– كـاتـب وسيـاسي عـراقي مستـقـل
في الجزئين السابقين من المقال تحدثت عن أهمية الوجود العسكري والنفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط وكذلك تطرقت إلى أسباب هذا الوجود والأصرار الأمريكي عليه في منطقة شعوبها لاتطيق سماع أسم أمريكا ،وفي مقال سابق بعنوان (عراق مابعد الإنسحاب تساؤلات مطروحة ومخاوف مشروعة ) تطرقنا إلى الخديعة من وراء الإنسحاب العسكري الأمريكي من العراق وتحدثنا فيه عن البدائل الأمريكية في العراق بعد الإنسحاب المزعوم ، ولخصنا الحديث في نفس المقال بأن هذا الإنسحاب لايتعدى مسألة تغيير في مسار الإستراتيجية الأمريكية في حربها على الساحة العراقية .
اما في الأجزاء الثلاث من مقال ( عراق مابعد الإنسحاب بين المصالح الثابتة للإستراتيجية الأمريكية في المنطقة) ، فقد تطرقنا إلى أهمية العراق بالنسبة للإستراتيجية الأمريكية ( والتي هي تعبر عن المصالح العليا لأمريكا في العالم ) وكذلك توقفنا عند شكل وطبيعة المصالح والأهداف الأمريكية في العالم والمبنية أساساً على حجم وقوة مصالحها في منطقة الشرق الأوسط بأعتبارها"عصب الحياة" للعالم ، وكما يبدوا آن أمريكا أختصرت المسافة في كيفية سيطرتها على صناعة القرار الدولي وتربعها على عرش العالم (القطب الأوحد ) ، من خلال سيطرتها على أهم الدول في منطقة الشرق الأوسط وهذا يعني أنها تتحكم بأكبر مكامن القوة في العالم بسيطرتها على " الطاقة البترولية " في المنطقة .
لذا فان ضرورة بقاء الجيوش العسكرية والأمنية والإستخباراتية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وفق الإستراتيجية الأمريكية يأتي لتحقيق عدة أهداف جوهرية :
· إذ أن بقاءها يعزز من قوة النفوذ الإقتصادي والسياسي الأمريكي في المنطقة وضمان السيطرة والهيمنة التامة عليها دون منافس .
· دعم وتمويل الحروب المستقبلية التي تخوضها الجيوش الأمريكية والحليفة لها على دول المنطقة والعالم(الأعداء المفترضون)، وكذلك لدعم الإقتصاد الأمريكي في حال أصابه العجز أو الإنهيار نتيجة الحروب والمغامرات الأمريكية، وهذا ماحصل فعلاً عندما بدأ إنهيار الإقتصاد الأمريكي نتيجة حربي العراق وأفغانستان فأنها لجأت إلى أستخدام الطاقة البترولية لدول المنطقة والتي تعد غالبيتها تحت السيطرة الأمريكية (نفط الخليج) لتبطئ من إنهيارها الإقتصادي والتغطية على عجزها المالي والتقليل قدر الأمكان من حجم الخسائر المادية للإقتصاد الأمريكي...
· اما بخصوص الحروب المستقبلية لأمريكا ليس بالضرورة أن تكون جميعها على الشكل العسكري التقليدي الذي عهدناه سابقاً ، إذ أن ماتحدثت به في بداية الجزء الأول والثاني من المقال هو ما اقصده هنا ، أي الحروب الإقتصادية حيث ان سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على أكبر وأضخم منابع النفط والطاقة في العالم الواقعة في منطقة الشرق الأوسط يضعها في موقع التحكم المركزي بعصب الحياة للدول الغربية والأسيوية المتعطشة إلى البترول في ظل التقدم والتطور التكنلوجي والعسكري والنمو الإقتصادي والسكاني المتزايد ولغرض إدامة وإستمرار الحياة في تلك الدول عليها آن تنصاع لإرادة أمريكا ...
فعلى سبيل المثال آن الصين وهي من كبريات دول العالم والمؤهلة للصعود كقوة عظمى وبروزها كأحد أقطاب العالم فقد بدأت في البحث عن مصادر أخرى للطاقة عوضاً عن الطاقة البترولية المتواجدة في منطقة الشرق الأوسط والتي هي تحت السيطرة الأمريكية ، فحاولت الصين مراراً في ظل تقدمها الكبير في مجال التكنلوجيا والصناعة والتسارع المهول في نموها الاقتصادي والبشري من إيجاد مصادر بديلة عن الطاقة البترولية لسد حاجتها للطاقة وتكللت غايتها بالنجاح في إستخراج الطاقة من الشمس والهواء والحرارة ومصادر أخرى للطبيعة وأدخلتها في صناعاتها المتنوعة ، وعلى الرغم من الكفاءة النادرة والمعروفة عن الصينين الا أن الحاجة ستبقى قائمة ومتزايدة للطاقة البترولية الخام .
