بعد هذا التاريخ هدأت سياسة التحريق زمنا ليس ترفعا عن امتهان الكتاب أو الخوف من محتواه ولكن بسبب المستجدات السياسية في زمن الإمبراطوريات العربية الإسلامية، ولاسيما وأن القيادة العليا لم تعد حريصة على الإسلام بنفس درجة الأوائل الذين تأولوا بسبب هذا الحرص أن في الكتب الأخرى مخاطر تهدد الإسلام ولم تعد مهتمة لمسألة دخول الكتب إلى بلاد المسلمين مهما كان موضوعها ما دامت الفتوح الواسعة تدخل معها المغانم والفيء والخيرات من الذهب والفضة والخيول والأقمشة والسبايا من النساء الجميلات، وتشغل في نفس الوقت قوى المعارضة عن التفرغ لمحاربة النظام أو إزعاجه ولاسيما أنها كانت وقود الفتوح.
وكان أهم ما أحرق من الكتب في هذه الحقبة كتاب السيرة النبوية حيث روى الزبير بن بكار في الموفقيات (أن سليمان بن عبد الملك قدم إلى مكة حاجا سنة 82 هجرية فأمر أبان بن عثمان بن عفان الذي كان واليا عليها ليكتب له سيرة النبي (ص) ومغازيه، فقال أبان: هي عندي. فأمر سليمان عشرة من النساخ والكتاب بنسخها فلما صارت إليه نظر فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين وفي بدر فقال: ما كنت أرى لهؤلاء هذا الفضل! فأما أن يكون أهل بيتي غمطوا عليهم وأما أن يكونوا ليس هكذا!! فأمر بالكتاب فخرق. ولما عاد إلى أبيه الخليفة عبد الملك بن مروان في الشام أخبره بما جرى فقال له : وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس فيه فضل. تعّرف أهل الشام أمورا لا نريد أن يعرفوها!!؟)
ولذا عادت ثقافة التحريق في هذا التاريخ ورفعت رأسها من جديد لتعيث في الأرض فسادا، ومن أوائل من طالتهم ثقافة التحريق كان عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي قاضي مصر وعالمها (96- 174 هـ) الذي أحرقت كتبه سنة 170هجرية، ثم محمد بن أبي عمير الأزدي البغدادي المتوفى سنة 217هـ الذي قيل أنه ألف أربعة وتسعين كتابا، وكان البغدادي قد سجن بسبب ولائه لأهل البيت فقامت أخته بدفن كتبه فبليت، وقيل: بل أخفتها في غرفة فسال عليها ماء المطر فبليت.
وكانت في الري لإسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني المعروف بالصاحب ابن عباد. ( 326- 385هـ) مكتبة عامرة قال في وصفها لما استدعاه صاحب خراسان الملك نوح بن منصور الساماني: ثم كيف لي بحمل أموالي مع كثرة أثقالي وعندي من كتب العلم خاصة ما يحمل على أربعمائة حمل أو أكثر؟ ولما دخل السلطان محمود بن سبكتكين الري قيل له : إن هذه الكتب كتب الروافض وأهل البدع فأمر بحرقها
وكان أبو نصر سابور بن أردشير (ت سنة 416هـ - 1025م ) وزير بهاء الدولة البويهي قد أنشأ في بغداد في محلة الكرخ بين السورين سنة 381هـ -991م خزانة الكتب وهي التي ذكرها كوركيس عواد في كتابه ( خزائن الكتب القديمة في العراق ) تحت عنوان (دار العلم ببغداد - خزانة سابور ) وقيل أن عدد ما اشتملت عليه هذه الخزانة كان عشرة آلاف وأربعمائة مجلد من أصناف العلوم ولكنها أحرقت عند مجيء الملك طغرل بك في سنة 450هـ رغم كونها من أهم المكتبات في العالم حيث قال عنها ياقوت الحموي في معجم البلدان بترجمته لـ "بين السورين": ولم تكن في الدنيا أحسن كتبا منها كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحررة واحترقت في ما أحرق من محال الكرخ عند ورود طغرل بك أول ملوك السلجوقيين بغداد.
