مازال قطّاعٌ واسعٌ في عالمنا العربي يعتقد ، أنّ الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة الأعظم التي مازالت تسيطرعلى العالم ، وان أمريكا هي الدولة الأولى في العالم التي في يديهِا مفاتيحُ السلم والأمن الدوليين ، وبين دفتيها يكمن مخزونٌ استراتيجيّ حيوي يؤهلها من إرساء سيطرتها على العالم ، وتنظيم توازناته المختلفة ، واستيعاب اتجاهاته المتناقضة . هذا الإعتقاد لا ينطبق على قطاعٍ من الإعلاميين ، وأصحاب المواقف والآراء والمفكرين فحسب ، بل يشمل ، مع الأسف ، رؤساءَ دول عربية ، وكثيراً من قادة أحزاب وفصائل ومنظمات اجتماعية وسياسية مختلفة ، ويأتي في المقدمة منهم طاقم المفاوضين الفلسطينيين برئاسة محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية ، ومن خلفه زمرة من المستشارين والمطبلين والمزمرين عبرَ منابرهم الإعلامية ، الذين ما فتئوا يتحدثوا عن الحلول السياسة المتاحة والممكنة ، التي من شأنها أن تحافظ على الرؤية الوطنية للقضية الفلسطينية ، وهم الذين يعتقدون أن نظرتهم البراغمتية للأمور هي التي قادتهم الى هذه المُحصلة السياسية !
بينما ، في الحقيقة ، الوعي السياسي الذي يتمتع فيه الشعب الفلسطيني ، بحكم تجربته النضالية المديدة والمريرة ، جعلته على درجة عالية من حساسية الإدراك والوعي والمعرفة في مجريات السياسة المحلية والدولية وتلقباتهما ، ممّا يؤهله لتجاوزمثل تلك الطبقة الفلسطينية الحاكمة والمفاوضة ، التي لا تجيد من فنِ التفاوض إلاّ التنازل والتفريط . هذا الفريق المفاوض ينطبق عليه قول مظفر النواب " انّ النهر يظلُ لمجراه أميناً " لا يتبدل ولا يتغير ، يمضي تحت سقف لا يحيد عنه ، رغم تبدل المعطيات والظروف واختلال قوة الدول وتبدل سياساتها ، سوف يظل يعتبر الولايات المتحدة الأمريكية الجهة الوحيدة التي تمتلك تسعاً وتسعين بالمئة من أوراق الحل ، كما كان يقول صاحب كامب ديفيد الأولى أنور السادات .
لا يختلف اثنان على أن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم ، ليست بالقدر الذي كانت عليه بالأمس ، وان الرئيس أوباما هو اليوم في أضعف حالاته ، وفقاً لإستطلاعات الرأي الأمريكي ، في الفترة القريبة الماضية ، والإدارة الأمريكية تعيش، منذ رحيل الإدارة السابقة " المحافظين الجدد" برئاسة جورج بوش الإبن ، تداعيات تلك الفترة السوداء القاسية والمريرة ، وما حملته من أزمات ومصائب ! وتعبرُ الآن مرحلة عكرةً ومتوترة ، تختلطُ فيها الاتجاهات ، وتتعاظم عليها الأزمات .
تشير التقديرات الى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ، وهي تنتقل من جبهة حربٍ الى أخرى ، تجرُ ذيول هزائمها من العراق الى أفغانستان ، وأنّ الرئيس أوباما ، على ضوء الإنهيارات التي أصابت إدارته ، يحاول تحقيق مكاسب تاريخية ، وانتصارات سياسية على حساب الفلسطينيين لصالح حكومة نتنياهو ، قد يستطيع أن يحققَ من ورائها عودة موفورة للحزب الديمقراطي في الإنتخابابات النصفية للكونغرس الأمريكي ، من أجل ذلك استنفر عدداً من كبار المتخصصين ورؤساء مراكز الأبحاث الأمريكية في حلقة التواصل بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية ، ويأتي على رأسهم اليهودي" دينس روس " المبعوث الأمريكي السابق ، ورئيس معهد واشنطن الأمريكي المتخصص بالنزاع في الشرق ، لاعطاء انطباع إعلامي للأوساط الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية بأن الإدارة الأمريكية والرئيس أوباما منحازٌ للجانب الإسرائيلي بكلّ ترتيباته السابقة .
على الجانب الآخر ، استوعب نتنياهو ، على ما يبدو ، الحالة المتردية للولايات المتحدة الأمريكية ، فرفضَ الإنصياع لتوجيهات الرئيس الأمريكي أوباما ، بل تمرّد عليه ! وفرض عليه التراجع عن وعوده التي قدمها للفلسطينيين بشأن تجميد الإستيطان ، ريثما تنتهي المفاوضات .
