيو) في حفل ساهر حتى الصباح دون ان نعرف سببا حقيقيا لمثل ذلك الحفل في فترة كانت فيها الأحداث تتلاحق بسرعة مؤكدة قيام الحرب بين مصر واسرائيل عاجلاً قبل آجلاً.. مع العلم ان رئيس الجمهورية رجل عسكري، ونائبه قائد القوات المسلحة المصرية رجل عسكري.. والعسكر يهيمنون على كل شيء في البلاد.. فكان من المفترض ان لا تكون نتيجة ذلك الهجوم الاسرائيلي تلك الخسائر الفادحة في العتاد الحربي الذي استولت عليه اسرائيل خلال ستة ايام الإلتحام العسكري وتخبط القيادة المصرية بين نظرية الانسحاب من سيناء كما حدث عام 1956 وانقاذ الجيش المصري، وبين الاستمرار في الهجوم والتقدم. وما حدث ان دل على شيء إنما يدل على عدم كفاءة حكام مصر العسكريين الذين لم تكن لديهم من العسكرية سوى الزي العسكري الذي يرتدونه والرتب المعلقة فوق اكتفاهم وان كانوا لا يستحقونها. فحدث ما حدث!!..
ذلك يذكرني ايضا بما يؤكد من حتمية تلك النكسة او الهزيمة او العار الذي لحق بمصر والقوات الحربية المصرية وقد دفع البكباشي عبد الحكيم عامر (لا يستحق في رأي رتبة المشير التي منحه لها ناصر عرفانا بالجميل الذي اسداه خال عامر اللواء حيدر باشا الذي خدع الملك وكذب عليه بنفيه وجود تحركات انقلابية في صفوف الجيش).
وذكرياتي هنا تعود بي الى عام 1966 وحصول شقيقي الثالث في ترتيب الأبناء، على ليسانس حقوق من كلية الحقوق جامعة القاهرة وحصوله على درجة جيد جدا وتم تعينه وكيلاً للنائب العام.. وجاء تعينه في أحد مراكز الوجه القبلي «الصعيد». رفض التعيين، لكنهم عينوه رئيساً لأحد الاقسام بوزارة المالية بالقاهرة. وكان من الطبيعي ان يقبل ذلك التعيين.
كان على شقيقي ان يقدم نفسه إلى إدارة التجنيد ليؤدي الخدمة العسكرية.. نعلم جميعاً أن خدمة الوطن شيء مقدس.. لكن ما هو دفين في الوجدان المصري ما كان يحدث لابناء المصريين عندما يؤخذون للخدمة العسكرية إبان الاحتلال.. فلم يكن عملهم خدمة الوطن والدفاع عنه، بل كان للسخرة ولخدمة الاحتلال الانجليزي والموالين له.
احتمعنا في ليلة ذهاب شقيقي لإدارة التجنيد وإتفقنا على ان اذهب إلى ادارة التجنيد لمعرفة ما سيتم معه. لذا اخذنا نقلب الأمور فيما بيننا عن ماذا نفعل؟ نريد فقط ان يجند في سلاح قاعدته في القاهرة او على مسافة قريبة من القاهرة.
تذكرت ان لنا أحد الأقرباء سمعنا انه يعمل في المخابرات وله اتصالات على جميع المستويات. أسرعت بعرض الفكرة عليهم.. فعارضوا معارضة شديدة. وكان رد شقيقي (اننا لا نريد ان نعرف امثال هؤلاء الناس لا من بعيد ولا من قريب).. وأرجو أن لا تشغل بالك بموضوع التجنيد لسبب مهم جداً انني الأن سأدخل التجنيد ليس كجندي، بل كضابط لحصولي على مؤهل جامعي.
جميل هذا الحديث، امضينا زوجتي والأولاد وأنا ما امضيناه من وقت مع العائلة، على أن أراه في إدارة التجنيد في صباح الغد.
لم أنم في تلك الليلة، وانا افكر في هذا القريب.. يا تُرى هل ما يقال عنه حقيقي من انه صاحب نفوذ ويعمل مع المخابرات؟.
انه حاصل فقط على شهادة متوسطة وهذا كل ما كنت اعرفه عنه. وبعد وفاة والدته وزواج ابيه لم يستطع لا إكمال دراسته ولا البقاء في منزل والده، ترك والده وبدأ يبحث عن عمل ومسكن له ولشقيقيه وعلى ما اتذكر شقيقته. انقطعت كل الاخبار خاصة بعد زواجه من ابنة خاله.. في النهاية، عقدت العزم على ان أذهب اليه فأنا اعرف مكتبه ولن أخبر احد بذلك.
في الصباح الباكر توجهت بالفعل الى مكتبه، فما ان رأني حتى أخذني بالاحضان والقبلات والعتاب لعدم رؤيتي او محاولة الاتصال به. بعد الاعتذار بمشاغل الحياة دخلت في الموضوع مباشرة فليس لدينا وقت.. فقلت له:
- اسمع انا جاي في خدمة.. شقيقي الأن في إدارة التجنيد وأريد منك ان تذهب معي اذا استطعت لتساعد في هذا الموضوع.
قهقه عاليا وهو يقول:
- جاي النهار ده والسيارتين في التصليح.
- نعم يا روح.. سيارات إيه وهباب إيه.. انت فاكر نفسك خلاص بقيت حاجة يعني.
- بس وطيّ حسك أنا عارفك لسانك متبري منك.
- ايه بقى حكاية السيارات دي ما طول عمرنا «بنتشعبط» في الترمايات والاتوبيسات!!
- لا الاوضاع إتغيرت..
- بلاش كلام كتير.. عندك استعداد يا اللا بيناورح اركبك الاتوبيس ودرجة اولى كمان.
قهقه مرة اخرى ووقف مستعداً للخروج معي..
لم يكن يرتدي زيا عسكريا.. بل كان يرتدي جاكيت اسبور وبنطلون.. وما ان مررنا بباب ادارة التجنيد حتى حيَّاه الجنود التحية العسكرية. توجه مباشرة الى مكتب مدير عام التجنيد (برتبة لواء).. مررنا على سكرتيره وكان ضابطا (لا اتذكر رتبته العسكرية لعدم تصديقي لما ارى).. فما كان من الضابط إلا ان وقف محيياً التحية العسكرية.وعندما سأله عن المدير قال له أنه في التفتيش وسوف يرسل له من يخبره بوجودكم افندم.. ردّ عليه:
- إتصل بيه وأنا راجع تاني.
خرجنا وقال لي:
- فيه قضية كده مش عجباني.. تعالى نروح نشوف الحكم فيها.. اذا كان براءة لك الحلاوة ح غديك غدوة معتبره..
لم اتكلم.. سرت معه كالمنوم.. لا استطيع أن اصدق لا عيني ولا أذني. سمعتهم ينادونه بأسم آخر فقلت لربما يكون اسمه الحركي. كل شيء اتخيله الأن وأنا أعيد ذكرياتي. توجهنا الى الجهة التي اخذني اليها.. نفس التحيات. لم يستأذن احداً بل ذهب الى حيث تحفظ الملفات وقام بفتح احد (الأدراج/ الجوارير) وأخرج منها ملفاً.. اطلع عليه.. ابتسم وقال لي:
- وشك حلو عليّ رايح اغديك غدوه معتبره.
عدنا الى مكتب مدير التجنيد وعرفنا انه بالداخل في مكتبه. دخلنا عليه، نهض وأخذ رجل المخابرات بالاحضان والقبلات والاشتياقات والسلامات. ثم مد يده مصافحا إياي ومرحباً..
جلسنا وقبل ان يفتح رجل المخابرات فمه ضغط سيادة مدير التجنيد على (زر) جاء جندي من خارج المكتب.. أمره بإحضار القهوة لنا.. ثم شرح له قريبي مانحن بصدده، كتب اسم شقيقي واعطاه للضابط سكرتيره في خلال دقيقة واحدة لا تزيد ولا تنقص عاد ومعه البيانات التي سلمها لسيادة المدير الذي قرأها وقال لنا:
-مبروك.. طلع غير لائق طبيا.. زمانه في البيت دلوقتي.
لم اتحدث طوال عودتنا الى مكتبه.. تركته يتكلم كثيراً متفاخراً مؤكداً أن لاشيء يعصى عليه.. بالمكتب قال لي:
- ايه يا بطل.. اناكنت ناوي أخدم.
- الحمد لله.
- تقصد إيه.
- ولا حاجه. الحمد لله انه خرج من التجنيد لأنه غير لائق طبيا.. إنما أنا عايز أعرفك اكتر.. سنين طويلة يمكن من بعدما ماتت المرحومة امك ما عرفش حاجه عنك.
- دي حكاية طويلة.. المهم انا صدقت ما لقيتك.. انا عايز احكيلك وافضفض معاك.. سيبك مين انا دلوقتي وشغل المخابرات والكلام ده. أنا في حيرة. بحب دكتوره استاذة في الجامعة.. وهي تبادلني نفس الشعور.. عايز اتجوزها.. ومش عارف اعمل ايه مع بنت خالي.
