للرئيس تحيّة/ د. حبيب بولس

بداية أقول:أعرف أنّ كلامي هذا سيرفضه البعض وهذا من حقّهم فالامور وجهات نظر , ولكنني لا اقول الا ما اشعر به واحس وما يعبر عن قناعاتي. من هنا أقول:
في لقاء متلفز للرئيس الفلسطيني محمود عباس مع قناة (أل.بي.سي) اللبنانية، ظهر أبو مازن قائدا سياسيّا، وطنيّا، محنّكًا. أعجبني فيه صدقه، فقد كان في أجوبته صادقا، قاطعا حدّ السكين، لا يداهن ولا يرائي، ولا يلفّ الجواب بضبابيّة، ويقدّم البرهان والدليل على ما يقول. أعجبتني فيه صراحته، وصرامته، لقد كان حقّا صريحا، لم يتهرب من سؤال، ولم يمكيّج جوابا. هذه الصراحة أذهلت مستجوبه وأذهلت المشاهدين، كما أن صرامته كانت قاطعة، يطرح مواقفه وآراءه بحزم وبصراحة غير مسبوقة في مثل هذه المقابلات. والدليل على ما أقول، هو تمسّك الرئيس بالشرعيّة الدوليّة وبالثوابت الوطنيّة. "لا دولة فلسطينيّة بدون القدس عاصمة لها". هكذا يصرّح على الملأ، لا تنازل عن إقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام سبعة وستين بكامل شرعيّتها واستقلالها، لا تنازل عن موقف وقف الاستيطان، ولا عن تحرير الأسرى، وحقّ العودة، لا تنازل عن الحدود الآمنة، وعن حصّة فلسطين في المياة، لا تنازل عن المقاومة السلمية، التي بدأت تثمر وتأتي أكلها في "بلعين". لا تنازل عن عدم استعمال العنف والمقاومة المسلّحة، يصرّح أبو مازن ويقول: الانتفاضة الثانية خرّبت ودمّرت الكثير، والآن نحن نريد أن نعمّر ما دمّر. على هذا المبدأ تمّ انتخابي كرئيس، وعليه سأكون حريصا وقد أعلنت ذلك منذ البداية ولن أتراجع عنه- مهما وجّهت إليّ اتهامات وانتقادات.
وحين سُئل عن ترشيحه للانتخابات القادمة أجاب بكل بساطة وبصراحة: قلت في السابق لن أُرشّح نفسي للانتخابات مرّة أخرى، وأنا عند ذلك. والأمر الرائع الذي أدهشني حقًّا كان السّؤال عن الهبّات الشبابيّة التي اكتسحت العالم العربيّ مطالبة بتغيير الأنظمة، فحين سُئل أبو مازن عن ذلك قال: إذا قال الشعب نريد التغيير ونريد تغيير الرئيس، سأذهب على الفور، فأنا أُصغي لنبض الشارع وللشباب دائما، وأستمدّ منهم الرأي في أحايين كثيرة.
وحين وصلت المقابلة الى الأمر الشائك والحارق معا، أعني قضيّة المصالحة الوطنيّة، أكّد عباس بكل حزم على تمسّكه بها، فهي في رأيه أثمن ما نملك الآن في مواجهة العالم.
وحين سُئل عن الخلافات لم يتهرّب، بل أجاب بكل صراحة: الخلافات قائمة حقًّا، وهي تتمحور على قضيّة تشكيل الحكومة، وعلى من سيرأسها، وعلى كيف ستكون؟ والاقتراح الذي قدّمته لحماس اقتراح عقلانيّ موضوعيّ ينبع من قناعاتي وهو مقبول على الجميع في الداخل والخارج، أعني تشكيل حكومة "تخنوقراط"، أي حكومة خبراء، يكون وزراؤها من الفنيّين المستقلّين، الذين لا ينتمون لأيّ حركة سياسيّة، وهي ستكون حكومة انتقاليّة- مهامّها محدّدة بأمرين: إعادة اعمار غزّة أوّلا، ثمّ التحضير للانتخابات. ولأنّها ستكون كذلك إذا عليها أن تنفذ سياستي.
أَمّا الخلاف الأساس مع حماس فهو من سيرأس هذه الحكومة؟ أنا متمسّك باقتراحي، وهذا من حقّي كرئيس، أيّ من حقّي تسمية رئيس الحكومة. وقد سمّيت سلام فيّاض، ذلك لأنه يستجيب لكلّ ما يتطلبه المنصب اليوم. فسلام فيّاض رجل مستقّل، خبير، وبخبرته هذه حوّل الضفة الغربية الى ورشة عمل واسعة، استطاع من خلالها بناء الدولة الفلسطينية بكامل مؤسّساتها وبكامل بنيتها التحتيّة، حتى صارت فلسطين دولة جاهزة حتى قبل أيلول، الموعد المحدّد. والى جانب خبرة فيّاض الفنيّة تشهد له الدول جميعها المانحة وغير المانحة، على أنّه رجل عمل، نظيف اليد، مستقيم، لا يتراجع عن مبدأ، ولا يتنازل عن حقّ. إن تمسّك أبي مازن بسلام فيّاض تمسّك مدهش، ذلك