السفر الانساني والكتابة الوجودية/ زهير الخويلدي

" يا بن آدم أحدث سفرا، أحدث لك رزقا"
من بديهيات الأمور بالنسبة الى الانسان أنه في حالة سفر دائم وأنه كائن مسافر على الدوام ينهي رحلة ليبدأ رحلة أخرى على التو ولذلك عرف الانسان على أنه عابر سبيل وانه مهاجر وغريب وباحث وطالب ومستطلع وناظر ومعتبر ومتجول وجوال.
لكن الغريب أنه ليس هناك سفر واحد بل عدة أسفار ولا كائن بشري واحد لم يعش تجربة السفر بما في ذلك المتوحد، فالميلاد سفر والوفاة سفر أبدي والدراسة سفر والعمل سفر والحب سفر والمسؤولية الاجتماعية سفر والزواج سفر والانتماء سفر والنضال سفر والثورة سفر. هناك السفر المادي عن طريق الجسم وفي المكان وهناك السفر الروحي عن طريق النفس وفي الزمان وهناك السفر الافتراضي عن طريق الخيال والابداع.
لكن لماذا يسافر الانسان في الحياة؟ هل هو مضطر أم مفضل؟ وما سر عشقه للسفر؟ هل يسافر الانسان من أجل الترويح عن النفس أم من أجل طلب العلم والفضول المعرفي؟ وهل يسافر من أجل الرزق أم لكي يكتسب الشجاعة والارتقاء الوجودي؟ وكيف يمكن أن يتحول السفر الى تجربة يزهر من خلالها فعل الكتابة؟ والى مدى تكون الكتابة نفسها هي سفر؟
السفر من أجل الرزق:
اذا ضاق الحال وقل الطعام وانسدت الأبواب أمامه يضرب الانسان في الأرض ويهاجر باحثا عن قوته ويغادر ارض المولد نحو موطن الشغل ويكد من أجل توفير لقمة العيش.
وتسمى هذه الظاهرة نزوحا اذا كانت من الريف الى المدينة وهجرة اذا كانت من دولة نامية الى دولة متقدمة وفي الماضي كانت الجماعات تنتقل في البادية بخيامها ومواشيها بحثا عن الماء والكلأ وظلت هذه الظاهرة في أشكال جديدة مثل العمل الموسمي وهو انتقال جماعي.
السفر من أجل العلم:
اذا قل الدرس وأغلقت المعاهد وفقد العلماء وضعف حال العلم فإن الطالب عنه يبحث عنه ويغادر الى الشرق اذا كان يوجد في الغرب ويذهب الى الشمال اذا كان اصيل الجنوب ويلتحق بالعاصمة مفتشا عن أرباب المعرفة وأساطين الحكمة حتى يأخذ عنهم ويطلع على دروسهم ويتعلم في جامعاتهم ومعاهدهم ويحضر ندواتهم ومسامراتهم ونقاشاتهم.
السفر من أجل الترفيه:
اذا كثر الهم وضاق المكان وتعاظمت المشاغل وتضاعف التعب احتاج الانسان للترويح عن النفس والتجوال في الدنيا والسفر الى الأماكن الهادئة حيث المناظر الطبيعية الخلابة والمياه العذبة والمنتجعات السياحية الراقية ويطلق العنان الى الاستماع الى الموسيقى وممارسة الرياضة المحبذة والصيد وركوب الخيل وتسلق الجبال ويتم افراغ النفس من الانشغالات.
الكتابة سفر في الوجود:
"ينبغي دائما أن تكون الكتابة انتصارا وبتعبير أدق انتصار على الذات يجب نقله الى الآخرين لينتفعوا به"[1]
ليست الكتابة مجرد السرم بالخط عن طريق اليد أو الآلة اليوم وانما هي في عرف الأدباء انشاء النثر والقيام بالنظم وهي" اعتاق المملوك يدا حالا ورقبة مآلا حتى لا يكون للمولى سبيل على اكسابه"[2] ولذلك جاء في القرآن الكريم ذكر الكتاب المبين والقلم المسطور واللوح المحفوظ وأم الكتاب. هذا المعنى يجعل من الكتابة قيام عن الباطل عند الحق ونهوض عن السكون وعبور نحو الحركة واستقامة من أجل البقاء واعتاقة من العبودية للأشياء والتمتع بالحرية في باحة الكينونة والانسان الكادح هو الذي يخط في كتاب الوجود سطرا بعد آخر.
علاوة على ذلك ليس السفر مجرد قطع مسافة مشيا على الأقدام أو بواسطة وسيلة تنقل في البر والبحر والجو من طرف فرد أو مجموعة وانما هو تجربة بالمعنى الوجودي للكلمة ولذلك لكونه خروج على قصد و"سير القلب عند أخذه في التوجه الى الحق بالذكر"[3].
صفوة القول أنه لا نستطيع أن نحيا دون أن نسافر ولا نقدر على السفر دون أن تنضاف الى مخيلتنا صورة جديدة وتنقدح في عقلنا فكرة طريفة ونشرع على التو في أداء طقس الكتابة.
لكن كيف تحقق الكتابة شهود اندراج الحق في الخلق ورجوع صورة الكثرة الى عين الوحدة وتحقيق البقاء بعد الفناء والفرق بعد الجمع؟ وما الفرق بين السفر الى الداخل والسفر الى الخارج؟ وأليست الثورة هي سفر الشعب نحو كتابة ملحمته الوجودية والاستمتاع بالنور والحرية؟ وما السبيل الى كتابة الكتابة والسفر في السفر؟
المراجع:
الجرجاني، التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2000.
فريدريك نيتشه، انسان مفرط في انسانيته، كتاب العقول الحرة ، ترجمة محمد الناجي ، أفريقيا الشرق، المغرب، 2001
[1] فريدريك نيتشه، انسان مفرط في انسانيته، كتاب العقول الحرة ، ترجمة محمد الناجي ، أفريقيا الشرق، المغرب، 2001، ص.51.
[2] الجرجاني، التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2000، ص.183.
[3] الجرجاني، التعريفات، ص.122.

CONVERSATION

0 comments: