أما في العراق الحديث فأن سياسة (الطاق طيق طاق) نجحت على مدى خمسة وثلاثين عاما في تشويه الفكر ولم يعد قادرا على الإبداع لأن المثقفين والمفكرين كانوا يبادرون إلى إحراق كتبهم عند سماعهم خبرا عن نية الأمن العام باعتقالهم، وقد قام أهلي بحرق مكتبتي بعد اعتقالي الأول، وقامت عائلة الأديب سلام كاظم فرج بذلك أيضا، مع عشرات الحالات المماثلة الأخرى التي يطول الحديث عنها.
ولذا ترى العراقيين مع أول بادرة انفتاح يسرعون بإلقاء أقلامهم إلى النار ليستلوا أسلحتهم وحرابهم ويكتبوا بواسطتها تاريخنا الحديث بمداد الدم الشاخب من أوداج الأبرياء من العراقيين أنفسهم، فكم من مأساة تنتظرنا من الآن إلى أن ينضج فكرنا مجددا وننسى ثقافة (الطاق طيق) ونعيد للكتاب مكانته الرفيعة في حياتنا؟
السؤال هنا:هل أن أمريكا تمر اليوم بمرحلة الطاق طيق طاق لكي يفزع بعض القساوسة بهمة لحرق القرآن أم ماذا؟ ومن يروج لهذه الثقافة هل هي الحكومة الأمريكية أم أن جهات أخرى تحكم المجتمع الأمريكي وتتحكم به؟
نلاحظ مما تقدم أن التنوير والعلم كان واحدا من أكبر التهديدات التي تواجه الحكام، وحملة الفكر المتطرف، والمتعصبين، والذين يكرهون البشر، ومن لا يؤمن بثقافة قبول الآخر، ولا يرضى بالعيش السوي بين البشر.
وعلى مر التاريخ تعرضت الكتب والمكتبات للحرق على أيدي هؤلاء الهمجيين الجهلة وتعرضت محتوياتها للإبادة بنيران الحقد والكراهية والجهل لكن ماذا كانت النتيجة؟ وأين هي الكتب؟ وأين هم المتطرفون الهمج الذين أحرقوها؟ لقد تجددت الكتب وتنوعت مواضيعها وكثرت أعدادها، وتجدد كذلك وجود المنحرفين الراغبين بحرقها، وكأن الله يريد لهذه المعادلة أن تستمر بالتفاعل في الحياة لأغراض الإثارة والتجديد، إلى أن يأذن بالتغيير.
ومع أن حرق الكتب في العالم الغربي كاد أن يختفي ـ ولا أقول اختفى ـ بعد المآسي والويلات التي لحقت بالبشرية خلال القرنين الماضيين من جراء الحرائق الهائلة المتكررة التي احرقت فيما أحرقت البشر أيضا، إلا أن مشعلي الحرائق ـ وللأسف الشديد ـ لا زالوا يتجددون ويتلونون بملابس ووجوه جديدة تحمل نفس تقاسيم وجوه الهمج القدماء، فمن يريد حرق القرآن اليوم لا يقل جهالة عمن سبقه، ومن يريد قتل هذا القس المنحرف انتقاما من فعلته الجبانة لا يقل عنه جهالة وهمجية.
نحن في هذا العالم شركاء ومن حقنا أن نعيش وأن نفكر ونعبد الله بطرائقنا الخاصة ومن حق الآخرين أن يعيشوا ويفكروا ويعبدوا الله بطرائقهم الخاصة، فالعالم أوسع من أن نتخوف من وجود الآخر فيه أو مزاحمته لنا حتى لو كان يمثل تهديدا، فالتهديد لا يعني الفناء وألا لكانت البشرية قد فنيت منذ قرون بعد أن كانت المنافسة شديدة وكان التهديد منهجا حياتيا على مر العصور.
السؤال هو: هل من حق أحد ما أن ينتقص من قيم الآخر ويحرق كتابه المقدس سواء للانتقام من فعل منسوب لهذا الآخر، أو نتيجة الكره له أو الخوف منه؟
الجواب: كلا بالتأكيد، فالعالم يسع الجميع بكل أطيافهم وألوانهم وعقائدهم وليس من حق أحد أن يصادر حقوق الآخرين ولأي سبب كان.
أما تيري جونز الذي أطلق قنبلة الدخان السام التي لا زال دخانها يتصاعد ويتكاثف في الجو ويمتد إلى أماكن وبقاع أخرى مما سيعرض البشرية لخطر الموت اختناقا، فإنه لا يريد الانسياق لقواعد المعايشة، بل يريد الشذوذ عنها وإشعال نار في قرآن المسلمين تمتد لتحرق وتدمر وتثير الفوضى في العالم كله.
