عشرُ سنواتٍ مضت على الزيارة المستفزة التي قام بها رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أرئيل شارون إلى المسجد الأقصى المبارك، وسطَ جمهرةٍ كبيرة من الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح، وهي الزيارة التي تفجرت غضباً، وتفصدت دماً، فاجتاحت فلسطينَ كلها انتفاضةٌ عارمة، وثورةٌ شاملة، عمت كل أرجاء الوطن، وشارك فيها كل الفلسطينيين، بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم السياسية، وساد الغضب أوساط المسلمين كما المسيحيين الذي غاروا على حرمة أشقاءهم المسلمين، فانتفضوا معهم، وعانوا مثلهم، وثبتوا في مواجهة التحديات الإسرائيلية المستمرة التي طالت مقدساتهم ووقفهم، وتضامن مع فلسطين نصرةً ومساندة كل العرب والمسلمين في كل أرجاء الكون، وأيدها في ثورتها الكثير من أحرار العالم، فقد انتفضت القدس وفلسطين حفاظاً على هويتها، وانتصاراً لحضارتها، وسعياً لتحررها، وتطهير مقدساتها، وعودتها إلى عمقها العربي والإسلامي، وتكريساً للحق العربي في الإقامة فيها، والبقاء على أرضها، وصيانة بيوتها ومساجدها وكنائسها، ولم يبالِ الفلسطينيون في انتفاضتهم بقوة العدو، ولا بسطوة المحتل، ولا بالقتل الرهيب الذي كان يتوزع على الفلسطينيين ظلماً وعدواناً، ولم ترعب الفلسطينيين عودةُ شارون، ولا قراراته العسكرية، ولا اجتياحاته المتكررة لأطراف قطاع غزة، ولا حملاته العنيفة ضد مدن ومخيمات الضفة الغربية، وهو الذي في ظل انتفاضة القدس حاصر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وضيق عليه الخناق في مقر المقاطعة، فهدم الجدران، وسوى بالأرض الأبنية والبيوت، ولكن القدس ومعها كل فلسطين مضت ثائرة غاضبة، وإن كانت مسربلة بالدم، ومتوشحة بالسواد.
سنواتٌ عشر مضت على انتفاضة الأقصى، وآلاف الشهداء خلالها قد سقطوا، وعشرات آلافٍ آخرين جرحوا وأصيبوا، واعتقلوا وسجنوا، وآلاف البيوت قد تهدمت، ومئات المعامل والمصانع قد دمرت، وآلاف الدونمات قد صودرت، وآلاف أشجار الزيتون قد اقتلعت، وتوسعت المستوطنات الإسرائيلية، وتضاعفت أعداد المستوطنين فيها، وازدادت الشوارع الأمنية والطرق الالتفافية، وأغلقت الجامعات والمعاهد، وتعطلت الدراسة، وتفرق التلاميذ والطلاب، وقد عاث شارون ومن قد جاء بعده في كل أرض فلسطين فساداً وخراباً، وقتلاً واعتقالاً، وتمزيقاً وتشتيتاً، وطرداً وإبعاداً، ومصادرةً وحرماناً، ووجهوا للقادة العرب إهاناتٍ عديدة، فاستهانوا بعزمهم، وسخروا من نواياهم، وردوا على مبادراتهم قتلاً وترويعاً، وواجهوا اعتدالهم تشدداً أكثر وتطرفاً أعنف، وجاؤوا بحكوماتٍ لا تؤمن بغير العنف، ولا تسلك غير سبيل القوة، ولا تعرف طريقاً للحوار أو المفاوضاتِ إلا إذا قبل الفلسطينيون بالتنازل، وأبدوا نيتهم المسبقة بالتفريط بالحقوق، والتخلي عن الثوابت، وجاء مناصروهم الدوليون، بوش الأمريكي، وبلير البريطاني، وغيرهم من النادمين الألمان والفرنسيين العائدين، ليشدوا على أيديهم، ويؤيدوا مساعيهم، ويمدوهم بكل سلاحٍ قادر على وأد الانتفاضة، وإسكات المقاومة، وإضعاف الصف الفلسطيني وتشتيت جمعه، وتمزيق وحدته، ودفع قيادته نحو تنازلٍ أكبر، وتفريطٍ أخطر، بعد أن أغروهم بمعسول الوعود، وجميل الكلام، بدولةٍ وعلمٍ ووطن، خلال عامٍ لا يأتي، ومستقبلٍ لا يتغير، فصدقوا وعودهم، فانقلبوا على إخوانهم، وناصبوهم العداء، وزجوا بهم في السجون والمعتقلات، وعرضوهم لألوانٍ شتى وصنوفٍ عديدة من الإهانة والتعذيب، في الوقت الذي لم يتوقف فيه الاحتلال عن القتل، وتوسيع السجون والمستوطنات، وزيادة أعداد المعتقلين والمستوطنين، في جدليةٍ لا تنتهي، ومعركة لا تتوقف، فالإسرائيليون ماضون في أحلامهم ومخططاتهم، بأن القدس الموحدة عاصمتهم الأبدية، والفلسطينيون ماضون في يقينهم بأن القدس لهم، والأقصى مسجدهم، وفلسطين كلها أرضهم ووطنهم.
في العشرية الأولى لانتفاضة القدس، وثورة الأقصى، التي جمعت عموم الفلسطينيين، ووحدت كلمتهم في المواجهة والتحدي، وفي الصمود والدفاع، فامتزج فيها الدم الفلسطيني وسار شلالاً جارفاً موحداً، تتوجه القدس بتلالها، والأقصى بمآذنه، والكنائس بأجراسها، برسالةٍ مدادها الصدق والإخلاص إلى أهلنا الفلسطينيين أجمعين، أن اتفقوا وتوحدوا، وكونوا صفاً واحداً، وأخلصوا لقدسكم وأقصاكم وقضيتكم بوحدتكم واتفاقكم، وتجاوزوا مشاكلكم وخلافاتكم لصالح شعبكم، رحمةً ورأفةً به، فهو يعاني من الفرقة والانقسام أكثر مما يعاني من العدو والاحتلال، فالعدو يستهدفنا جميعاً، وهو يتآمر علينا وعلى حقوقنا، وهو أبداً لن يسلم لنا على طاولة الحوار بحقوقنا، ولن يتوقف وهو يبتسم لنا على طاولة المفاوضات عن اعتداءاته على الأرض والإنسان والحقوق والمقدسات، ولذا تبقى رسالة القدس في عشريتها الأولى إلى الشعب الفلسطيني بضرورة الوحدة والاتفاق، فالوحدة هي السلاح الأقوى والأمضى لمواجهة غطرسة العدو واعتداءاته، أما إذا استمرقت الفرقة، وتعمقت الأزمة، وضاعف الفرقاء الفلسطينيون في خلافاتهم، وباعدوا بين وجهات نظرهم، فإن القدس ستكون حزينة، وستتشح بسوادٍ أكثر، وستخفت أصوات مآذنها، وأجراس كنائسها، ما بقي الفلسطينيون يبتعدون عن بعضهم أكثر، ويختلفون فيما بينهم أكثر، ويصغون السمع إلى نصائح أعداءهم، ويسدون آذانهم عن نداءات شعبهم.
عشر سنواتٍ عجاف، مليئة بالأحزان والمآسي، وعامرة بالقتل والخراب والدمار، والقدس فيها حزينة، وفلسطين مكلومة، ولكنها تبقى ثائرة، وتعود دائماً منتفضة، فهي وأهلها يتطلعون إلى الحرية، وإلى العودة إلى شمس العروبة، ونور الإسلام، فلن يفرط أهلها، ولن يتخلى العرب والمسلمون عن دورهم في حمايتها، وصيانة واستعادة مقدساتها، وسيبقى هذا اليقين كالجذوة المشتعلة أبداً تحت الرماد، لا يموت الأمل، ولا تنطفئ الجذوة، حتى نعود يوماً إلى قدسنا أعزةً كراماً، ومحررين أباةً، ولكن استعادتها والحفاظ عليها يتطلب ثباتاً وصموداً، ويحتاج إلى قتالٍ ومقاومة، واستعدادٍ وتجهيز، وأملٍ دائم، ويقين لا يتزعزع، وثقةٍ بالحق والرجال لا تلين ولا تضعف، فالقدس معركة مفتوحة، وقضية مستمرة، وحقٌ معلوم، وجهاد في سبيلها مفروض، وعدو يتآمر عليها مكشوف ومفضوح، وحلفاءٌ له معه صادقون، ومعنا كاذبون ومخادعون، ولكن الله صدقنا وعده، بأن نصره قريب، وعودتنا أكيدة، وأننا سنرث أرضنا من جديد، فهذا وعد الله الآخر والخالد لنا في كتابه.
0 comments:
إرسال تعليق