حدثان مهمان للإدارة الأميركية ولمنطقة الشرق الأوسط تزامنا معاً. الحدث الأوّل هو إعلان واشنطن عن انتهاء العمليات القتالية لقواتها في العراق وتخفيض عدد القوات هناك. والثاني، هو استضافة واشنطن لقمّة خاصة ترعى استئناف المفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية. الرئيس باراك أوباما يعتبر الأمرين بمثابة تنفيذ لوعوده بشأن العراق وعملية السلام في الشرق الأوسط، وسيسعى طبعاً لتوظيف الحدثين في الانتخابات الأميركية النصفية القادمة مطلع شهر نوفمبر. لكن هل يمكن فعلاً اعتبار الحدثين نصراً للسياسة الأميركية أو تصحيحاً، في الحدّ الأدنى، لمسار هذه السياسة بعد سنواتٍ عجاف من الإدارة البوشية السابقة؟!
إدارة أوباما تدرك أنّ استئناف المفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية ليس هو إلاّ مضيعة للوقت حالياً في ظلّ حكومة إسرائيلية قائمة على رفض الاتفاقات السابقة مع الفلسطينيين، وعلى الإصرار على مواصلة الاستيطان، ولا تريد أصلاً حلّ القضايا الكبرى مع الطرف الفلسطيني رغم التنازلات الكبيرة التي قدّمتها قيادة "منظمة التحرير" منذ اتفاق أوسلو وحتّى الآن. وكم كان مخزياً هذا الموقف الأميركي الذي أعطى للسلطة الفلسطينية حلاوة بيان "اللجنة الرباعية" بينما كانت الدعوة لقمّة واشنطن مبنيّة فقط على صيغةٍ إسرائيلية أعلنتها الوزيرة هيلاري كلينتون، بحيث تقول "السلطة" أنّها شاركت على أساس بيان "الرباعية" لحفظ ماء وجهها أمام الشعب الفلسطيني.
فلماذا إذن هذا الإصرار الأميركي على بدء المفاوضات الآن رغم عدم نضوج ظروفها بعد؟!
وما هو الجديد لدى إدارة أوباما بشأن مشاريع التسوية السلمية في "الشرق الأوسط" إذا كانت مضامين الموقف الأميركي للإدارات السابقة تتكرّر مع الإدارة الحالية والتي تراجعت عن شرطها بوقف الاستيطان أولاً ولا تمارس أيَّ ضغطٍ فعّال على إسرائيل؟!
ليس في الأفق الزمني، الذي أعلنته الوزيرة كلينتون لهذه المفاوضات (سنة من الآن)، من إمكانية للاتفاق حول القضايا النهائية المرتبطة بحدود الدولة الفلسطينية، وبالقدس وبمصير اللاجئين والمستوطنات. وقد تجمدّت أيضاً المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا. فهل المراهنة الأميركية هي على فكرة المؤتمر الدولي؟!.
هناك مدخل واحد لولوج باب فكرة المؤتمر الدولي، هو مدخل ترتيب "البيت الفلسطيني" وتأمين "شرعية فلسطينية" لأي وفد فلسطيني مفاوض. وسيكون تحقيق هذا الهدف مقترناً لاحقاً (من خلال المؤتمر) بخطواتٍ سياسية واقتصادية وتأمين مساعدات عاجلة للفلسطينيين، وإنهاء حصار غزّة، بحيث تكون هذه "المكاسب الفلسطينية" سبباً أيضاً لمطالبة كلّ العرب وغير العرب بإنهاء أيّ دعمٍ سياسي أو مالي لمن يرغبون باستمرار المقاومة المسلّحة ضدَّ إسرائيل.
لكن ترتيب "البيت الفلسطيني" لم يعد مسألة "فلسطينية داخلية" فقط، بل أصبح الأمر مرتبطاً بمدى التسويات الإقليمية عموماً، إن كان لجهة الجبهتين السورية واللبنانية مع إسرائيل، أو تسوية "الملف الإيراني" مع واشنطن من جهةٍ أخرى. أيضاً لا يمكن فصل "الوضع الفلسطيني الداخلي" عن الخلاف المصري/السوري والمصري/الإيراني، وعن الموقف الأميركي الرافض حتّى الآن التعامل مع "حركة حماس" التي تقود حكومتها قطاع غزّة والتي هي رمزٌ الآن للمقاومة الفلسطينية المسلّحة.