علما أن قنبلة تيري جونز لم تكن الأولى ولا الوحيدة على الساحة وهي واقعا لم تطلق في هذا التاريخ انتقاما من هجمات حدثت قبل تسع سنوات، لأنها أولا: لو كانت بدافع الانتقام لما كانت لتتأخر كل هذه المدة لتأتي في هذا الوقت الحساس لإثارة الشر في نفوس مصدومة بفقدان أعزائها بدأت تنسى الواقعة نتيجة تقادم الزمن.
وهي ثانيا: لو كانت انتقاما للهجمات لما أعلنت إحدى أكبر الكنائس التي فرحت كثيرا بالتفجيرات وهي كنيسة "وستبورو ببتيست" في مدينة توبيكا بولاية كنساس نيتها حرق القرآن في نفس التاريخ بالرغم من أن الكنائس الأخرى تعتبر هذه الكنيسة غريبة الأطوار متمردة وخارجة على القانون الكنسي لأنها تقود ومنذ 20 عاما حملات كراهية لكل ما في الوجود، بل سبق لها وأن أعلنت الفرح والسرور يوم وقعت هجمات 11 / أيلول وهذه الكنيسة الشاذة سبق لها وأن قامت بحرق نسخ من القرآن الكريم في منتصف عام 2008 بدون ضجة إعلامية، واكتفت بنشر صورا ومقاطع فيديو ذلك العمل الخسيس على مواقعها في شبكة الانترنت.
الآن بعد أن أجل تيري جونز موعد حرق القرآن ولا أقول الغي نهائيا، أختم هذه الدراسة البسيطة بأسئلة، سأترك جوابها لمن يقرأ الموضوع ليدلي بدلوه بالجواب عليها أو على بعضها عسى أن نصل من خلال ذلك إلى فهم مشترك لما يحدث في عالمنا المضطرب اليوم من خلال تلاقح الأفكار الناضجة والرؤى المختلفة.
ماذا يمكن أن نستشف من هذه المماحكة القميئة التي تنضوي على قدر كبير من الكراهية للآخر؟
وهل ستتحول عمليات الحرق هذه إلى ثقافة عالمية جديدة يتعامل بها البشر مع من يختلفون معه في الرأي؟
وما هي نتائجها وتأثيرها على الوجود الإنساني والعلاقات الإنسانية؟
وهل ممكن للمسلمين أن يحرقوا التوراة أو الإنجيل انتقاما ممن يروم حرق كتابهم المقدس ولماذا لا يفعلون ذلك، وما الذي يمنعهم؟
وهل كانت عمليات حرق الجنود الأمريكان في العراق للقرآن أو إلقائه في القمامة أو وضعه هدفا للتدريب على الرمي من نتاج هذه الثقافة التحريقية أم أنها جاءت عفوية؟ أم أن هناك ثقافة شركية تتمنى حرق كل ما هو مقدس بغض النظر عن أصلة؟
أم أن ضعف الوازع الديني في المجتمع الغربي يعمي هؤلاء فلا يعرفون أهمية وقدسية الكتب السماوية؟
أم هو عداء حقيقي ممنهج ضد الإسلام وكتابه المقدس دون غيره من الأديان؟
أم هو خوف من الإسلام الذي يبدو اليوم رغم ظاهره الضعيف قوة عظمى تهدد باقي القوى وترعبها؟
أم هي محاولة استفزازية هدفها دفع المسلمين للتمرد والثورة والانفعال غير المنضبط لكي تتم مجابهتهم وقتلهم وفق مبدأ صدام الحضارات الذي وضعه صموئيل هنتنغتن؟
أم أن كل يعمل بأصله وهم لا أصل لهم؟
أم أنها النتيجة الحتمية التي سيتعامل بموجبها البشر مع هذه المقدسات بعد أن اعتقدوا أن دور هذه الكتب انتهى، فصاروا يتحدثون عن موت الإله، وحان أوان مفاهيم العولمة، وما بعد الحداثة، والقرية الكونية لتقود العالم؟
وفي نهاية هذا الصراع، من مِنَ الطرفين سوف ينتصر في نهاية المطاف؟
هل يتخلى الله سبحانه عن كتبه ويسمح لهؤلاء بترسيم علاقة البشر وفق شريعتهم الإستلابية؟
أم أن الله سينتصر لدينه ولكتبه فيبيد الضالين ويمحقهم على يد صناع الغد الإسلامي المشرق القادم، ويلقي بهم إلى جهنم وبئس المصير؟
0 comments:
إرسال تعليق