هذا الجيل قاد نفسه بنفسه مزلزلاً بثورته ومعلماً آبائه " الأقدمين " من أجيالٍ سبقته معنى أن تكون للإنسان كرامــة ، اثبت للتاريخ بأنه جيل ٌ حديث يأبى العيش في جلباب أفكار الماضي ..
فآبائه الكبار ، طالما نظروا إليه باستخفافٍ وتعال ، تعالوا على مطلبه بالحرية لأنهم تشربوا " الذل " في العروق ونضحت به مسامات جلدهم ، حتى أزكمت رائحته عالمنا المتمدن كله الذي كان قبل زلزال مصر ينظر إلينا دونا عن بني البشـر .. !
نعم ، فرائحة الذل تجاه الظالمين الحاكمين .. دمى الإمبرياليــة ، شجعت طغيان الطغاة ورسخت خنوع من سبقوا هذا الجيل حتى استسلموا لإرادة الطغيان كبكمٍ عن قول كلمـة حقٍ بين يدي سلطانٍ جائر أو كصمٍ عن سماع ألف ألفِ قصيدةٍ من قصائد الحريــة ..
آباء أولين .. ممن استغشى العمى بصائرهم فما عادوا ليبصروا أي جحيمٍ هذا الذي حبس فيه الإنسان ، حتى أضحى من البديهي لدينا أن العربي ليس بإنسان ..
إنها المرة ُ الاولى التي نشاهدُ فيها " ثورة " لا يستطيع حتى الطغاة انفسهم أن يطعنوا بشرعيتها ..
ثورة ٌ تطيح بكل المفاهيم التي رسخها في أجيال الماضي الطغيان ، فللمرةِ الأولى نشهدُ ولادة العربي الإنسان ..
ثورةٌ أنزلت شباب هذا الجيل إلى شوارع مصــر افواجاً لتزلزل التاريخ ، لتعلن نهاية عصر الطغيان والتبعية ، ثورة ٌ سرمدية بلا نهاية إلى الحد الذي تشد فيه اعناق سبعة مليارات إنسان في العالم إلى شاشات التلفزيون غير مصدقةٍ ما تراه !
ثورةٌ كانها حلمٌ يفيض بين اصابع " الله " الذي كانت يدهُ فوق أيدي هؤلاء الفتيــة " بتوع النيو لوك " و الجينز والدردشة و الفيسبوك ..
هذا الجيل " الجميل " ، الطموحُ والمشاغب بإباء ، كان ينمو جنيناً في ظلمات الخيبة العربية ، هذه الرحم المتضايقة التي نفستها " المعلوماتية " والعولمة معلنة للإنسانية صرخة ولادتها ، هذه الصيحة المدوية التي تتردد في ارجاء التأريخ :
إننــا نحنُ اجيــال الغضــب ، وإننــا نحنُ الوارثون .. !
هذا الصدى " المرعب " الذي أخجل ذوي الاصوات الثورية من " الكبار " ان يكون متحدثاً باسمهم ، فافزع النخب موقضاً اياها من احلام القومية والإسلاموية واليسارية ، بل حتى الليبرالية التي فضحتها الثورة التي انطلقت من تونس ، فكشفت حقيقة اعتمادها على السياسات الغربية الداعمة لتتجاوز عزيمة هذا الجيل وإصراره ثقافة اجيال متعددة خلال القرون الماضيات ..
نعم ، إن هذا الجيل .. جاء بموعده مع القدر الذي استجاب لإرادة الحياة كما تمنى الشابي و عبد الناصر ، و ثورته ارعبت اميركا راعية الليبرالية ، والتي لم تفهم حتى اللحظة انى لهذا الجيل كل هذا العزم ؟
عادةُ اميركا أن تمول اي ثورةٍ برتقالية أو خضراء أو زرقاء ، لكن البيت الابيض في حيرته يتسائل :
من غير " الله " يمولُ ثورة لا ترعاها اميركا ؟
لقد افزعت صيحتهم من في القبور ، بل ضجت بها الاقدارُ مجادلــة :
اتجعلُ فيها من يخربُ ويشاغب ويسفك الدماء ...؟
قــال التــأريخُ : إني اعلمُ ما لا تعلمون ..!
-2-
يكادُ يخبرنا ما حدث في مصر ، وكأن عصر الأفكار السياسية انتهى ، نهاية عصر الأيديولوجيا كما يعرف في الغرب ، وحسب الماركسية كنظرية معرفة عامة وليست نظرية اقتصاد فقط ، فإن " التطور التقني " لم يطور وسائل الإنتاج التي تطور المجتمع ... بل طور وسائل " التواصل " التي فعلت في العالم الإسلامي ما لم تفعله في الغرب الذي ابتكرهــا ..!
لطالما كانت نظرة الغرب لنا نحن الشرقيين بأننا مجتمعات ماضوية يحركها الدين و الأيديولوجيا ، لكن ما حدث في مصـر لم يكن مدفوعاً بدينٍ أو تأثير سياسي لحزب معين وإنما قيم إنسانية عامة حركتها ظروف اقتصادية صعبة .
هزة كبرى في بدن الاقتصاد الكوني تقود ُ إلى تسونامي شعبي " تأريخي " غير مسبوق انطلقت شرارته من مواقع التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت ..
حراك جماهيري لم تحركه أيديولوجيا ، اعتمد في زخمه على " توقيت " الإعلان بالخروج إلى الشارع في وقت متزامن ، خصوصاً بعد صلاة " جمعة الغضب " ..
نحن أمام مشهد بحاجة إلى تأملٍ طويل ، فالغرب كشف قناعه " البرجماتي " للشعب المصري وللجماهير العربية ، قدمت لنا أميركا خدمة مجانية في تعاطيها مع أحداث تونس ومصر خصوصاً ، قامت بتثقيف النخب العربية المحايدة بان الغرب لا يريد ديمقراطية في العالم الإسلامي على حساب مصالحه ..!
فالديكتاتورية الممثلة بمبارك وفريقه العسكري البوليسي مؤيدة بشكل منقطع النظير من قبل غرفة عمليات البيت الأبيض التي أدارها اوباما وكذلك المشاورات المشتركة بين فرنسا وبريطانيا و ألمانيا والولايات المتحدة ، هذه كلها كشفت بما لا يقبل الشك عدم إنصات الغرب لهذه الثورة ، فعلت أميركا ما فعلته من توجيه لصدام في 1991 عبر الأقمار الصناعية لقمع انتفاضة الشعب العراقي ، وحسب معلومات من أوربا ذكرها راديو الشرق الأوسط فإن غرفة عمليات الجيش المصري كانت تراقب صور الأقمار الصناعية الإسرائيلية و الأمريكية عن حشود المتظاهرين ومناطق انطلاقتها ، فضلاً عن التنسيق غير المعلن الذي بات معروفا بين نظام مبارك و الإدارة الأمريكية لاحتواء " الأحداث " ... التي شغلها امن " إسرائيل " في المقام الأول وليست ثورة الشعب المصري ..
-3-
ما لا يستطيع احدٌ استيعابه هو أن حركة التاريخ بعد الأزمة المالية فرضت على العالم الإسلامي هذه العاصفة ..
التاريخ يتحول إلى مرحلة جديدة ، ما بعد الصحوة الإسلامية ، بدليل أن من أشعلوا هذا التغيير انطلقوا من قيم إنسانية بعيدة عن الدين ، مع إن استبعاد الإسلام كثقافة غير صحيح مما يجري الآن في مصر .
الثقافة الإسلامية نفسها " تتحول " إلى قيم جديدة ، قيم تؤسس لحاكمية الإنسان بدلاً من حاكمية " النص " التي تعرف في الأدبيات الأصولية الإسلاموية ( حاكمية الله ) ، وكما لاحظنا في " احد الشهداء " التغير النوعي في خطاب الاخوان المسلمين ، فباتوا على يقين مؤكد بأن الحاكمية اضحت للجماهير وليست للنصوص وتفسيراتها !
لا تزال الصورة ضبابية حول المشهد ، فالافكار الجديدة ، والقيم الجديدة لاتزال في طور التحول ..
لا تزال في مخاض الولادة لتاسيس عقدٍ اجتماعي ديني – علماني يقترب من النموذج التركي الحالي ربما ولا استطيع الجزم ، فالجماهير تعتمد على " انصهارها " الكلي ووحدة مطالبها رغم كل التناقضات بين اطياف وشرائحها كما شهدنا قداس الاحد وصلاة الغائب مجتمعة في تناغم غير معقول قبل 25 من يناير في بلد يحاول الغرب جره إلى صراعٍ ديني متعدد المستويات خصوصاً بعد حادثة كنيسة الاسكندرية ..
حالة الإنصهار هذه أفرزتها سمات المجتمع الشرقي على عكس المجتمع الغربي الذي يعتمد على " فردانية Personality" الرأي والمطالب ، الكلية Holistic هي السمة المميزة للمجتمع الشرقي ، بل الجوهرية التي يخشاها الكثير من الليبراليين دون وجه حقٍ كالعفيف الاخضر على سبيل المثال حين يسميها " ذوبان الفرد في الامة " ..
نعم ، هاهو الفرد يذوب كلياً في الامة ، لكنها الامة العصرية التي خلقها مناخ المعلوماتية والتواصل وليست امة التاريخ الماضوية ..!
المجتمع المصري كمجتمع شرقي عريق بدأ للتو بإنتاج نوع جديد من الديمقراطية يعتمد على هذه الكلية ، نوع جديد من الحاكمية تعقد مقاليدها بيد " الأمــة " ، و الأجيال الشابة الجديدة هي التي صنعت هذا التحول ، فما هي دلالة إنفصال هذه الأجيال عن الرؤى و الأفكار القديمة التي سادت في أجيال سبقتها ؟
ما معنى أن تعجز جماعة الإخوان ، في ظل الصحوة ، من أن تثير في الشارع ما أثاره جيل " سطحي " يهتم بتسريحة شعره و " النيو لوك " الأكثر من اهتمامه بالقراءة و الأفكار السياسية ؟
كيف يمكن لجيل الــ " شات " أو الدردشة و الفيسبوك والعاب الفيديو أن يزلزل نظاماً تدعمه الولايات المتحدة وإسرائيل وحلف النيتو مثل نظام مبارك .. ؟
-4-
هي إذن ولادة بكافة المعايير والمقاييس ، ولادة " منهج " سياسي جديد في العالم الإسلامي ، منهج يحمله جيل جديد ، جيل المعلوماتية والعولمة .
التاريخ سيكتب بأن جيل المعلوماتية في العالم الإسلامي هو حامل مشعل " الحضارة " الإسلامية الجديدة ..
كما سيكتب ايضاً بانه " جيل ما بعد الصحوة " ، فهو تربى في رحمها المظلم ، لكنه قرر شق فجره في عالمٍ جديد من الحرية السياسية والاجتماعية ستبقى عيوننا مشدودةً إليها لتخلق " عقلاً " جديداً في تاريخ البشرية وليس تاريخ الامــة فحسب ..
فالتيارات الإسلاموية لم تتجرأ حتى اليوم على تبني " الاستفاقة " التي فجرها هذا الجيل ، هي تدرك تماماً بان حبله السري انفصل عنها واعلن للتاريخ تميزه وفرادته ..!
فيوماً بعد آخر نرى أن حرية جديدة تولد من رحم الثقافة الإسلامية ، وليس أدل عليها من أؤلئك الإخوانيين الذين حلقوا اللحى في ميدان التحرير و أعلنوا للعالم عبر الفضائيات :
الشرعيــة هي الشعب .. وليس النص المقدس !
لم اسمع في حياتي أقدس من هذه الكلمات التي نطق بها متحدث شاب باسم الإخوان في ميدان التحرير أمام إحدى القنوات ، فشباب هذا الجيل منهم باتوا يدركون إن ما يحصل ولادة تاريخية لفكر جديد يتعالى فوق ثقافتهم وتدينهم ..!
ربما يظن البعض إنهم يجاملون حتى تتحقق مطالبهم ، لكن التاريخ يعلمنا أن غاية الحرية هي الإنسان ، والثورة الجماهيرية العربية التي انطلقت من جسد بوعزيزي المحترق قد أضاءت الدرب لأجيال جديدة ونظيفة الفكر ( فارغة ) تدرك من الحياة جانبها العملي وليس الجانب الإيديولوجي التنظيري ..
لم تسمع من يخبرها بخطبة الجمعة ، أو بيانات النضال بان الثورة جهاد أو حق إنساني ..
وكما قال الرفيـق جيفارا :
( إن الطريق مظلمة وحالكة ، فإذا لم نحترق أنت و أنا فمن سينير الطريق ..؟؟ )
فوجئ هذا الجيل بالبوعزيزي يحترق كشمعة تنير الطريق ، رأى هذا الجيل طريقه و أعلن ثورته ، فهذا الجيلُ ربما يهتم بما يرى أكثر مما يسمع ، يهتم بالاكشن والفيديو أكثر من ديباجة الإصطلاح المثقلة بالمعاني المتشعبة ..
ومشهد احتراق البوعزيزي والثوار الملثمين في تونس ربما كان المشهد السريالي البديع الذي حل محل الخطباء وذوي الأصوات الثورية ، هو مشهد تجسدت فيه كل معاني الحرية والرغبة في التحرر من القهر و " الظلمة " ..
لهذا السبب فهم هذا الجيل ما أراده البوعزيزي منهم أن يفعلوه بسهولة ، فهم " بتوع اكشن " ..!
نعم ، بهذه الصورة الثورية " الجديدة " أدرك هذا الجيل خلاصه وسينجح اليوم أو غدا مهما تآمر عليه الغرب ُ والطغاة ، فكونه جيلاً يؤمن بالأفعال لا بالأقوال يجعلنا مطمئنين على ثورته في مصر كثيراً ..
مباركٌ هذا الجيل .. ومباركة ٌ همته التي ستقودُ إلى غدٍ أفضل ..~
0 comments:
إرسال تعليق