(إن المسوغات الأميركية ـ الإسرائيلية لفرض الحصار على غزة لأن في القطاع "كيانا معاديا في حالة حرب" مع دولة الاحتلال الإسرائيلي هو منطق يمكن أن ينسحب على معظم الدول العربية)
اليوم يكون قد مر عام وبضعة أيام على الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي باراك أوباما في القاهرة الذي استهله بالتحية الإسلامية المعروفة: "السلام عليكم"، وباللغة العربية، في رمزية أراد منها أن تكون رسالة أميركية مفادها أن صفحة جديدة في العلاقات بين بلاده وبين العرب والمسلمين قد انفتحت، أو كان يريدها أن تنفتح، مما أشاع في الأوساط العربية الرسمية بخاصة تفاؤلا بحدوث "تغيير" مرتقب كرر أوباما الوعد به في السياسة الخارجية الأميركية التقليدية في الوطن العربي ومحيطه الإسلامي.
غير أن موقف إدارته من القرصنة العسكرية الإسرائيلية في المياه الدولية للبحر الأبيض المتوسط ضد سفن مدنية تقل مدنيين يقومون بمهمة إنسانية لكسر الحصار غير الإنساني المفروض على قطاع غزة قد حول أية آمال عربية "رسمية" في وعده ب"السلام" الذي استهل به خطابه ذاك إلى مجرد سراب خادع، وهي على كل حال آمال لم تلامس للحظة نبض الشارع العربي الذي لم يقتنع بأن الدولة الأميركية التي تحتل العراق وتفرض عقوبات على غيره من الأقطار الشقيقة يمكنها أن تكون مؤهلة لإحلال سلام عادل ينهي احتلال دولة هي الحليف الإقليمي الأول لأميركا، مما أغرق أي مصداقية متبقية لأوباما في بحر غزة.
فقد أكد هذا الموقف أن أوباما لا يختلف عن أسلافه في إصراره على إزدواجية المعايير والانحياز الأعمى إلى الاحتلال ودولته لكي تظل دولة فوق القانون تعوم فوق المياه الدولية والإقليمية للمنطقة وتحوم في أجوائها وتعربد في برها دون رادع بفضل دعم القوة العظمى الأميركية لها فقط، بحيث يكاد يكون من المستحيل على الرأي العام العربي منح واشنطن حتى ميزة الشك في أن الولايات المتحدة ليست شريكا كاملا لدولة الاحتلال الإسرائيلي في كل ما تفعله، مما يعطي صدقية في المقابل لما قاله الرئيس الليبي معمر القذافي لأوباما في برقيته له الاثنين قبل الماضي من أن "وزر هذه الجريمة البشعة لا يتحملها الإسرائيليون بل تتحملها أميركا ودافعو الضرائب فيها".
لذلك لم يجد دوري غولد، سفير دولة الاحتلال الإسرائيلي الأسبق لدى الأمم المتحدة والمستشار السياسي لرئيس وزرائها الحالي بنيامين نتنياهو والأسبق آرييل شارون أي حرج في أن يسوغ جريمة أسطول الحرية لغزة بقوله: "إن ما فعلناه هو ما تفعله الولايات المتحدة"، مستشهدا بالحصار الأميركي المتواصل على كوبا وبالتصنيف الأميركي لحركة المقاومة الفلسطينية "حماس" كمنظمة "إرهابية".
ومثل غولد فعلت وزارة خارجية دولة الاحتلال التي وزعت بيانا آخر الشهر الماضي اعتبرت فيه فرض الحصار البحري أمرا "مشروعا" وإجراء واردا في كتيبات سلاح البحرية الأميركي مثل "دليل القائد الأميركي حول قانون العمليت البحرية" (US Commander's Handbook ) الذي يسمح باعتراض أي مركب معاد "منذ إقلاع المركب من مينائه"، وذلك في معرض تسويغ الوزارة للمجزرة من الناحية القانونية، استنادا إلى أن دولة الاحتلال قد أعلنت قطاع غزة "كيانا معاديا" وأنها أعلنت أنها في "صراع مسلح" معه، وأنها نتيجة لذلك أعلنت ايضا فرض الحصار عليه.
ومع أن المجال لا يتسع هنا لدحض هذه "الادعاءات القانونية" فإنه يمكن الاكتفاء باقتباس من البروفسور في كلية هاستينغز للحقوق بجامعة كاليفورنيا جورج بشارات: "لا يمكن لدولة أن تكون في صراع مسلح مع حكومة في منطقة تكون هذه الدولة قائمة بالاحتلال فيها".
إن استشهاد دولة الاحتلال الإسرائيلي بالسوابق والتعليمات العسكرية الأميركية لتسويغ قرصنتها يسلط الأضواء على سبب آخر يفسر الموقف الأميركي المعلن من هذه القرصنة تحاول واشنطن أن تخفيه، وهو أن واشنطن التي تستنكف حتى الآن عن إدانة القرصنة الإسرائيلية لا تستطيع إدانة انتهاك للقانون الدولي والإنساني ترتكبه دولة أخرى وهي نفسها متورطة حاليا وتاريخيا في انتهاكات مماثلة.