وكان الطوسي أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي ( 385-460 هـ) يسكن جانب الكرخ ببغداد ومكتبة (سابور أردشير ) تحت يده يوم أمر بحرقها، قال ابن كثير في بدايته ونهايته عن حوادث سنة 460 هجرية: فأحرقت مكتبته معها أيضا بل أن الذهبي قال في سير أعلام النبلاء: وقد أحرقت كتبه عدة نوب في رحبة جامع القصر.
وفي سنة 603 هجرية في زمن احتلال الخوارزمية لبغداد ألقى الخليفة القبض على عبد السلام بن عبد الوهاب بن الشيخ عبد القادر الجيلاني بسبب فسقه وفجوره ، وأحرق كتبه لما فيها من كتب الفلاسفة ، وعلوم الأوائل لأنه كان وشى بابن الجوزي إلى الوزير ابن القصاب فأحرق ابن القصاب بعض كتب ابن الجوزي ، وختم على بقيتها.
وفي أماكن أخرى من بلاد المسلمين كان التحريق سياسة الحكام والغزاة وكانت أمهات الكتب طعاما لذيذا لألسن نيرانهم ففي القاهرة كانت للفاطميين خزانة كتب ولا أروع قال عنها المقريزي: وكانت من عجائب الدنيا ويقال أنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت بالقاهرة في القصر ويقال : أنها كانت تشمل ألف وستمائة ألف كتاب، ولكن عند دخول صلاح الدين الأيوبي أخذ عبيد وإماء الأيوبيين جلودها برسم عمل ما يلبسونه في أرجلهم [أي حولوا جلود تلك الكتب إلى أحذية] وأحرقوا ورقها تأولا منهم أنها خرجت من قصر السلطان وأن فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم، سوى ما غرق وتلف وحمل إلى سائر الأقطار وبقي منها ما لم يحرق وسفت عليه الرياح التراب فصارت تلالاً باقية إلى اليوم في نواحي آثار تعرف بتلال الكتب!
وبين اسطر حكايات هذه المآسي شبت النيران في خزائن كتب عظيمة أنتجها الفكر الإنساني الجبار هنا وهناك مرات ومرات يعجز المرء عن إحصائها وتدوين مآسيها، ولكن من المؤكد أن النار عجزت عن التهام الفكر الذي كان موجودا بين دفاتها فبقي مشعا يحفز الأجيال على البحث والتنقيب والاكتشاف والتقدم ولذا نجد بالرغم من كل ما سببه هذا الفعل الهمجي المتهتك من ضياع للجهد الفكري الإنساني إلا أن الإنسان المثابر الصابر تمكن من تعويضه وتجديده فوصل العالم إلى ما هو عليه اليوم.
أما في العراق فأن سياسة (الطاق طيق طاق) نجحت على مدى خمسة وثلاثين عاما في تشويه الفكر ولم يعد قادرا على الإبداع لأن المثقفين والمفكرين كانوا يبادرون إلى إحراق كتبهم عند سماعهم خبر نية الأمن العام باعتقالهم، وقد قام أهلي بحرق مكتبتي بعد اعتقالي، وقامت عائلة المفكر سلام كاظم فرج بذلك أيضا، مع عشرات الحالات المماثلة الأخرى التي يطول الحديث عنها.
ولذا ترى العراقيين مع أول بادرة انفتاح يسرعون بإلقاء أقلامهم إلى النار ستلوا أسلحتهم وحرابهم ليكتبوا بواسطتها تاريخنا الحديث بمداد الدم الشاخب من أوداج الأبرياء من العراقيين أنفسهم، فكم من مأساة تنتظرنا من الآن إلى أن ينضج فكرنا مجددا وننسى ثقافة (الطاق طيق) ونعيد للكتاب مكانته الرفيعة في حياتنا؟
السؤال هنا:هل أن أمريكا تمر اليوم بمرحلة الطاق طيق طاق لكي يفزع بعض القساوسة بهمة لحرق القرآن أم ماذا؟ ومن يروج لهذه الثقافة هل هي الحكومة الأمريكية أم أن جهات أخرى تحكم المجتمع الأمريكي وتتحكم به؟
0 comments:
إرسال تعليق