تنطلق المباحثات المباشرة في واشنطن ، بوقت تسود فيهّ حالة إنكسار لمصداقية السلطة الفلسطينية ، وانحدارلهيبتها ، التي تضع نصبَ عينيها دائماً رغبات الولايات المتحدة الأمريكية ، أولاً وقبل أيّ اعتبار آخر ، رغم أن أبي مازن وفريقه يعرفُ مسبقاً بأن المفاوضات المباشرة التي انطلقت اليوم رسمياً ، في الثاني من أيلول سبتمبر ، في واشطن ، لم تفضِ الى أيةِ نتائج تُذكر ، بل انّ المفاوضات ستكون فقط من أجل المفاوضات ! الهدف منها ؛ إعطاء إنطباعاً مفاده " أنّ اسرائيل المحاصرة سياسياً وأخلاقياً وحتى إقتصادياً من قبل شعوب العالم ، تدخل الساحة الدولية من جديد دون وجود شوائب ، بل تنسجم بعلاقاتٍ طيبةٍ مع الفلسطينيين ، بدليل اللقاءات والحوارات المتواصلة بين الجانبين " الفلسطيني والإسرائيلي ". أي فيما سوف يكون .
أبو مازن وطاقمه المفاوض سمعَ وأطاعَ ، ومنذُ أن أبدى موافقته على استئناف الحوار المباشر مع حكومة نتنياهو ، بدأ القرار الفلسطيني يعبرُ درجة عالية من التجاذبات الداخلية ، وخاصة مع الجهتين الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب وقوى اليسار الفلسطيني ، بسبب فقدان الإتجاه الواضح ، وانكسار الإلتزام بالمبادئ السياسية ، وبسبب تدخلات وضغوط اقليمية ودولية تذهب باتجاه الإطاحة بالرؤية الوطنية الفلسطينية التي تتحمل وزرها ، في هذه المرحلة التاريخية ، حركة فتح في الضفة المحتلة .
الفصائل الفلسطينية ترى أن الإنسياق وراء المفاوضات المباشرة دون مرجعيات وطنية فلسطينية ، وتحت سقف حكومة المستوطنين ، من الخطورة بمكان ما يجعلها تطيح بالمشروع الوطني الفلسطيني ! وقد بدا التململ والحراك السياسي الفلسطيني يعبّر عن نفسه بحملات التواقيع الواسعة ، وبعقد المؤتمرات الوطنية حتى في داخل رام الله ،عاصمة المفاوضين الفلسطينيين ، وعبرَ المظاهرات الواسعة ، وحركة الضغط والحراك السياسي التي تتسع يوماً بعد يوم ، الى أن وصل مستوى تعبيرها الى تصفية عدد من المستوطنين الإسرائيليين على يدّ حركة حماس ، وقد نشهد في الأيام القادمة استئنافاً لعمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة المحتلة ، كردٍ على تلك الحالة البائسة التي وصلت اليها السلطة الفلسطينية .
نتنياهو أدرك المتغيرات ، وعرف أنّ السلطة الفلسطينية محكومة ببقائها ، في الواقع ، بقدرة فعاليتها
على التلاؤم مع متطلبات الراعي الأمريكي ، وفقاً لرؤيتها البائسة ، وبحكم مصالحها المتجزرة مع الإسرائيليين ، وارتباط مجموعات من مكوناتها بشبكة تحالفات مع دول عربية ، تحكمها سياسات التعايش والإنسجام مع الإسرائيليين والأمريكان ، وليس من منطلقات وطنية .
صائب عريقات يستقبل بالأحضان والقبل المبعوث الأمريكي جورج ميتشل ، دون أن يدري أن ميتشل في الشرق الأوسط غيره الذي كان في إيرلندا 1998 ، كان في إيرلندا يمثل الرئيس الأمريكي كلنتون ، وكانت قوته مستمدة من الولايات المتحدة الأمريكية المنتصرة في الحرب الباردة ، أما الآن الولايات المتحدة الأمريكية تجرُ ذيول هزيمتها من العراق ، وتعدّ قتلاها في أفغانستان ، وترمم أوضاعها الإقتصادية لوقف الإنهيار الإقتصادي الذي يهدد مستقبلها . هذا ما ينبغي تقديره في ميزان التقيم الإستراتيجي ..
كاتب فلسطيني مقيم في السويد
0 comments:
إرسال تعليق