ولاشك بأن البحث عن بدائل الطاقة البترولية من قبل كبريات دول العالم سيستمر لغرض الخروج ولو بعض الشئ من تحت اطار السيطرة الأمريكية التي تحاول من خلالها التأثير على شكل ومسار القرارات السياسية والإقتصادية في تلك الدول بما يتناسب ومصالحها العليا في العالم أي أمريكا...
لذا فأن بقاء الولايات المتحدة الأمريكية في مكانتها الحالية كقوة عالمية عظمى تتحكم في صناعة القرار الدولي والأقليمي يتطلب منها أحكام السيطرة التامة على كافة مكامن القوة في منطقة الشرق الأوسط (الدول الكبيرة والغنية في المنطقة ) وأجبار أنظمتها على الرضوخ لإرادتها في عقد التحالفات الإستراتيجية معها وخاصة الأمنية منها ما يعطي المبرر لوجود جيوشها العسكرية في المنطقة وشنها العمليات العسكرية على الدول المناهضة لها في حال أستوجب الأمر ، فنلاحظ مثلاً أن أغلب دول المنطقة تذهب لعقد مايعرف ( بالتحالفات الأمنية ) تحت عنوان التعاون الأمني والأستخباراتي ضد الأرهاب بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية .
ومن المتوقع أن تشن الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة الزمنية القادمة عدد من الحروب الهدف منها أسقاط الأنظمة والقوى المناهضة لوجودها في المنطقة للقضاء عليها كما حدث في العراق مثلاً، ناهيك عن دعمها المتوقع لأطراف محلية من داخل تلك الدول للقيام بأنقلابات عسكرية أو مدنية وأشاعة الفوضى ضد أنظمتها الحاكمة.
ومما لاشك فيه بأن العراق يشكل رقماً صعباً في المعادلة الأمريكية فيما يخص سيطرتها على المنطقة ، فمن غير المعقول أن نصدق مايُقال بشأن الإنسحاب الأمريكي المُفبرك ، إذ أن العراق يُشكل رقماً مهماً وضرورياً في أكمال المعادلة الأمريكية بالتحكم في مكامن القوة للمنطقة ، خاصة على مدى العقدين القادمين من الزمن فأن الوسيلة لتحقيق الغاية الأمريكية في بقاءها متحكمة في إدارة المناخ السياسي والأقتصادي الدولي تكمن في أحكام السيطرة على كافة الدول المؤثرة في منطقة الشرق الأوسط لضمان عدم تراجع دورها القيادي مع دخول العالم في مرحلة التعددية القطبية واتجاه أنظار تلك الدول الصاعدة نحو دول المنطقة الغنية بالطاقة البترولية وموقعها الجغرافي المميز الرابط بين قارات العالم .
كما وأن العراق لايزال منذ العام 2003 في مرحلة إنتقالية لم تتضح ملامح الأستقرار التام فيه ، ومن الجدير بالذكر أن نقول أن كل الأحداث الجارية على الساحة العراقية اليوم بكافة شخوصها وقواها السياسية والتي شكلت محور العملية السياسية في العراق بعد الإحتلال هم ايضاً ضمن نفس المرحلة الإنتقالية ولن يكون لهم وجود على المدى البعيد وسيتساقطون كأوراق الخريف الواحد تلو الأخر خلال فترات زمنية متفاوتة ، إذ أن العراق مؤهل على المدى البعيد مع دخول العالم في معالم التعددية القطبية أن يكون بمثابة موقع القيادة المركزية الأمريكية لإدارة شؤون المنطقة الأقليمية لذا فحاجة تلك المرحلة المستقبلية في العراق الى طبقة أخرى جديدة من الساسة تتعامل معهم الولايات المتحدة ودول العالم تختلف عن تلك المتواجدة اليوم .
لذا فأن اكذوبة إنسحاب القوات الأمريكية من العراق باتت واضحة وضوح الشمس ، وقد توقفنا عند شكل وطبيعة المصالح الأمريكية الكونية والتي لا تحتمل التخلي عن أي رقم من أرقام المعادلة الأمريكية العالمية، والذي يُشكل العراق رقماً هاماً في تلك المعادلة من خلال أهميته القصوى في شكل خارطة المعادلة الأقليمية .
0 comments:
إرسال تعليق