في ظلال الذكرى الثالثة والأربعين لهزيمة يونيو / حزيران عام 1967، التي خسر فيها العرب مساحاتٍ كبيرة من أرضهم العربية، بعد أن منيت جيوشهم بهزيمةٍ نكراء أمام الجيش الإسرائيلي خلال ستة أيامٍ من المعارك، مما جعل بعض العواصم العربية مكشوفة أمام الجيش الإسرائيلي، بعد أن نجحت في تدمير القدرات العسكرية خاصةً الجوية للدول العربية، إلا أن إسرائيل رغم انتصارها قد خسرت حينها جزءاً كبيراً من علاقاتها الدولية، بسبب اعتداءها المفاجئ على الدول العربية، واحتلالها لأراضٍ عربية جديدة، ورفضها الانسحاب منها، والعودة إلى خطوط الهدنة لعام 1949، الأمر الذي دفع بالكثير من الدول، وخاصةً الأفريقية منها، ودول أوروبا الشرقية إلى قطع علاقاتها بإسرائيل، وهي التي بادرت إلى الاعتراف بالدولة العبرية بعد تأسيسها عام 1948، مما تسبب في تدهورٍ كبير وتراجعٍ حاد في علاقات إسرائيل الدولية، ولم تتمكن إسرائيل من الخروج من عزلتها الدولية إلا بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام بينها وبين مصر، حيث بدأت إسرائيل في استعادة علاقاتها الدولية، إذ فقدت العديد من الدول التي بادرت إلى قطع علاقاتها بإسرائيل مبررات القطيعة، بعد قيام مصر بالاعتراف بدولة إسرائيل، وإنشاء علاقات دبلوماسية وتجارية معها، مما ساعد الدبلوماسية الإسرائيلية على توسيع دائرة علاقاتها الدولية، وتحسين صورتها لدى المجتمع الدولي، بعد أن تضررت كثيراً بسبب اعتداءاتها على الدول العربية.
ولعل الذكرى الثالثة والأربعين للنكسة تحمل معها مجدداً أكبر نكسة في علاقات إسرائيل الدولية، إذ بدأت تخسر تحالفاتها الدولية، وتراجعت علاقاتها كثيراً مع حلفاءها الغربيين، وأخذت صورتها التي دأبت على وصفها دوماً بأنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط تتشوه وتظهر على حقيقتها الدموية البشعة، وأصبح العالم يدرك أن إسرائيل دولة معتدية، وأنها تمارس البطش والظلم والقتل المتعمد ضد المدنيين العزل، وبدأت تظهر أصواتٌ في الولايات المتحدة الأمريكية تقول بأن إسرائيل قد أصبحت عبئاً على الولايات المتحدة، وأنها تتسبب في حرجٍ كبير للإدارة الأمريكية، وتعرض مصالحها مع الدول العربية والإسلامية للخطر، وبدأت المؤسسات الحقوقية الدولية في ملاحقة قادة إسرائيل، والمطالبة بمحاكمتهم، وأخذت وسائل الإعلام، والمحطات الفضائية التي لا تعرف الحدود في كشف الصورة الحقيقية للدولة العبرية، وفي فضح ممارساتها العنصرية، وتماديها في اختراق القانون الدولي، ومخالفتها للأعراف والمواثيق الدولية.
فقد شهد مطلع العام 2010 تدهوراً كبيراً في علاقات إسرائيل الدولية، إثر قيام جهاز مخابراتها الخارجي "الموساد"، بتنفيذ عملية اغتيال الفلسطيني محمود المبحوح في دبي، مستخدماً جوازات سفرٍ مزورة وحقيقية لعديدٍ من الدول الأوروبية وأستراليا، فأدخل الحكومة الإسرائيلية في أزمةٍ دبلوماسية مع العديد من الحكومات الأوروبية، التي أدانت استخدام إسرائيل لجوازات سفرها في جريمة الاغتيال، واستدعت العديد من الحكومات الأوروبية وأستراليا السفراء الإسرائيليين المعتمدين في عواصمها، وأبلغتهم استنكارها وإدانتها للجريمة، ودانت استخدامها لجوازات سفرها، وقامت بإجراء سلسلة من التحقيقات الداخلية، في حين قامت بريطانيا وأستراليا بطرد بعض الدبلوماسيين العاملين في السفارات الإسرائيلية، وكادت هذه الأزمة أن تعصف بعلاقات إسرائيل الدولية، بعد أن نجحت شرطة دبي في متابعة كشف المتورطين الإسرائيليين في جريمة الاغتيال بالصوت والصورة الدامغة.
