........أكثر من مرة تداعت القوى السياسية والمجتمعية إلى عقد اجتماعات ولقاءات وإقامة مهرجانات "كرنفالات" احتفالية وصوغ مواثيق شرف،لها علاقة بحرمة الدم الفلسطيني،وإثارة الفتن والنعرات العشائرية والقبلية والجهوية والطائفية،وما يستتبعها من اقتتال واحتراب عشائري مدمر يتجاوز حرمة الدم والوطن والانتماء والدين والقومية،وشُكلت أجسام ومؤسسات لتلك الغايات والأهداف،ولكن تلك المواثيق لم تصمد على أرض الواقع،وحتى لا نتفاجىء فإن من يساهمون في صوغ والتوقيع على تلك المواثيق أول من يبادرون إلى خرقها عندما تمس بمصالحهم أو قبائلهم أو أحزابهم.
والجميع يتساءل هل هناك من جذر لما يحصل في السياسة والمجتمع الفلسطينيتين؟، والإجابة القطعية هي نعم بالأساس،حيث أن هناك خلل بنيوي وقيمي وأخلاقي وثقافي وتربوي في هذا الجانب،فنحن مجتمعات تربت على الثقافة الأبوية وأولي الأمر ظُلاماً أو مظلومين،فلكم على سبيل المثال لا الحصر،ما تسمعونه من إفتاءات تصدر عن رأس المؤسسة الدينية،حيث تحرم التظاهر للجماهير للمطالبة بحقوقها ورفع حالة الظلم عنها،أو أنها تحرض على الفتنة الطائفية وغيرها،وتغلف ذلك بمصلحة الوطن والدين.
وبالعودة إلى عنوان الموضوع فمواثيق الشرف والخطوط الحمراء والتي تحرم دم المسلم على المسلم أو العربي على العربي،جرى ويجري اختراقها ودوسها،بل وشكلت عملية اختراقها وتجاوزها علامة فاصلة في التاريخ العربي والإسلامي بانقسامه الى سنة وشيعة،والجميع منا يذكر واقعة الجمل ومعركة صفين،وهدم الحجاج للكعبة على عبد الله بن الزبير وقتله وصلبه ومن ثم مدى بشاعة الحقد والتنكيل الذي مارسه العباسيين بحق الخلفاء الأمويين وكل من له صلة او علاقة بهم،والتي وصلت حد إخراج جثث بعض الخلفاء الأمويين من القبور وجلدها،وفي التاريخ الحديث ما يحدث في العراق المحتل،وما يمارس بحق ثورات الشعوب العربية من قمع وتنكيل وقتل خير شاهد ودليل على ذلك.
نحن ندرك جيداً أن الاحتلال سعى ويسعى دائماً إلى إبقاء الشعب الفلسطيني في إطار حدود التوزيعات القبلية والطائفية،والتعامل معه على أساس مجموعات سكانية،وبالتالي يعمل المستحيل من أجل منع قيام دولة فلسطينية،وكذلك ندرك ان هناك نقص في مفهوم المواطنة،مع وجود عصبيات ما قبل وطنية،أي عصبيات طائفية ومذهبية وأثنية وقبلية،ولكن ما هو غير مدرك أنه مع مجيء اوسلو وقيام سلطة فلسطينية محدودة ومقيدة الصلاحيات، فإن بنية وطبيعة النظام السياسي القائم ووظيفته،لم تأتي لتعزيز المواطنة والانتماء الوطني،بل هذا النظام ساهم ودعم وأعلى شان الانتماءات العشائرية والقبلية والجهوية والحزبية على الانتماءات الوطنية،وبالتالي تعززت سلطة المليشيات القبلية والعشائرية والحزبية،وهذا ساهم الى حد كبير في تفتيت وتشظية المجتمع الفلسطيني،وأخذت التركيبة الاجتماعية في التفكك والتحلل،وأسهم الانقسام السياسي في تعزيز وتعمق هذا التفكك عمودياً وأفقياً،وإذا ما أضفنا الى ذلك تخلف المواريث الاجتماعية والجهل وغياب الوعي والثقافة والتربية الوطنية القاعدية المنطلقة من البيت والمتضمنة في منهاج التدريس الى قمة الهرم السياسي والديني والاجتماعي والقضائي والتشريعي،فإننا ندرك تماماً وفي ظل هكذا نظام أو سلطة يغيب فيها القانون والقضاء لمصلحة عشائر وقبائل أو أحزاب،تجد لها حواضن في كل مفاصل السلطة السياسية وتشكيلاتها،فإن مسألة قيام مجتمع مدني تعددي،تحترم وتصان فيه الكرامات والحريات وتداول فيه السلطة ويسود فيه القانون والمساءلة والمحاسبة،تصبح على درجة عالية من الصعوبة،وخصوصاً إذا ما أضفنا إلى ذلك دور الاحتلال في هذا الجانب،المعني دائماً باستمرار حالة الانقسام والتفكك المجتمعي فلسطينياً،بل يلعب الدور الأساس في تغذية كل ما من شأنه طحن وتدمير الإنسان والمشروع الوطني الفلسطيني.
