تتجمّع الآن قطع مبعثرة لتشكّل لوحةً شبيهة بما حدث في مطلع عقد التسعينات، من حيث "أوجه الخلاف" بين واشنطن وتل أبيب أو من حيث مشاريع صيغ التسوية الشاملة. ويُدرك الرئيس أوباما أنّ ما يأمله العرب و"العالم الإسلامي" من تغيير في سياسة الولايات المتحدة سيكون محكّه الصراع العربي/الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية تحديداً. وقد تحدّثت إدارة أوباما عن ضرورة وقف بناء أو توسيع المستوطنات الإسرائيلية، وعن التمسّك بصيغة حلّ الدولتين. وهذا الأمر مهمٌّ طبعاً، لكنْ ماذا لو تكرّر ما حدث في العام 1991 من "خلاف" أميركي إسرائيلي حول القضية نفسها (تجميد المستوطنات) وانتهى "الخلاف" في مؤتمر مدريد الذي كانت الفكرة الأساسية منه هي إعداد تسوية شاملة على كلّ الجبهات؟؟ ألم يتحوّل مؤتمر مدريد إلى عذرٍ من أجل الضغط على العرب للتطبيع مع إسرائيل قبل انسحابها من الأراضي المحتلّة؟ وما الذي نتج عملياً عن مؤتمر مدريد غير التطبيع حتى مع دولٍ عربية وإسلامية غير معنيّة مباشرةً بالصراع مع إسرائيل، بينما كان "اتفاق أوسلو" يتمّ في السرّ بين إسرائيل وقيادة "منظمة التحرير"؟!.
إنّ مشكلة الفلسطينيين والعرب ليست مع "الخصم الإسرائيلي والحكم الأميركي" فقط بل هي أصلاً مع أنفسهم، فالطرف الفلسطيني أو العربي الذي يقبل بالتنازلات هو الذي يشجّع الآخرين على طلب المزيد ثمّ المزيد.
إدارة أوباما "تناشد" إسرائيل "تمديد تجميد الإستيطان" في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك تفعل الآن السلطة الفلسطينية التي تهدّد بوقف "المفاوضات" إذا لم يحصل "تمديد التجميد". تُرى، ماذا لو أوقفت السلطة فعلاً التفاوض؟ وما البديل الذي ستطرحه، وهل ستعلن مثلاً التخلّي عن نهج التفاوض لصالح أسلوب المقاومة المشروعة ضدَّ الاحتلال؟ هل ستتّم إعادة بناء "منظمة التحرير الفلسطينية" لكي تكون "جبهة تحرّر وطني" شاملة توحِّد الطاقات والمنظمات الفلسطينية المبعثرة؟ ثمَّ ماذا لو استجابت حكومة إسرائيل لمطلب "تجميد الإستيطان" لبضعة أشهر، كما طالبها الرئيس حسني مبارك والرئيس محمود عباس، فهل يعني ذلك برداً وسلاماً في عموم المنطقة؟ وكيف لبضعة أشهر أن تصنع التحوّل في حكومة إسرائيلية قامت على التطرّف ورفض الاتفاقات مع الفلسطينيين، بحيث تقبل هذه الحكومة بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، وبإنهاء المستوطنات وإعطاء اللاجئيين الفلسطينيين حقوقهم المشروعة؟!.
هي في الأحوال كلّها مراهناتٌ على سراب وأضغاث أحلام لا جدوى منها فلسطينياً وعربياً.
فما هو قائمٌ على أرض الواقع وحده المعيار في أي مفاوضات أو عدمها. وتغيير الواقع الفلسطيني والعربي هو الكفيل فقط بتغيير المعادلات وصنع التحوّلات المنشودة في الموقفين الإسرائيلي والأميركي.
الواقع الآن أنّنا نعيش زمناً إسرائلياً في كثيرٍ من الساحات العربية والدولية. زمنٌ يجب الحديث فيه عن مأساة الملايين من الفلسطينيين المشردين منذ عقود في أنحاء العالم، لا عن مستوطنين يحتلّون ويغتصبون الأرض والزرع والمنازل دون رادعٍ محلّي أو خارجي. زمنٌ إسرائيليٌّ حتى داخل بلدان عربية كثيرة تشهد صراعات وخلافات طائفية ومذهبية تخدم المشاريع الأجنبية والإسرائيلية بينما تحتّم مواجهة هذه المشاريع أقصى درجات الوحدة الوطنية. زمنٌ تفرض فيه إسرائيل بحث مسألة "الهوية اليهودية" لدولتها التي لم تعلن حدودها الرسمية بعد، بينما تضيع "الهوية العربية" لأمَّةٍ تفصل بين أوطانها منذ حوالي قرنٍ من الزمن حدود مرسومة أجنبياً، وبعض هذه الأوطان مُهدّدٌ الآن بمزيدٍ من التقسيم والشرذمة!!.