ومن قبل جريمة الاغتيال ومن بعدها، أمعنت الحكومة الإسرائيلية في الاعتداء على حياة المواطنين المقدسيين وعلى ممتلكاتهم، وأقدمت على الاعتداء على حرمة المسجد الأقصى المبارك، وبالغت في عمليات المصادرة والهدم، وبناء المزيد من المستوطنات على الأراضي العربية الفلسطينية في الشطر الشرقي من مدينة القدس المحتلة، وتسببت سياساتها الاستيطانية في تدهور علاقاتها مع الإدارة الأمريكية، ومع الرئيس الأمريكي باراك أوباما، بعد الحرج الذي تعرضت له إدارته إثر إعلان الحكومة الإسرائيلية عن نيتها بناء أكثر من مائتي وحدة استيطانية جديدة، وذلك خلال زيارة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تل أبيب، الأمر الذي عدته الإدارة الأمريكية إساءة مباشرة لها ولجهودها الدولية المتعلقة بعملية السلام في الشرق الأوسط، مما دفع الإدارة الأمريكية إلى مخاطبة الحكومة الإسرائيلية بلغةٍ خشنة، معتمدةً الرسائل والخطاب الإعلامي المباشر في توجيه اللوم والإدانة إلى الحكومة الإسرائيلية.
وشكلت الطريقة التي تعاملت بها الحكومة الإسرائيلية مع سفن قافلة الحرية المتوجهة إلى غزة الأزمة الأكبر في علاقات إسرائيل الخارجية، إذ أفقدتها سياستها الدموية التي تسببت في مقتل تسعة متضامنين أتراك، وإصابة أكثر من ثلاثين آخرين، علاقتها بتركيا، وهي الدولة الصديقة الوحيدة لإسرائيل في المنطقة، بعد أن خسرت علاقاتها مع إيران إثر الثورة الإسلامية الإيرانية، مما عرض مصالحها الإستراتيجية مع تركيا إلى الخطر، بعد أن قامت الحكومة التركية بالإعلان عن تخفيض مستوى علاقاتها مع إسرائيل، وعزمها على إجراء تحقيق دولي في الجريمة الإسرائيلية، ومحاكمة المسؤولين الإسرائيليين، وعزمها وقف كل المناورات العسكرية التي كانت منظمة مع الجانب الإسرائيلي، ووقف كل أشكال التعاون العسكري والأمني بين البلدين.
ولم تساهم الطريقة التي اعتمدتها الحكومة الإسرائيلية في مواجهة المتضامنين الدوليين، في تدهور علاقاتها مع تركيا فحسب، بل أدت إلى تدهور علاقاتها مع العديد من الدول الغربية، التي شارك مواطنون منها في قافلة الحرية، وتعرضوا للضرب والإهانة والاعتقال والترحيل على أيدي جنود البحرية الإسرائيليين، فقد تشوهت كثيراً صورة إسرائيل أمام الرأي العام الدولي، وأساءت كثيراً إلى نفسها عندما تعاملت بوحشية ودموية مع المتضامنين الدوليين العزل، الذين كانوا يقومون بمهمةٍ إنسانية تنظمها اتفاقيات جنيف الدولية، وكانوا يحملون إعانات طبية وغذائية وأخرى متعلقة بمواد البناء لمساعدة أهل غزة المحاصرين، في محاولةٍِ لرفع الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من أربعة سنوات، فكان أن تحركت العواصم الغربية والدولية، في مظاهراتٍ صاخبة، واعتصاماتٍ حاشدة أمام السفارات الإسرائيلية في مختلف دول العالم، مستنكرين ما قامت به الحكومة الإسرائيلية، وداعين المجتمع الدولي إلى ممارسة الضغط على الحكومة الإسرائيلية لدفعها لرفع حصارها عن قطاع غزة، وكانت حكوماتٌ غربية ودولية قد استدعت سفراء إسرائيل، ووجهت إليهم استنكارها الشديد لما قامت به حكومتهم من اعتداء على المتضامنين الدوليين، ودعت الحكومة الإسرائيلية إلى رفع حصارها على قطاع غزة، معتبرةً الحصار أنه غير قانوني.
