كلنا تمنينا أن نكون مصريين قي ميدان التحرير، ساعة أزيل الفساد والذل عن كاهل الشعب المصري. تمنينا أن نكون جزء من الشعب المصري الذي أعاد يوم 25 كانون ثاني العرب إلى قلب التاريخ. قالوا إن "مصر ليست تونس" أجل، مصر ليست تونس، لأن مصر جعلت من تونس قانوناً عربيا تحرريا للقرن الحادي والعشرين.
ثورة تونس كانت الشرارة، ومصر كانت الوقود الذي جعل من الشرارة نيراناً لا تطفأ تشتعل في النفوس العربية، وتتفجر كالبراكين تحت عروش الفساد والذل والخنوع والإفقار وحرمان الشعب من حرية التعبير وحق المشاركة في إدارة شؤون وطنه وتطويره، وجعله نموذجاً يحتذى بين الدول والشعوب.
من اليوم، لم يعد التاريخ مجرد مساحة بلا حدود، شعب مصر أدخل للتاريخ فاصلاً هاماً، ما قبل ثورة 25 كانون الثاني 2011 وما بعد ثورة 25 كانون الثاني 2011،او ربما نؤرخ لحياتنا منذ اليوم ب: "السنة الاولى بعد الثورة" ،مثل التاريخ المسيحي، ما قبل الميلاد وما بعد الميلاد.
نحن امام عالم آخر مختلف، نفسيات أخرى مختلفة، مسؤوليات أخرى تجعل من الإنسان نسخة جديدة لدرجة أن الشخص لم يعد يعرف نفسه، ولا يعرف كيف صبر على الكابوس المرعب كل هذه السنوات الطوال.
ثورة مصر تذكرني بفترة زاهرة من تاريخ مصر، يوم أطلق جمال عبد الناصر تحديات أسطورية ضد السيطرة الاستعمارية بكل أشكالها.. وأعني الفترة الثورية التي أحدثت نهوضاً قومياً عربياً، بدءاً من كسر احتكار السلاح، الذي شكل نقلة نوعية في السياسة الدولية، ووصولاً إلى تأميم قناة السويس، محدثاً صفعة دولية غير مسبوقة للاستعمار القديم متمثلاً بالاستعمارين العجوزين، بريطانيا وفرنسا، فنسقوا العدوان الثلاثي مع إسرائيل، بهدف إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، ولكن الشعب المصري خرج وهو ينشد :" حنحارب....حنحارب... تحيا مصر...تحيا مصر" وقاتل بأظافره وأسنانه، فتحركت قوتان دوليتان، أمريكا اضطرت إلى رفض العدوان، بفهمها أن دور الاستعماريين العجوزين القديمين قد انتهى، ودورها الامبريالي قد بدأ، والاتحاد السوفيتي بفهمه أن دعم ثورة مصر يعني فتح المياه الدافئة أمام الدولة السوفياتية، وبدء مرحلة جديدة يحتل فيها الاتحاد السوفيتي دوراً مركزياً في مواجهة الامبريالية الأمريكية الصاعدة، فصدر الإنذار السوفيتي الشهير لفرنسا وبريطانيا بان الصواريخ السوفيتية موجهة نحو لندن وباريس لضربهما اذا لم يتوقف العدوان على مصر،فكانت نهاية الحرب العدوانية والتي تعتبر بدء نهاية الاستعمار القديم. وما هي إلا سنتين أو ثلاث سنوات وإذا بأفريقيا تتحرر دولها من الاستعمار، دوله وراء أخرى، لدرجة أن سنة 1969 باتت تعتبر سنة تحرر افريقيا.وهنا لا بد من التأكيد على دور مصر الهام في نصرة الشعوب الأفريقية وتحررها، ودعم مصر لثورة الجزائر التي انتصرت وحررت الجزائر من الاستعمار الفرنسي ، واطلقت ثورة اليمن الجنوبي ضد الاستعمار البريطاني وأحدثت تحولات عميقة في العالم العربي ومكانة وكرامة الشعوب العربية قاطبة.
وكانت الوحدة العربية.. الحلم الإنساني للشعوب العربية، وسقوط الحلف الاستعماري، حلف بغداد في ثورة 14 تموز العراقية، وهو الحلف الذي أنشأه الاستعمار القديم بين دول عميلة تضم العراق والأردن وتركيا وباكستان وبريطانيا وغيرها تنفذ مؤامراته، بهدف إجهاض تحرر المنطقة العربية وشعوب الشرق الأوسط، وبدأت معركة بناء السد العالي...
كنا نقف أثناء خطابات عبد الناصر في الشوارع، أمام المقاهي، للاستماع إلى خطابات عبد الناصر، مما يذكرني بتسمرنا أمام أجهزة التلفاز، ونحن بحالة توتر وقلوبنا تتسارع دقاتها، نشعر بالغيرة لأننا لسنا في ميدان التحرير، نبكي لكل قطرة دم تسفك، وأملنا يتصاعد بقدرة شعوبنا على انجاز أهم ثورة عربية في التاريخ الحديث، ولأول مره نتمنى أن نكون مصريين، لنهتف، كما هتفنا عام 1956 : "تحيا مصر .... تحيا مصر!!".
لقد أجهضت ثورة الضباط الأحرار، لأسباب عديدة ليست مجال بحثها هنا، بعضها أخطاء التجربة وأبرزها العداء الاستعماري والعربي الرجعي والتآمر الإسرائيلي... ولكنها كانت تجربة هامة في التاريخ العربي الحديث،... فقدت طابعها التحرري والنهضوي منذ غاب جمال عبد الناصر، في وقت كانت الشعوب العربية بأمس الحاجة إليه. وساد الفساد السلطوي والقمع وسلب الحريات والإفقار والتلاعب بأموال الشعب ومصائره، والأبرز، تحولت مصر من قائدة النضال العربي،وطليعة القوى التحررية في العالم ، إلى قائدة التهاون بالكرامة العربية، من دولة تنطلق نحو تطوير اقتصادها، على نسق بناء السد العالي، إلى دولة يسودها نهب الثروات من النظام الديكتاتوري القمعي الفاسد، من رأسه إلى أصغر مسؤول وزاري. دوله يعيش 85% من شعبها تحت خط الفقر،دولة 3.5% من قططها السمان تملك 97% من ناتجها القومي. دولة "جزمه الوزير تساوي معاش عاملين في شهر عمل" دوله "معاش العامل لا يساوي أكثر من ثمن 4 كيلو لحمه" دوله يتظاهر مواطن وهو يحمل شعاراً يدمي القلب "عاوز آكل لحمه" دولة تسود الأمية ملايين المواطنين، دولة تصل البطالة الرسمية فيها إلى 25% والمخفي أعظم. دوله يتخلف فيها التعليم، بعد أن كانت مصر منارة علمية، دولة تهرب أحسن عقولها إلى أوروبا وأمريكا بحثاً عن مستقبل وعمل، دولة لا شيء يحرك النظام المشغول بسرقة مصر...
صعقت من الأرقام التي تتحدث عن فساد الوزراء السابقين وسرقاتهم ودور رجال الأعمال المقربين من السلطة وحظهم في النهب غير المشروع.
انتقال السلطة ليس سهلاً، ما أنجزته ثورة 25 كانون ثاني سيبقى مهدداً بالخطر، إذا لم تقم مؤسسات وأحزاب تراقب وتطالب وتنسق مع الجماهير..لا بد من رقابة جماهيرية متواصلة حتى لا تضيع الثورة ومطالبها.
الثورة حققت انتصاراً عظيماً بفتح أبواب التاريخ العربي عامة والمصري خاصة، أمام سجل جديد، ولكن الثورة يجب أن تظل ساهرة ويقظة حتى تنفيذ كل مطالبها، بتشكيل دستور جديد، وبرلمان جديد، وحياة حزبية نظيفة، ونظام دولة الهيئات المستقلة والمراقبة،واستقلال القضاء ، والأهم بدء مشروع أعادة مصر إلى مكانتها الدولية والعربية والشرق أوسطيه، ليس كقوة عسكرية فقط، أنما كقوة سياسية، وقوة اقتصادية وقوة علمية.. والأهم ان تعود مصر قوة مقررة لا يجرؤ على تجاهلها أحد.
عاشت مصر...عاشت ثورة مصر والتي جعلت كل العالم العربي يتمنى الانتساب إلى مصر!!!
نبيل عودة - nabiloudeh@gmail.com
www.almsaa.net
0 comments:
إرسال تعليق