ومما لا شك فيه أن هذا الموقف الأميركي يشجع دولة الاحتلال على تكرار قرصنتها وانتهاكاتها القانونية حد أن تتجرأ حتى على حقوق المواطنين الأميركيين المدنية داخل الولايات المتحدة نفسها. فعلى سبيل المثال، كتب "مركز إسرائيل للقانون" (Israel Law Center) للمدعي العام الأميركي في ولاية كاليفورنيا يتهم "حركة التضامن الدولية" مع الشعب الفلسطيني (ISM)، التي كانت المواطنة الأميركية التي داستها جرافة إسرائيلية حتى الموت في غزة راشيل كوري إحدى ناشطاتها، بانها "تتآمر" لانتهاك القانون الأميركي في الولاية وطالب بمقاضاتها لأنها تجمع الأموال لشراء سفينتين للمساعدة في كسر الحصار على قطاع غزة، مع أن "مركز كارتر" الذي يرأسه الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر يساعد في هذا الجهد.
وسوف يظل الرأي العام العربي يتساءل عن السر الذي يجعل الحكومات الأميركية المتعاقبة تحابي دولة الاحتلال الإسرائيلي حتى على حساب مواطنيها أنفسهم، فقد أثبتت حالات من التاريخ القريب منذ الإنذار الذي وجهه الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور لقوات الاحتلال الإسرائيلي بالانسحاب من شبه جزيرة سيناء المصرية أواسط الخمسينات من القرن الماضي أن قوة جماعات الضغط اليهودية والصهيونية الأميركية لها حدود في صنع القرار الأميركي، وبالتالي فإن هذا السبب لم يعد مقنعا لوحده لتفسير الانحياز الأميركي ضد العرب، ولا بد أن هناك أسبابا أميركية خالصة لاستمرار واشنطن في الاعتماد على دولة الاحتلال الإسرائيلي كقاعدة أميركية متقدمة لحماية الأطماع الامبريالية للولايات المتحدة في الوطن العربي.
وفي هذا السياق لا بد من استذكار حدث هام وقع في الثامن من مثل هذا الشهر عام 1967 في اليوم الرابع للعدوان الإسرائيلي على الدول العربية المجاورة لما لهذا من دلالات تاريخية وسياسية تفسر الموقف الأميركي الحالي من القرصنة الإسرائيلية الجديدة، فالإدارة الأميركية التي لا تهتم بمواطنيها أنفسهم إذا كان الأمر يتعلق بدولة الاحتلال الإسرائيلي لا يمكنها أن تهتم بضحاياهذه الدولة من العرب أو المسلمين. فالمصالح الحيوية الأميركية التي تخدمها هذه القاعدة مسوغ كاف لضمان أمنها و"دمجها" سلما أم حربا في المنطقة حتى لو كان الثمن الأرواح الأميركية نفسها.
ففي ذلك اليوم هاجمت قوات جوية وبحرية إسرائيلية سفينة التجسس الأميركية "يو إس إس ليبرتي" في المياه الدولية للبحر الأبيض المتوسط التي كانت تراقب مجريات الحرب الإسرائيلية على العرب منها، فقتلت أكثر من نصف (294) من المارينز على متنها، وما زال الناجون حتى الآن يبحثون عن العدل وقد ألفوا في ما بينهم "جمعية الناجين من ليبرتي" التي قدمت في التاريخ نفسه عام 2005 تقريرا إلى الحكومة الأميركية عن الحادث طالبها بالتحقيق. وكانت لجنة مستقلة في سنة 2003 قد خلصت إلى القول في تقريرها إن "إسرائيل شنت هجوما جويا وبحريا لمدة ساعتين على يو إس إس ليبرتي ... وعادت زوارق الطوربيد الإسرائيلي بعد ذلك لتهاجم بالرشاشات من مسافة قريبة ثلاثة من طوافات النجاة التي أنزلها الناجون من ليبرتي إلى الماء لانقاذ المصابين بالجراح الأخطر ... وكان الهجوم الإسرائيلي محاولة مدروسة لتدمير سفينة اميركية وقتل كل طاقمها".
وقال جو ميدورز أحد الناجين: "كان أكثر شيء محبط هو غياب اي رد فعل من الحكومة الأميركية". وعلق راي ماكفرن احد كبار محللي السي آي إيه في عهود سبع رؤساء أميركيين كان آخرهم جورج دبليو. بوش قائلا إن حقيقة أن البحرية الأميركية والكونغرس والسلطة التنفيذية لم يكتفوا فقط بمنع الناجين من التحدث علنا بل قاموا أيضا بتحقيقات صورية من "أجل عدم إحراج صديقننا إسرائيل" مما يثبت ما هو الخطأ في علاقات الولايات المتحدة معها.