لأنَه يغلب المصلحة العامّة على المصلحة الحزبية. فكلّنا يعرف أنّ فيّاض لم يكن على علاقة طيّبة مع فتح ولا مع أبي مازن- وقد قيل انه فرض من قبل أمريكا، ولكن أبا مازن على ما يبدو مع التجربة والمراقبة، وجد أَنّ هذا الرجل هو خير من يقود الحكومة، في هذه الفترة الحرجة، حتى يصل بها الى الانتخابات الحرّة، الديمقراطية النزيهة، وهي المُنى والمشتهى لإقامة دولة فلسطينيّة ديمقراطيّة علمانيّة مستقلّة، والشّر قد يُثمر خيرا، وهذا ما حصل مع أمريكا فعلا، فهي وان كانت تنوي شرّا، فقد انقلب الأمر عليها، فها هو سلام فيّاض أمامنا رجل شفّاف يقود حكومته من انجاز الى انجاز رأيه ينبع من قناعات ولا يسمح لأيّ جهة أن تُملي عليه رأيًّا.
وفي المقابلة ظهر أبو مازن رجلا قويًّا، واثقا من نفسه، ومن كلامه، من رؤاه ومن آرائه، لا يتلعثم، ولا يتكتّم على شيء. من هنا بدأت أفهم لماذا يريد رئيس حكومة إسرائيل "نتنياهو" أن يتخلّص منه، ولماذا صار أبو مازن اليوم رجلا لا يصلح أن يكون شريكا له في العمليّة السّلميّة، مع أنّه كان كذلك من قبل. وهذا الأمر في رأيي شهادة كبيرة لأبي مازن ولمواقفه، فطالما أن إسرائيل تخشاه وتخشى خطواته الجريئة، طالما أنّه يسير في الطريق الصّحيح.
لقد ظهرت وجهة نظر الرئيس الصادقة بقوله: نحن لا نستطيع الاستغناء عن أمريكا اليوم، فقيادة العالم بيدها، القيادة السياسيّة والعسكريّة والماديّة وهل لنا خيار آخر؟، ولكنّني قلق على مصير رئيسها "أوباما" ولكي نحرج أمريكا علينا التمسّك بأقوال رئيسها أيّ الحلّ على أساس حدود عام سبعة وستين. بهذا نحرج "أوباما" نفسه ونجعله يفكّر مرتين، قبل أن تعلن أمريكا "الفيتو"، لأنّه إذا أعلنت ذلك فعلا- وهذا على ما يبدو ما سيحصل، سنحرج الرئيس ونظامه وستكون له فضيحة.
أنا مع المفاوضات يقول أبو مازن ولكن ليس قبل وقف الاستيطان. وأنا مع الشرعية الدوليّة، ولكن لا المفاوضات ولا غيرها ستثني عزيمتنا، نحن ذاهبون الى الجمعيّة العامّة في هيئة الأمم المتّحدة في أيلول لانتزاع الاعتراف الدوليّ بدولة فلسطين، معنا الآن مائة وعشرون دولة، وما ينقصنا هو ثماني دول فقط، ونحن نعمل على ذلك وسننجح العالم كلّه معنا، وصاحب الحق لا يخاف ولا يهاب.
وحين سُئل عن حماس وعن علاقتها بإيران أجاب بكلّ صراحة، حماس مموّلة من إيران ومن هنا تأخذ منها الأوامر وعلى هذا الأمر أن ينتهي، نحن لا نرضى بهيمنة إيران ولن نسمح بذلك- نحن نسعى الى دولة مستقّلة يعترف بها العالم أجمع، دولة ديمقراطية علمانيّة مسالمة متمسّكة بالشرعيّة الدوليّة.
كم هو كلام صادق هذا الكلام.
وكم كان أبو مازن متألّقًا في هذا اللّقاء، لدرجة شعرت فعلا بأنّه يستحق فعلا هذه الرئاسة، ويستحقّ التقدير والاحترام فهو بلا شكّ قائد سياسيّ يعي ضروريّات المرحلة، ويعي ملابساتها، ويعرف كيف يقود السفينة الى برّ الأمان، يؤمن بالثوابت دون تنازلات ودون تخاذل، يُؤمن بالحقّ الفلسطينيّ ولا يفرّط فيه، يقدّر ويحترم الشرعيّة الدّوليّة- رجل سلام حقيقيّ، لا يتراجع عن موقف، ولا يتنازل عن حقّ، ولأنّه أثار إعجابي وأعتقد أنّه أثار إعجاب الكثيرين. من هنا أقول ولا يهمّني ما سيتقوّله الآخرون: أبو مازن دمت ذخرًا للوطن ولشعبنا، ولتبق صامدًا كالصخر، فنحن معك، مع المواقف الثابتة، مع الحق، أكمل المشوار، نحن معك، ولا حقّ يموت، طالما أنّ رجالا من أمثالك يقفون وراءه، ويسعون الى تحقيق الحلم بكل حزم وثقة.
نحن معك بانتظار الفجر، بانتظار انفراط عقد النجوم على قدميّ دولتنا الفلسطينيّة المستقلّة وعاصمتها القدس الشريف التي حتمًا ستقوم.
لك ألف تحيّة مغروفة من القلب.
ونحن والدولة الفلسطينيّة على ميعادٍ، على ميعاد...

CONVERSATION

0 comments: