تسكن في البال هموم الوطن ويعيش في وجداننا أطياف شهدائه الأبرار نضمّها بحنان فتذخّر بإستمرار نزعتنا للدفاع عن حريّتنا وسيادتنا وإستقلالنا وعزّتنا.
الوطن ترخص في سبيل حمايته الأرواح دون هدر، لأن النموّ والتطوّر يتغذّان من منجزات حيوات عزيزة وخصيبة، فبهداية الحكمة والفطنة وحسن التدبير تُفتح دروبٌ لا تقوى جهود عشوائيّة كثيفة على شقّها.
الموت ليس معبراً إلزامياً إلى الحياة إلاّ في حالات إستثنائيّة فلا يسترخصنّ أحد الحياة ويجعلنّ الموت نمط وجود فيستعبد الناس لتثبيت سلطانه.
تماشياً مع التأريخ الزمني نجتمع اليوم لنحيي ذكرى إستثنائيّة حيث الموت شكّل حالة عبور إلى حياة وطنية حرّة.
يوم إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ما ضاهى عصف الإنفجار الآثم إلاّ غضب اللبنانيين الذين إنطلقوا في مسيرة "ثورة الأرز" لرفع نير الظلم عن كاهلهم وقذف جحافله خارج الحدود.
لقد أحبّوه وقدّروه لريع خدماته البارّة تجاه وطنه وشعبه فيما ترصّده وكمن له و لمشروع إنهاض الوطن الحاقدون المستبدّون.
غمر بعطفه وعنايته وسخائه الناس فإستحقّ محبّتهم وثقتهم وكسب حظوة عند ربّه. بذل جهوداً خارقة وحقّق نجاحاً باهراً فشمخ بإنجازاته وتواضع بعلاقاته.
إعتاد على لذّة زرع البذار الطيّبة فكان الإنتاج خصيباً وحصاد غلّال الخير وفيراً. محبّته لوطنه وسعيه الدؤوب لإحلال السلام فيه ولإشباع طموح طلاّب العلم من أبنائه تلاقحت بمتعة إنجاز المشاريع العمرانية فإختلجت في وجدان رفيق الحريري نشوة تحقيق حلم إعادة بناء لبنان بشراً وحجراً ومؤسسات.
كرّس الرئيس الشهيد طاقاته وإمكاناته وعلاقاته لإحياء صيغة ودور لبنان كدولة سيدة حرة مستقلة وحاضرة عمرانية رائعة تليق بعزة وطموح أبنائها فكان فرحه عظيماً بتحقيق مراحل متتابعة من الأحلام واقعاً.
بإغتياله و كوكبة شهداء "ثورة الأرز" معه أراد الطغاة الإنقضاض على عصب الإباء و تثبيط عزائم الأحرار وتفكيك جسرهم البشري المكين.
إستلّ الجلاّدون سيف البطش ليشهد من تسوّل له نفسه التمرد كيف "تُقطف" رؤوس المتمردين والعاصين عليهم.
لكن حمم غضب الحريصين على الوطن ومحبّي الشهيد جمدت الدم في عروق السيّافين.
إذ أنّ التلاصق المتعدّد الأطياف المترامي الأطراف شكّل جسر الخلاص الذي تنكّب الوطن وإنتشله من براثن وأنياب الوحوش ليعيد اليه منابع الحرية والعزة المغتصبة بعد معاناة اختناق، وليطبّق سيادة الدستور والقوانين بعد طول تشويه وليقوّم سياق العدالة الشاملة بعد حرفها عن مسارها.
ذهول وارتباك ألمّا بقطّاع الرؤوس أمام مهابة موكب الإستقلال الوطني الحاشد الذي إنطلق في 14 آذار.
فهو مكمّل لصورة قوافل الشهداء التي افتدتنا في محطّات النضال الوطني عبر تاريخنا الحافل بالإنجازات العظيمة والمنخور بثغرات عدّة كبوات.
مؤسف حدوث إنتكاسات بعد جسامة التضحيات النفيسة المبذولة لبناء الدولة بسبب تألب "حرّاس ثورة" هبطت بكلّ "تجهيزاتها" على لبنان لتقيم دويلة قارضة لسلطات الدولة وليبدأ تضييق الحصارعلى حريّة التفكير والرأي من خلال "جلاميد نظريّات" دفقتها علينا "قرائح خبراء" الثورة "الميمونة" فصادرت وسلبت إرادة أنصارها.
هذا النهج الإستبدادي الجامح نحو التحكّم بكلّ أوجه الحياة الوطنيّة تجاوز نطاق الأتباع ليشمل "حلفاء" سِيقوا بالترهيب والترغيب والكيد وفقدان التوازن و الصواب ليشكّلوا غطاءً يموّه الطابع الفئويّ ثمّ ليستكمل حلقات الهيمنة بمحاولة فرض طقوسه على كلّ أبناء الوطن.
لقد بلغ هذا الإنتهاك حداً خطيراً بات يهدد الكيان ويمهّد للغور بالوطن من جديد في غياهب عهد الطغيان الذي جدّد معه "أركان الثورة" عقد الشراكة العضويّة.
معمودية الشهادة وتشابك مشاعر العنفوان والحرص على نقاوة وتجلّي صيغة لبنان الحضارية يحتّم جدل عزائم وجهود المؤمنين بتميّز وريادة هذا الوطن.
اللبنانيّون المتنوّرون متيقّظون للمكائد التي تحاك لإغتيال وطنهم و للإنقضاض على إنجازات القوى السيادية وإغتصاب ودائع لفيف شهداء الإستقلال المنتشل من براثن الوحوش.
لذا حفاظاً على تراثنا العريق المجبول بإكسير التضحيات والمضمّخ بالعزة و الكرامة والحرية وتحفيزاً لإزدهار مستقبلنا وأمانةً لتطلعاتنا ووفاءً لتوصيات شهدائنا الأبرار، لنشبك السواعد ونقف صفاً واحداً وسدا منيعاً لإسقاط تعديات الردة الرجعية ولنواكب مسار المحكمة الدولية للقبض على رؤوس شبكة الإجرام لننعم بالأمان.
لنستلهم مناقب وخصال الشهداء النبيلة لننقّي ضمائرنا، ولنستمدّ عوامل القوة وأسرار النجاح من مزاياهم ونقتدي بمبادراتهم الناجحة وأعمالهم الخيّرة.
حقق رفيق الحريري إنجازات عظيمة ونجاحاً باهراً في حياته فاستحق التقدير وربح قلوب الناس.
أما في استشهاده فحقق أروع وأثمن الإنجازات وهي إنبعاث الوحدة الوطنية في سبيل خلاص الوطن.
أليس بإنجاز جليل كهذا يدخل العظماء التاريخ ويُخلّدوا؟
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية
0 comments:
إرسال تعليق