قال أوباما في خطاب تسلمه لجائزة نوبل للسلام "إن أفعالنا لها أهمية، ويمكنها أن تطوع التاريخ في اتجاه العدالة". لكن الموقف الأميركي الذي يرفض إدانة القرصنة والمجزرة الإسرائيلية ضد اسطول الحرية لغزة، لأن أوباما يعتبره إجراء تسوغه "مخاوف أمنية مشروعه" ولأن نائبه جو بايدن يعتبر أن لدولة الاحتلال "الحق المطلق" فيه، ويرفض قيام الأمم المتحدة بالتحقيق فيها، ويمنع مجلس الأمن الدولي حتى من إصدار بيان رئاسي غير ملزم بذلك، ويعارض قرار مجلس حقوق الإنسان بجنيف لإرسال لجنة لتقصي الحقائق، وهو ما فعلته كل دول العالم باستثناء دولة الاحتلال والحكومتان الأميركية و"العراقية" في المنطقة الخضراء ببغداد. وقبل ذلك منعت إدارته "تقرير غولدستون" حول العدوان الإسرائيلي على غزة العام الماضي من الوصول إلى مجلس الأمن الدولي أو محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية.
ومن يتابع بيانات الخارجية الأميركية والبيت البيض ونائب الرئيس جو بايدن وما قالته المندوبة الأميركية في مجلس الأمن الدولي قبل صدور البيان الرئاسي يكاد يجدها نسخة كربونية من المسوغات الإسرائيلية الرسمية للمجزرة. وهذه أفعال تطوع التاريخ باتجاه الظلم والعدوان ليكون تاريخا أميركيا يفتقد العدالة، ومع ذلك يستمر الأميركيون في التساؤل عن السبب في العداء المتزايد لأميركا بين العرب والمسلمين.
وكما قال جيم سكويتو مذيع شبكة إيه بي سي الاثنين الماضي صبيحة المجزرة فإن الغضب الذي تفجر بينهم "يعرض للخطر علاقات أميركا مع العالم الإسلامي، والفكرة الشعبية عن أميركا لها نتائج واقعية على الجنود الأميركيين يزعزع التأييد الضعيف أصلا للعمل العسكري الأميركي في أفغانستان وباكستان والعراق". أما تصريحات وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون فإن الرأي العام العربي لا يستطيع إلا مقارنتها بحملتها الدبلوماسية الدولية للتحريض على كوريا الشمالية بعد إغراق سفينة حربية كورية جنوبية لم تتأكد مسؤولية بيونغيانغ عن إغراقها.
في الأول من الشهر الجاري كتبت النيويورك تايمز في افتتاحية لها: "إن أوباما بحاجة إلى أن يعلن بوضوح بأن الهجوم الإسرائيلي كان غير مقبول، وبحاجة لأن يدعم إجراء تحقيق دولي غير منحاز. كما يجب على الولايات المتحدة أن تنضم إلى الأعضاء الدائمين الآخرين في مجلس أمن الأمم المتحدة ـ بريطانيا وفرنسا وروسيا والصين ـ في حث إسرائيل على رفع الحصار بصفة دائمة". ف"الولايات المتحدة لا يمكنها أن تستمر في دعم إسرائيل عندما تكون قد ارتكبت جريمة لأنها فقط حليفتها" كما قال رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد.
لكن هذه النداءات ومثيلاتها لا تلقى سوى آذانا أميركية صماء لسبب بسيط واحد هو ما فعلته وتفعله وستفعله دولة الاحتلال الإسرائيلي اقتداء بما تفعله الولايات المتحدة نفسها "لن يكون له أي تأثير كبير" على العلاقات الأميركية ـ العربية والإسلامية كما قال السكرتير الصحفي للبيت الأبيض روبرت جيبس تعليقا على الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية لغزة، وبالتالي فإن الرسالة التي نقلتها الإدارة الأميركية "عبر قنوات متعددة" قبل الهجوم كانت تحذر فقط بضرورة توخي إسرائيل "الحذر وضبط النفس" في هجومها العسكري على الأسطول المدني، أما بعد الهجوم فقد انصب اهتمام إدارة أوباما على كيفية "احتواء المضاعفات الدبلوماسية" للهجوم في اليوم التالي لوقوعه في اجتماعات استغرقت أكثر من أربع ساعات في البيت البيض نفسه مع مستشار الأمن الوطني الإسرائيلي عوزي آراد وسفير دولة الاحتلال في واشنطن مايكل أورين على ذمة الواشنطن بوست.
إن تبني واشنطن للمسوغات الإسرائيلية لفرض الحصار على غزة لأن في القطاع "كيانا معاديا في حالة حرب" مع دولة الاحتلال الإسرائيلي هو موقف يمكن أن ينسحب على معظم الدول العربية التي يعتبرها الحليفان كيانات معادية في حالة حرب مع دولة الاحتلال، من الناحية النظرية في الأقل، وربما هنا فقط يكمن السبب في عدم فرض الحصار عليها بدورها حتى الآن.
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
0 comments:
إرسال تعليق