وزاد في أزمة علاقات إسرائيل الدولية، تولي أفيغودور ليبرمان زعيم حزب إسرائيل بيتنا اليميني المتطرف وزارة الخارجية الإسرائيلية، ضمن حكومة بنيامين نتنياهو الأشد تطرفاً، وهو الغر في السياسية، الفج في المعاملة، الخشن في المخاطبة، الجاهل في الأصول الدبلوماسية، الفاقد للأهلية والكفاءة، الخبير في استفزاز الحكومات، وتوريط بلاده في الأزمات الداخلية للدول، فنجح في تأزيم علاقة بلاده مع حكومة موطنه الأصلي روسيا، واستفز الحكومات الغربية كلها، وعاملها بفوقيةٍ تتناسب مع ساميته المدعاة، وخاطبها بعباراتٍ تفتقر إلى أبسط مبادئ الدبلوماسية اللبقة، واستنفر حكومة كوريا الشمالية، ووجه لها اتهاماتٍ كثيرة، ووصفها بالخروج على القانون الدولي، وأنها دولة مارقة تدعم الإرهاب، وكان قد وجه انتقاداتٍ شديدة إلى الإدارة الأمريكية، وحذرها من مغبة تدخلها في شؤون إسرائيل الداخلية الاستيطانية وتلك المتعلقة بوحدة مدينة القدس، وهجومه المتكرر على مصر، وتهديده لها، وهي الدولة التي تربطها مع بلاده اتفاقية كامب ديفيد للسلام، مما منع الحكومة المصرية من استقباله أو توجيه دعوةٍ له لزيارة مصر.
في ظل الأزمة الدبلوماسية التي تتخبط بها الحكومة الإسرائيلية، وفي ظل أجواء القطيعة التي تتعرض لها نتيجةً لممارساتها القمعية والوحشية، والعزلة التي تسببت بها سياستها الرعناء، وفي ظل التضامن الدولي الكبير مع القضية الفلسطينية، الذي فضح حقيقة الدولة العبرية، فإنه يصعب علينا تصور قيام بعض الحكومات العربية بالعمل على إخراج إسرائيل من أزمتها، وتفريج كربتها، ومساعدتها في تجاوز المحنة التي تعيشها، كأن تدعو للمباشرة في مفاوضاتٍ مباشرة أو غير مباشرة مع الحكومة الإسرائيلية، أو أن تحمل أطرافاً فلسطينية مسؤولية الحصار المفروض على قطاع غزة، والمسؤولية عن النتائج التي ترتبت عليه، لتخلص إسرائيل من المأزق الذي تعاني منه، ولتبرئه من المسؤولية الكاملة عن جريمة حصار قطاع غزة، ولتعيد الدفء إلى علاقات إسرائيل الدولية، بعد البرود والجمود الذي أصابها، بل المطلوب من الدول العربية أن تعمق من الأزمة الإسرائيلية، وأن تزيد في حجم الشرخ في علاقاتها الدولية، وأن تقوم مؤسساتها الدبلوماسية في فضح الجرائم الإسرائيلية، وبيان حجم اعتداءاتها على الحقوق العربية والفلسطينية، فلا نكون نحن من يمد لها يد المساعدة، أو يلقي لها طود النجاة.
0 comments:
إرسال تعليق