رغم أن قافلة الحرية لم تصل سفنها إلى شواطئ قطاع غزة المحاصر، ولم تتمكن من الرسو على شواطئه الرملية الممتدة، التي طال انتظار سكانه عليها، وقد تهيأوا جميعاً لاستقبال قافلة الحرية المتعددة الجنسيات، وخفت مراكب الصيادين الصغيرة البسيطة، لتستقبل الوافدين من وراء البحار، ولكنهم لم يستطيعوا التوغل عميقاً في عرض البحر، إذ أن الزوارق الحربية الإسرائيلية تجوب عرض المياه أمام شواطئ قطاع غزة، وتعتقل كل فلسطيني يتجرأ على الإبحار بعيداً عن الشاطئ، سواء أكان صياداً يسعى لجلب الرزق له ولعياله، أو محباً للبحر راغباً في الإبحار بعيداً في مياهه، كما خرج لاستقبال القادمين من أطراف الأرض الأربعة، مسؤولون في الحكومة الفلسطينية، وزراء ومسؤولون كبار، وكان رئيس الحكومة قد تهيأ للخروج لاستقبال الوافدين، وآلافٌ آخرين من سكان القطاع، الذين غص بهم الشاطئ، وهم يرنون بعيونهم إلى مياه البحر الزرقاء، علهم يرون أعلام السفن المرفرفة، أو رايات القادمين الخفاقة، ولكن أهل قطاع غزة، الذين خبروا العدو الإسرائيلي لسنواتٍ طويلة، كانوا على يقينٍ من أن إسرائيل ستغدر بهم جميعاً، وستحول دون وصول البواخر إلى قطاع غزة، وستبذل قصارى جهودها لمنعها من كسر الحصار الذي فرضته على سكان قطاع غزة، ولن تسمح للمتضامنين الدوليين أن يكسروا الحصار الذي عجزت عن اختراقه دولٌ وحكومات، ووقفت عاجزة أمام العناد الإسرائيلي الظالم، ولم تتمكن من إدخال كسرة خبزٍ واحدة، ولا زجاجة دواء تكفي لإنقاذ حياة مريضٍ أو مصاب، وسكتت عن مواجهة إسرائيل التي أغرقت قطاع غزة في ظلامٍ دامس، وحرمته من أبسط ما يحتاج إليه الإنسان، من طعامٍ ودواء ومسكن، بعد أن دكته بصواريخها وقذائف دباباتها، في حربٍ ضروس دمرت القطاع، وقتلت المئات من أبناءه، على مرأى ومسمعٍ من العالم الحر.
لم ترسُ السفن الدولية الست على شواطئ قطاع غزة، وهي التي كان على ظهرها قرابة ثماني مائة مناضلٍ دولي، من أربعين دولةٍ عربية وإسلامية وأوروبية، وجمعت نواباً وكتاباً وفنيين، وعلماء ورجال دين، وإعلاميين ومناضلين ثوريين كبار، ونساءاً ورجالاً، ومرضى وأصحاء، ولكنها استطاعت أن ترسوا في كل موانئ العالم السياسية، وفرضت حدثها على كل محطات التلفزة، ومختلف وسائل الإعلام العربية والدولية، وتمكنت من توصيل رسالتها إلى كل العواصم العالمية، وطرقت بأيدٍ مضرجة بالدماء كل عواصم الكون، فكانت طرقاتٌ مدوية، وصيحاتٌ مجلجلة، ونداءات ترددت في الجوزاء قبل أن تخترق آذان الصم، ممن أصموا آذانهم عن كل النداءات الإنسانية، ووقفوا مع المعتدين الضالمين ضد المحاصرين المظلومين، فكان لسفنهم هدير، ولصوتهم ضجيج، ولتضحيتهم أثر كبير.
سفن الحرية التي أبحرت من أوروبا لنجدة أهل فلسطين العرب، حققت ما عجزت الحكومات العربية كلها عن تحقيقه، وفضحت ما عملت بعض الحكومات على تبريره، إذ تمكنت من فضح إسرائيل، وكشف زيفها، وإظهار حقيقتها، وبيان مدى ظلمها، وإبراز حجم اعتداءاتها على الفلسطينيين، ووضعت الحكومة الإسرائيلية في موقفٍ محرج، يصعب عليها التخلص منه، إذ قامت عشرات الدول باستعداء السفراء الإسرائيليين المعتمدين في عواصمها، وأبلغتهم باستنكارها لما قامت به حكومتهم، من إعتداءٍ سافر على على سفنٍ مدنية، تحمل مساعداتٍ إنسانية، وترفع أعلاماً دولية، كما استنكرت دولٌ عديدة قيام إسرائيل باستخدام القوة المفرطة، ضد متضامنين مدنيين، وهي ذات القوة التي اعتادت أن تستخدمها ضد الفلسطينيين، ولكنها كانت تخدع المجتمع الدولي مبررةً استخدامها للقوة المفرطة بأن جنودها تعرضوا للخطر، مما دفعهم لاستخدام القوة ضد الفلسطينيين، ولكن العالم كله اليوم قد رأى بأم العين أن إسرائيل تستخدم القوة المفرطة دون سبب، فهي متعطشة إلى القتل والبطش، وتتمادى في الظلم والاعتداء، وتكذب عندما تدعي أن حياة جنودها كانت في خطر، بل هي التي تبادر بالقتل والاعتداء.
اليوم وقد فضحت إسرائيل وتعرت أمام المجتمع الدولي، فإن على حكومات الدول العربية أن تستغل الجريمة الإسرائيلية التي شهد عليها الكون كله، في رفع الحصار عن قطاع غزة، وإمداد سكانه بما يحتاجون إليه من غذاءٍ ودواء ووقودٍ وإسمنت ومواد بناء، وألا يستجيبوا للإراداة الإسرائيلية التي قضت بفرض الحصار على سكان قطاع غزة، وأن يكون لدولنا العربية قرارها السيادي الحر، فنحن إن قبلنا بالحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، فلا نعتقد أن عربياً حراً، أو مناضلاً ثورياً دولياً، يقبل بأن تفرض الحكومات العربية حصاراً بدورها على قطاع غزة، فمن الذي يمنع مصر من فتح حدودها مع قطاع غزة، ومن الذي يجبرها على إقفال معبر رفح الحدودي بينها وبين قطاع غزة، وهي تعلم بأن هذا المعبر هو شريان الحياة بالنسبة إلى سكان القطاع، وهو المعبر الوحيد لسكان قطاع غزة إلى العالم الخارجي، أليست مصر دولة حرة سيدة مستقلة وذات سيادة، أليست قراراتها نابعة من إرادتها ومستندة إلى قيمها ومصالحها، فهل تقبل مصر أن تملي إسرائيل عليها المواقف، وأن تصادر سيادتها، وأن تستجيب لإرادتها بتجويع سكان قطاع غزة، وفرض الموت البطيئ على أبناءه، فالفلسطينيون في قطاع غزة يتطلعون إلى التعامل التجاري مع مصر دون غيرها، فهم يرغبون في أن يشتروا ما يحتاجون إليه من مصر، وأن يستفيد المصريون، تجاراً وعمالاً وأصحاب مهنٍ وخدمات، من الحركة الشرائيىة الفلسطينية، ومن حاجة الأسواق في قطاع غزة إلى كمياتٍ كبيرة من المواد الأولية والكماليات، بدلاً من أن يستفيد منها التجار الإسرائيليون، الذين يتحينون الفرص لفتح المعابر، ليتمكنوا من تصريف منتجاتهم.
ألا تتحمل الحكومة المصرية مسؤولية توجه المتضامنين الدوليين إلى البحر، وركوبهم الخطر، ومحاولة كسرهم الحصار المفروض على قطاع غزة من الجانب الإسرائيلي، وقد كان أسهل عليهم بكثير اختراق الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة من الجانب المصري، إذ أن مصر هي الدولة العربية الكبرى، وهي الجار العربي الأقرب إلى قطاع غزة، ولعله كان من المنطقي أن يتوجه المتضامنون الدوليون بقوافلهم إلى قطاع غزة عبر مصر، فلو أن مصر سهلت لهم سلوك هذا الطريق، لتمكنوا منذ سنواتٍ من رفع الحصار الإسرائيلي المضروب على قطاع غزة، ولعل الفرصة اليوم كبيرة أمام الحكومة المصرية، لتعود إلى أصالة مواقفها، وعراقة تاريخها، وأن ترفع من جانبها الحصار عن قطاع غزة، وأن تمكن المتضامنين العرب والدوليين من تقديم العون والغوث إلى قطاع غزة، فقد أبدت كل الدول العربية، على المستويين الرسمي والشعبي، استعدادها ورغبتها في تسيير قوافل إنسانية جديدة إلى قطاع غزة، فعلى مصر أن تنتهز هذه الجريمة الإسرائيلية النكراء بحق المتضامنيين الدوليين، وبحق الإنسانية عامةً، وأن تعلن للعالم بأسره أن حدودها مع قطاع غزة باتت مفتوحة بصورةٍ دائمة، وهي خاضعة للقوانين المصرية، وللسيادة المصرية، ولكنها لن تعمل على حرمان سكان قطاع غزة، ولن تشارك في جريمة تجويعه وقتله.
سفن الحرية وقوافل النجاة لم ترسُ على شواطئ قطاع غزة، ولم يتمكن أهل القطاع من مصافحة ومعانقة القادمين من وراء البحار، ولكنها حملت إلى أهل القطاع البلسم الشافي من كل الجراح، والعلاج المخلص من كل جوانب المعاناة، ففضحت إسرائيل، ووضعتها في أصعب المواقف، ودفعت أصدقاءها إلى التخلي عنها، وحلفاءها إلى استنكار جريمتها، والرأي العام الدولي إلى التوحد ضدها، وقد دب الخلاف بين قادتها، وعم القلق مؤسساتها، فحارت عقولهم في كيفية الخروج من هذه الأزمة، وفي الوسائل الممكنة لتجاوز المحنة، واستعادة علاقاتها، وضمان عدم تخلي حلفاءها عنها، ولكن المتضامنين الدوليين أقسموا ألا تضيع دماء رفاقهم هدراً، وألا يتخلوا عن الرسالة التي خطوا حروفها معاً، إذ سيعودون من جديد، ولكن بعددٍ أكبر، وشخصياتٍ دولية أكثر، وسفن عالمية أخرى، تحمل أعلاماً دولية، سترفرف فوق مياه البحر المتوسط، في تحدٍ كبير للظلم وسدنة الاحتلال، فها هم يتهيأون من جديد، يعدون العدة لأسطولٍ بحريٍ آخر، غير خائقين من البندقية الإسرائيلية، ولا من الحوامات العسكرية التي وزعت الموت على جموعهم، وسينتصرون من جديد لأبناء غزة الفقراء المحاصرين، إذ من أجل عدالة قضيتهم بدأوا مسيرتهم، ومن أجلهم سيواصلون نضالهم، وسينظمون المزيد من قوافل الحرية حتى ينكسر القيد، وتزول الأسلاك، وتنهار السدود، وتسقط الأسوار، وتسطع شمس الحرية على فلسطين وأهلها.
0 comments:
إرسال تعليق