دائمًا ما كان الصراع السياسي صراعًا ثقافيًا يعكس أفكار وبرامج ومشاريع الأطراف المتواجهة، وعلى هذا الصراع الثقافي يتوقف نجاح هذا الطرف أو ذاك في الصراع السياسي، وبالتالي تحقيق فكره، وتطبيق برنامجه، وتنفيد مشروعه الذي يؤهله لحمل شعلة الإصلاح والتغيير. في الصراع السياسي الفلسطيني لا توجد أطراف متواجهة، منذ عمان وبيروت وتونس وحتى زمن الدولتين تحت الاحتلال، دولة الأوسلويين ودولة الإخوان المسلمين، وإنما أطراف متوافقة تحت ذريعة تحرير الأرض، لهذا لم يكن هناك بالأمس أي فرق يذكر في العمل السياسي بين فتح والشعبية والديمقراطية والحزب الشيوعي... إلى آخره، واليوم مع حماس وباقي الإسلاميين، بعد أن ألغي الصراع الثقافي بقرار "حزبي" لصالح وهم التحرير. وفي أشد حالات التراجع هولاً التي نعيشها اليوم (الانقسام) ينكفئ كل طرف على نفسه، وينتج ثقافته الخاصة به أو أيديولوجياه، ويتحول الصراع الثقافي إلى تراشق أيديولوجي بالمعيار الخفيف أو بالمعيار الثقيل حسب المصالح التي تخدم مشروع هذا الطرف أو ذاك في الحكم والسيطرة والإثراء وقد غاب مشروع التحرير الأساسي، فتقف الأمور عند هذا الحد بعد أن توقفت الثقافة عن القيام بفعلها الخلاق كمحرك للسياسة.
قبل قيام سلطة أوسلو، بمعنى في ظل مؤسسات سلطة منظمة التحرير في المنفى، كان هناك المثقف ابن الثقافة السائدة ثقافة التوافق، أو المثقف الملقى على الهامش ابن الثقافة النقيض ثقافة التواجه، وبعد قيام سلطة أوسلو بقي وضع المثقف في نمطيه على حاله، الذي تغير مع قيام الدولتين تحت الاحتلال، هذا التمحور الثنائي لخطين لم يتوقف كلاهما عن تصدير كل الأدبيات التي قالت في المحتل ما قالت منذ 48، إضافة إلى الأدبيات الخاصة بهما في الدفاع عن مصالحهما ولا أقول مشروعيهما لأن لا مشروع لهما، مصالحهما في السيطرة الأخطبوطية والحكم الاستبدادي والإثراء الغير المشروع، والأقلام التي ستنبري للدفاع عن هذين الطرفين كثيرة، فهي فرصة لا تعوض لبيع الكلمة بالثمن الذي تريده هذه الأقلام، من أجل مهمة وحيدة واحدة ألا وهي التبرير لكل شيء، حتى الحلم بالحبيبة سيعتمد التبرير، حتى الصعود على سلالم القمر سيعتمد التبرير، حتى تعريب (على عكس تهويد) كل القدس الغربية سيعتمد التبرير والتسويغ والتأييد.
إذن الملقى من المثقفين الفلسطينيين على الهامش هو ملقى ليس لأنه في المنفى بعيدًا عن سلطتي الضفة والقطاع، وإنما لأنه يكتب من خارج الثقافة السائدة، أينما كان موقعه في المنفى أو في الأراضي المحكومة صوريًا، ليس لأنه يناهض الاحتلال، وإنما لأنه يناهض سلطتين تحت الاحتلال هما أشد وطأة عندما يعتمد كل وجودهما على تبرير هذا الوجود وإثباته لا على نفي الاحتلال والتخلص منه، لهذا يتم نفيه، وعزله، وتهميشه، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يُضَيّق الخناق عليه، ويُلقى به هو وأعماله داخل حصار ماكارثي له غايتان.
الغاية الأولى على المستوى الثقافي: مطاردة كل كلمة مبدعة حرة تقول ما تود قوله دون أن يعبأ صاحبها بالنتائج، والخوف السلطوي من الكلمة المبدعة الحرة هنا نابع من العودة بالثقافة إلى حلبة الصراع السياسي، ومن أن تلعب الثقافة دورها الحقيقي التاريخي في الإصلاح والتغيير، هذا الدور الذي سبق وتمت مصادرته. ولكن من ناحية أخرى، هناك خوف الكاتب غير المحسوب على السلطة من عصا السلطة، فيختار الصمت، أو يقلب سترته، أو يصادر حريته في الكتابة، أو يوهم نفسه في السلطة بما لا يراه أحد سواه، فيرتاح (هل يريح ضميره؟)، ويجد التبرير الذي يرضيه.
الغاية الثانية على المستوى السياسي: مطاردة كل من يتعاطف مع الكلام "الخطير"، ويريد العمل به، وفي الوقت ذاته كل الخصوم السياسيين من خارج هذا الكلام حتى الذين لم يسمعوا به، وليست لهم أية علاقة بالنقد كما أفهمه أنا أو بالتقدم أو بالثورة أو بالتحرير، فقط لمجرد أنهم خصوم سياسيون (هذا ما يحصل في قطاع غزة ضد الفتحويين وكل المعارضين الآخرين، وهذا ما يحصل في الضفة ضد الحماسويين وكل المعارضين الآخرين)، وهنا يتم تعميم القمع، وينتهي الاحتلال تحت مفهومه النيتشوي الإسرائيلي لتبدأ الدولة تحت مفهومها الماكارثي الستاليني.
نتيجة لكل ما سبق، سيدفع الكاتب المهمش المعزول المنفي المطارد المحاصر في المنفى أو في الدولتين تحت الاحتلال الثمن باهظًا، تعتيم مطلق على أعماله ومقالاته وحتى هلوساته، لا نشر لهذه الأعمال والمقالات والهلوسات، ولا حديث عنها، ولا إشارة إليها، وكأن صاحبها قد مات بالفعل. والتهميش هذا، تحت كل دواله ومدلولاته، أقسى بكثير من حجب المال، والتهشيم المعنوي. وبالمقابل، يشاع سُما كُتّاب من الدرجة العاشرة، ويتم ترشيحهم لجائزة نوبل، بينما كل ما في الأمر أن تجار الكلمة من كتاب الثقافة السائدة يقومون فيما بينهم بلعبة هزلية منفضحة نعرف جيدًا خباياها.
وبالمقابل، مع انتشار التكنولوجيا الجديدة، يدور الدولاب، وينقلب السحر على الساحر، فيحطم المثقف الحر جدران القمع والحصار والتهميش، وهو يرى كتاباته تذهب إلى قراء المعمورة أجمعين، وبفضل وسائل الاتصال الحديثة، يسترد دوره الخلاق في الصراع السياسي، ويساهم في صنع الثورات كما يجري اليوم في فصل "الربيع العربي".
مفكر وكاتب فلسطيني مقيم في باريس
أستاذ سابق في السوربون
0 comments:
إرسال تعليق