دار بنا الحديث بعد ذلك في دهاليز الحياة مع تلك الاستاذة والحب الذي بينهما وإبنة خاله التي لا تصلح له ولا لمركزه الاجتماعي، وإنه تعب في هذه الحياة ولا يجد الراحة.
إنتابتني رغبة المعرفة ما دمت في صحبة رجل مخابرات يبدو انه بالفعل من الواصلين.
كان من الطبيعي ان اوافقه على زواج الدكتورة الاستاذة الجامعية، لأن ابنة خاله لم تكن تصلح له كزوجة من قبل فما بالنا الآن!! ولذلك فضلت ان لا اخوض في معرفة شيء عنها.. لكن انا اجلس مع رجل مخابرات، ورايت بعيني رأسي مدى الاحترام الذي يحظى به. حقيقة ان الكثير من رجال المخابرات يأتون إلينا طلباً لمعلومات عن بعض الأشخاص ودائماً يدور حديث معهم ريثما يتم جمع ما يريدون الاطلاع عليه. ولا يخلو الامر من فنجان قهوة مع سيجارة ودردشة على الماشي. أما الأن ومع قريب ومن المخابرات ما الذي يمنع دردشة ولو سريعة بعيداً عن الاستاذة الجامعية التي تموت في دباديبه، وهو يموت في دباديبها. فقد استمعت له ما يقرب من الساعة دون ان افتح فمي مما جعله يسترسل ويتبحبح في حديثه معي..
فاجئته بالخروج عن صمتي قائلاً:
- كل اللي أستطيع قوله لك.. مبروك مقدما ويبدو انك وجدت حبيبة القلب.. وبنت خالك راضيها بعدما تسيبها.. تطلقها ما طلقهاش.. انت راجل واصل دلوقتي وتقدر تحقق احلامك.
- إنت شايف كده!
- انت شايف حاجه ثانيه!
- لا.. إنت ريحتني.. صدقني ريحتني..
- طيب علشان كده لو سمحت سيبك من الغدا المعتبر واطلب القهوة وعايز ادردش معاك شويه كدة في شغلك..
- لا يا حلو..
- (قاطعته).. حيلك.. حيلك.. انا بس عايز اعرف حاجه عن عمليات الحراسة اللي بتم مع الاقطاعيين والرأسماليين..
- عايز تعرف إيه يا غلباوي!!
- صحيح اللي بنسمعه لما يتم وضع ممتلكات أحد منهم تحت الحراسة يتم الاستيلاء على كل ما هو في القصر او الفيلا او البيت؟
- باختصار هؤلاء مصاصي دماء الشعب المصري وكل ممتلكاتهم دفع الشعب ثمنها من عرقه ودمه وشقاءه فلا بد وان تؤخذ منهم لتعود للشعب.
- لكن سمعنا عند وضع احد تحت الحراسة يتم اخذ الاموال السائلة الموجودة والمجوهرات وما شابه ذلك.
- طيب ما أنت عارف.
- لأ.. لأ.. اللي سمعناه ان الكبير فيكم ياخد لنفسه أغلى حاجه.. والبقية تتوزع على الحبايب.. مش على الشعب!!.
صمت فترة.. ثم قال لي:
الناس اللي سمعت عنهم ما هم من الشعب.. مش هم اللي عرضوا نفسهم لو فشلت الثورة كانوا اتقدموا للمحاكمه وغالبا ما كان يحكم عليهم بالإعدام؟!
- آه فهمت دلوقتي.. معاك حق.. تحيا الثورة وعاش جمال عبد الناصر.. وسك على القهوة أحسن أنا إتأخرت..
وقفت.. ووقف هو.. مددت يدي مصافحا.. شد على يدي وهو يقول:
- أتمنى أشوفك تاني..
- بإذن الله.. بس انا شفت إنك مشغول بالفعل..
-ولا يهمك أفضي نفسك مخصوص علشانك..
مع الأسف لم أره بعد ذلك.. ولم اسمع شيئاً عنه.. ولا أعرف بعد النكسة وإغتيال عبد الحكيم عامر هل قريبي هذا وأمثاله مازالوا في أماكنهم.. أم تم الغدر بهم كما حدث مع الشعب المصري نفسه؟؟!! ألم يقل قريبي عليهم (ما هم من الشعب!!..)
وإلى لقاء مع ذكريات.. العمر اللي فات.
0 comments:
إرسال تعليق