سيصطلح ميزان التفاوض مع إسرائيل حينما يتمّ تصحيح الواقع الفلسطيني والعربي أولاً، وحينما تتحوّل "المناشدات" الكلامية العربية والفلسطينية إلى قوى ضغطٍ فاعلة في كل الميادين الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، تماماً كما كانت أحوال العرب عشيّة "حرب أكتوبر" عام 1973 وقبل خروج مصر من الصراع وقبل "معاهدات كامب ديفيد".
هي الآن الذكرى ال37 لحرب أكتوبر وهي أيضاً الذكرى العاشرة للانتفاضة الفلسطينية الثانية التي انطلقت في 28 سبتمبر من العام 2000. وكم الأمَّة العربية بعيدة الآن عن ظروف هاتين المناسبتين!.
فلقد أبرزت انتفاضة العام 2000 حقيقةً هامَّة لم تكن مدركَة آنذاك حتى لدى القيادات الفلسطينية، وهي أنَّ الشعب "يمهل ولا يهمل". وقد أمهل الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة قيادته أكثر من 7 سنوات بعد "اتفاق أوسلو"، وتركها تذهب إلى أبعد مدى ممكن في التنازلات الإجرائية والمبدئية، إلى حين الاصطدام مع لحظة القرار الخطير: التوقيع على نهاية الصراع مع إسرائيل في اجتماعات "كامب ديفيد" صيف العام 2000، دون تأمين الحدّ الأدنى من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. هنا وصلت السلطة الفلسطينية إلى مأزق كبير: لا تستطيع التقدّم إلى "الأمام" مع إسرائيل والولايات المتحدة، ولا تستطيع التراجع إلى الوراء والتخلّي عن اتفاقياتها في أوسلو والقاهرة وواي ريفر وشرم الشيخ... فهذه الاتفاقيات هي التي جعلت من منظمة التحرير "سلطة وطنية" ومن بعض "القيادات الثورية" وزراء وأصحاب مناصب، ومن رئيسٍ لمنظمة كان يصفها الغرب بالإرهاب إلى رئيس سلطة تحمل مشروع دولة ويتمّ التعامل معه كرئيس دولة، بل إنَّ هذه السلطة تتقاضى مساعدات بمئات الملايين من الدولارات من عدّة دول غربية (في مقدّمتها أميركا) لأنّها اختارت طريق أوسلو وما نتج عن السير في هذا الطريق من قطع الصلات مع المسارات العربية الأخرى، وتحويل المشكلة الفلسطينية من جوهر الصراع العربي/الصهيوني إلى "قضية" ثنائية مختلَف عليها مع إسرائيل ويتمّ التفاوض بشأن تفاصيلها في "محاكم" أميركية وبإشراف قاضٍ وحكمٍ واحد هو "الراعي" الأميركي. تماماً كما فعلت مصر/السادات حين اختارت هذا الطريق في كامب ديفيد الأولى.
لذلك، كانت الانتفاضة الفلسطينية في العام 2000 تجاوزاً من "الشارع الفلسطيني" لأزمة مواقف قيادة السلطة الفلسطينية، كما تجاوز "الشارع العربي" حينها، في تضامنه مع الانتفاضة، أزمة عدم مواقف الحكومات العربية. فالعبارة، التي تردّدت آنذاك، كانت: "إرفع رأسك يا أخي، فقد حان وقت الانتفاضة"!!.
ولا شكَّ أيضاً، أنَّ انتصار المقاومة اللبنانية في إجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن لبنان في مايو/أيار 2000، أوجد أيضاً خياراً من نوعٍ آخر لأسلوب التفاوض، وحرَّك نبض الشارع العربي عموماً، والفلسطينيين في الأراضي المحتلّة خصوصاً.
فأمام الأمَّة العربية خياراتٌ عديدة غير "خيار التفاوض بأيِّ ثمن" وهي خياراتٌ مستوحاة من تاريخها القريب، إنْ في إعادة بناء التضامن العربي الفعّال الذي أنجز نصراً في "حرب أكتوبر"، أو في خيار المقاومة الشاملة للاحتلال، والذي تأسّست من أجله أصلاً "منظمّة التحرير الفلسطينية"!.
0 comments:
إرسال تعليق