إذن، هل يمكن تحقيق أي تقدّم في المفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية قبل ترتيب "البيت الإقليمي" وشؤونه وشجونه مع واشنطن؟! أشكّ بذلك، بل أعتقد أنَّ إدارة أوباما تريد حالياً توظيف إعلان بدء التفاوض على المسار الفلسطيني/الإسرائيلي وإظهار "حسن العلاقات مع إسرائيل" وتبنّي "الشروط الإسرائيلية"، ليس فقط في الانتخابات الأميركية القادمة بل أيضاً لمفاوضاتها القادمة مع إيران. فالرأي العام الأميركي المشحون أصلاً من "الجمهوريين" ومن اليمين الأميركي المتطرّف ضدَّ الرئيس أوباما وأصوله الأفريقية والإسلامية، لا يمكن أن يقبل حواراً إيجابياً مع إيران في ظلّ خلافٍ أميركي مع إسرائيل!!
وأعتقد أنّ ظروف التفاهم الأميركي/الغربي مع إيران قد نضجت الآن بشأن "الملف النووي الإيراني" حيث كان بدء العمل في محطة بوشهر، وردود الفعل الغربية الإيجابية، هو دلالة على ذلك. وستظهر مؤشّرات ودلالات أخرى إيجابية في شهر سبتمبر من خلال محادثات جنيف المرتقبة وما سيحدث من لقاءات على هامش اجتماعات دورة الأمم المتحدة في نيويورك.
أمَّا الشأن العراقي، فلا يختلف كثيراً عن ظروف "البيت الفلسطيني" وارتباط مصير الحكومة العراقية المرتقبة بالتفاهمات الإقليمية/الدولية. وهنا أيضاً تظهر حاجة إدارة أوباما لتحقيق "تسوية" مع طهران تُسهّل "تسويات وحكومات" في المنطقة، وتكون هي فعلاً "انتصارات سياسية خارجية" للرئيس أوباما وإدارته قبل العام 2012، موعد الانتخابات الرئاسية القادمة، كما تكون تنفيذاً عملياً لما طالب به عدد كبير من الخبراء والسياسيين الأميركيين في توصيات "بيكر-هاملتون" عام 2006 حيث جرى الفرز آنذاك بين "المصالح الأميركية" التي عبّرت عنها التوصيات وبين "أجندة المحافظين الجدد" في حكم إدارة بوش.
إنّ إدارة أوباما خضعت لضغوط داخلية أميركية كبيرة من أجل سياسةٍ أكثر تصلّباً مع إيران، ومن أجل التراجع عن هدف التفاوض معها. وهذه الضغوط مصدرها مزيج من قوى الحزب الجمهوري المعارض، ومن التيّار الديني المحافظ في أميركا، ومن تأثيرات اللوبي الإسرائيلي المؤيّد لتوجّهات الحكومة الإسرائيلية. وترافقت هذه الضغوط مع حملة إسرائيلية لجعل الملف الإيراني هو "الصراع البديل" عن "الصراع العربي/الإسرائيلي"، ومع جهود "مخابراتية إسرائيلية" لإشعال فتن طائفية ومذهبية في أكثر من بلدٍ عربي، في ظلّ ضعف المناعة السائد في الجسد العربي والذي يجعل هذا الجسم قابلاً لاستقبال حالات الأوبئة المتعددة المصادر، وأخطرها وباء الانقسام الطائفي والمذهبي.
إنّ التطورات القادمة في المنطقة، والمراهنات الإسرائيلية المستمرّة فيها على الصراعات الداخلية العربية ومع الجوار الإيراني، تتطلّب كلها من الدول العربية ومن إيران نزع كلّ الألغام السياسية والأمنية التي زُرِعت بين الطرفين في السنوات الماضية وأوجدت حالةً من الحذر والخوف لدى الدول الصغيرة المجاورة لإيران، خاصّةً في ظلّ تصريحات غير مسؤولة أحياناً، أو إصرار على عدم حلّ قضايا عالقة منذ حكم الشاه، كقضية الجزر الإماراتية المحتلة.
إنّ إيران ساهمت بلا أيّ شك في تعزيز عناصر الصمود العربي المقاوم للاحتلال خلال السنوات الماضية وفي إسقاط مشاريع "شرق أوسطي جديد"، وهي مطالبةٌ الآن بالمساهمة في تعزيز علاقاتها الإيجابية مع جوارها العربي، ففي ذلك مصلحةٌ عربية وإيرانية مشتركة، وتعزيزٌ للموقف الإيراني المفاوض مع العالم كلّه.
0 comments:
إرسال تعليق