يستحيل أن تبني مجتمع مدني وبمواطنة كاملة وسلم أهلي،في ظل مفاهيم العشائرية والقبلية،وبالتالي تسييد هذه المفاهيم يلغي القانون والمساءلة والمحاسبة ويشيع مظاهر البلطجة والزعرنة والاستقواء والاستزلام واخذ القانون باليد،وبالتالي أي مشروع أو ميثاق بحاجة الى حواضن وحوامل ومرجعيات وأليات وأدوات تنفيذ وسلطة تحاسب وتساءل،أما ترك الحبل على غاربه،فهذا معناه شيوع حالة من الفلتان في كل مظاهر وتجليات الحياة الاجتماعية.
وأن أي حديث عن تشكيلات لأجسام او مجالس عشائرية،بالضرورة أن يكون ذلك مرتبط بشكل أساس برؤيا وطنية شاملة،رؤيا تستعين بهذه المجالس او التشكيلات لخدمة الهدف الوطني العام،وبما يحد ويمنع من تكريس الجهوية والعشائرية والقبلية والطائفية في المجتمع،وهذا بحاجة الى عملية توعية وتثقيف وتربية وإرادة ورؤيا،وهنا يأتي دور النخب من رجال الفكر والثقافة والسياسة والتربية المنحازين الى الوطن أولاً قبل أي شيء آخر.
علينا أن نعترف بأن الاحتلال عامل أساسي في منع حدوث تحولات ديمقراطية في المجتمع الفلسطيني،ولكن أيضاً طبيعة النظام السياسي الفلسطيني القائم ووظيفته،وعدم إنجاز مرحلة التحرر الوطني،هي كذلك عائق أمام تلك التحولات،وأيضاً نحن خطينا بفعل الاحتلال خطوات متأخرة نحو الحداثة الاجتماعية والثقافية والسياسية.
إن سيادة ثقافة الأنا والفئوية المقيته وتغليب مصالح فئوية وخاصة على المصالح العليا للشعب الفلسطيني،من شأن ذلك دفع الأمور فلسطينياً نحو عدم احترام أية مواثيق أو خطوط حمراء،وما ينطبق على المواثيق والمبنى العشائري،ينطبق على المواثيق والمبنى السياسي،حيث نلحظ التفرد في اتخاذ القرارات السياسية المتعلقة بمصير الشعب الفلسطيني،وهذا ما لمسناه في تجاوز قرارات المؤسسات الشرعية الفلسطينية أكثر من مرة،وأيضاً الخطوط الحمراء المتمثلة باستباحة الدم الفلسطيني،انتهكت وديست أكثر من مرة على مذبح المصالح الفئوية،هذا ما جرى في الاقتتال الفلسطيني- الفلسطيني عام 1983،تشكيل جماعة (فتح الانتفاضة) وخروجها عن حركة فتح،ما قامت به حركة حماس من حسم عسكري في قطاع غزة وغير ذلك من اقتتال وتصفيات على خلفية المصالح والكراسي.
إن المواثيق والخطوط الحمراء ستبقى تنتهك وتداس،ما دامت العقليات الحاكمة ممسكة بفئويتها وادعائها بامتلاك الحقيقة المطلقة،وغير قادرة على التعايش مع الآخر والانفتاح على الثقافات الإنسانية الأخرى،وحتى تحترم المواثيق والخطوط الحمراء،بالضرورة العمل على إعادة صوغ الدستور،وإطلاق الحريات،كحرية الإعلام والتظاهر وحق تشكيل الأحزاب،والعمل على تغيير الإدراكات الشعبية باتجاه تكريس ثقافة تأسس على المواطنة،واحترام حرية الرأي،والتسامح مع المختلف،والقبول بالتعددية والتنوع،والارتقاء بالسلوكيات والقيم الفردية.
0 comments:
إرسال تعليق