أتت كلمة الرئيس السوري بشار الأسد أمام مجلس الوزراء المكلف لتحمل العديد من الافكار والتوجيهات تحت عناوين الاصلاح، قدم خلالها الرئيس حزمة من الاصلاحات التي تمثل، كما ذكر في خطابه، أهم الشكاوي والاقتراحات التي تقدمت بها الوفود الشعبية التي توافدت مؤخرا إلى القصر الرئاسي من المحافظات السورية. تحدث الرئيس مطولا عن حزمة من الاصلاحات السياسية والادارية والتنموية والمالية، وتخلل حديثه توجيهات للوزارء في كيفية اتخاذ القرار والتواصل مع الاعلام ومشاركة المواطنين وتطوير الخطط وتنفيذها.
تطرق الأسد خلال حديثه عن الاصلاحات السياسية إلى قوانين التجنيس، ورفع حالة الطوارئ، وقانون الاحزاب، وقانون الادارة المحلية. وفي سياق الحديث عن الاصلاح الاداري تحدث الأسد عن أهمية تطوير طرائق عمل المؤسسات ودعا الوزارء إلى الابتعاد عن المركزية في العمل ومشاركة الموظفين في صنع القرار، وتفويض السلطة إليهم في مجالات تخصصهم، واعتماد الاتمتة في العمل الاداري لتسريع الخدمات. وتحدث عن البطالة والفساد والرشوة، فأكد أن الفساد "آفة الآفات ومصيبة المصائب." وقدم اقتراحات في كيفية التعامل مع البطالة داعيا الحكومة إلى اعتماد المشاريع الصغيرة والاهتمام بالقطاع الزراعي لتوفير فرص العمل لأن "الزراعة تمتص أياد كثيرة" وفق تعبيره.
وتطرق خطاب الرئيس السوري إلى الفساد ليؤكد أنه هدر للأخلاق ولإمكانيات البلد، مطالبا الوزراء بالبحث عن خطوات عملية لمكافحته. ودعا الاسد الوزراء إلى اعتماد الشفافية في الانفاق وتقليص الانفاق غير الضروري كالسفر والسيارات والابنية، كما اقترح أن يقوم الوزراء بتقديم بيانات بأملاكهم. وطالب بانتهاج الشفافية في المشاريع الحكومية الكبيرة مقترحا فض العروض المقدمة من المقاولين على شاشات التلفزيون، ربما بطريقة مشابهة لطريقة إعلان الفائزين بجوائر اليانصيب. واعترف الرئيس بانتشار الرشوة وبأنها تنهك المواطن، واتقرح إنشاء لجنة لمكافحة الفساد للتعامل مع الرشاوي والكسب غير المشروع.
ومع أهمية الافكار المقترحة وواقعية المشكالات المعروضة ، فإن خطاب الرئيس أظهر بوضوح أن أولويات التعاطي مع المشكلات لازال في إطار الدولة الابوية التسلطية التي تعتقد أنها قادرة على مقاربة المشكلات عبر تقديم الافكار والنصائح والارشادات. لقد نجح الخطاب الرئاسي في توصيف المشكلات التي تعاني منها البلاد في حين بقيت مقاربة هذه المشكلات والموقف الرئاسي من مسؤوليات الشعب ودور المواطن في تحقيق الاصلاح السياسي ضمن إطار الدولة الأبوية التي تعتقد أنها قادرة من خلال التوجيهات والاملاءات على تحقيق المطالب والرغبات. هنا تكمن المشكلة في الطرح الذي قدمه بشار الأسد في لقائه مع الحكومة السورية العتيدة، وهنا تكمن العقبة الكأداء لتجاوز حالة الاسئثار السلطوي التي تعاني منها البلاد، والوصول إلى آليات الانتقال إلى المتجمع السياسي الحر الذي يقوم على نموذج الدولة الديمقراطية.
تجاهل التوصيف الذي قدمه بشار الأسد للمشكلات التي تعصف بسوريا المصدر الأساسي للخلل الذي تعاني منه البلاد منذ عقود. لذلك أتت الحلول لتستفيض في مقاربتها لأعراض المشكلة ولتمر على جذورها ومكامنها مرور الكرام. الفساد السياسي والمالي، والمركزية الادارية والسلطوية، ناجمان أساسا عن حصر السلطة في رئاسة الجمهورية والمراكز الأمنية وعدم قدرة الوزراء منفردين ومجتمعين، ناهيك عن الموظفين، من اتخاذ القرارات بعيدا عن تدخل مراكز القوى والاجهزة الأمنية أو دون العودة إلى رئاسة الجمهورية. المركزية التي لاحظها الخطاب الرئاسي في العمل الوزاري لا تنحصر في الوزرات بل هي آفة الحياة السياسية في سوريا، وهي ناجمة عن غياب الحريات نتيجة لنظام الحزب الواحد المتسلط على مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، وناجمة كذلك عن غياب الحريات المدنية، بما فيها حرية الصحافة والتنظيم. فالحريات السياسية التي تطالب بها التحركات الشعبية هي أساس لأي حل يسعى إلى القضاء على المركزية سياسية، وقيام صحافة حرة وأحزاب مستقلة هما المدخل الصحيح لمكافحة الفساد بإلقاء الضوء على مراكزه وإتاحة المجال للقوى السياسية للمبادرة إلى مساءلة الفعاليات السياسية والنقابية والتجارية، وبالتالي الحيلولة دون استشراء الفساد في مواقع القرار والثروة. وهي عين المركزية التي حالت دون تصدي مجلس الشعب السوري لمسؤولياته التشريعية مهمته الأساسية في مساءلة أعضاء السلطة التنفيذية، وليتحول إلى هيئة تابعة لها وخاصعة لتوجيهاتها.
سوريا اليوم تحتاج إلى نورالحرية السياسية والمدنية لتمكين أبنائها من تسليط الضوء على أوكار وطاويط الفساد التي تمتص أموال الناس وثرواتهم، وإتاحة المجال للمبادرات الفردية والجمعية التي يقوم بها المواطنون الشرفاء بعيدا عن التوجيهات والاملاءات المركزية. سوريا اليوم تحتاج إلى وزارة يستمد وزراؤها مواقعهم من خيارات الناس وأصواتهم ليتمكنوا من التحرك واتخاذ القرارات بغطاء شعبي يسمح لهم بالتأثير والمبادرة، لا وزراء يرون في اختيارهم للمنصب الوزاري منحه يتكرم بها ولي النعمة، ويشعرون بالحاجة إلى أن يبارك رأس السلطة كل حركة من حركاتهم وكل قرار من قرارتهم.
إن ضعف الامكانيات وضياع الثروات واستشراء الفساد وجه لعملة زائفة وجهها الآخر التسلط وانعدام المسؤولية وغياب الحرية. فهل يعي النظام السوري ذلك قبل فوات الأوان ويبادر إلى تعديل الدستور واحترام الحريات واعتماد التعددية السياسية والقبول بالمعارضة المنتخبة رسميا على أنها شرط لقيام حياة سياسية ديمقراطية حرة، وركيزة ضرورية لمساءلة الحكومة والحيلولة دون فساد السياسيين واستئثار مراكز القوى بالقرار؟
د. لؤي صافي استاذ الدراسات الشرق أوسطية وناشط في الدفاع عن حقوق الجالية العربية والإسلامية في أمريكا، يرأس المجلس السوري الأمريكي
0 comments:
إرسال تعليق