مرمرة "الطيب"/ المحامي جواد بولس

- كفرياسيف

منذ بداية التاريخ ارتبطت "السياسة" بالدهاء والذكاء. رافقتها الحيلة وخدمتها الوسيلة. لطالما عاكس باطنها ظاهرَها، وحلوها مرارًا سال عسلًا على طرف اللسان وجلّه كان سمًّا وخداعًا.
وإن كان هذا واقع حال تلك الدنيا وغابر الزمان، فاليوم أصبحت أمور "السياسة" أعقد وأكثر تشابكًا. فعندما نقول ونكرر، صبح مساء، أنّ العالم أصبح قرية صغيرة يتوجّب علينا أن نلحِق هذه القناعة بتغيير العديد من قواعد السلوك وأنماطه التي اعتدنا على وضوحها وبيانها، ساعة لم يكن العالم قرية صغيرة!
العالم قرية صغيرة. قول يحتّم علينا اليوم أن نتروَّى قبل أن "نعوم على شبر ماء". وأن لا نغترّ ونغبط بكل من يربِّت على أكتافنا آخذين إياه سندًا وشيخًا، نقدّمه ونقعِده في صدر ديواننا ونرفعه سيّدًا وتاجًا لرؤوسنا!
العالم قرية صغيرة، فالخبر يساوي الشائعة، وهذا كتلك يطير على أجنحة البرق، ولا يهمل بيتًا ولا موقعًا. مصالح الأمم اتّسعت وتخطّت حدودًا. قرَّبت بين أعداء وفرَّقت بين أخوة. حتى المجازات انقلبت، أحيانًا، والعنكبوت أمست شبكته وسيلة تقرِّب تألِّفُ قلوبًا، بعدما كانت، دومًا، مثارًا للحيلة والإيقاع ورمزًا للبراءة تُصطاد على حين غفلةً.
قبل عام عاش العالم/القرية أحداث "المرمرة" وأسطول الحرية. في حينه كتبت ما كتبته عن "ما بين "مرمرة" التركية والمرمرة الإسرائيلية". واليوم أعود لذلك لا من باب "فتح الجراح" إنّما على ظهر أسطول تعثّر ولم يفلح بإقلاع بعد أن تدخَّل "أصحاب الهمم" وأفشلوه.
هل تذكرون أيّها الإخوة رجب طيّب أردوغان، بطل العروبة وأيقونة الأحرار في العام المنصرم. هل تذكرون كيف احتسبه البعض سندنا وشيخنا ومخلّصنا؟ كيف أدخلناه وأجلسناه في صدر بيوتنا وطفقنا نقسِم بتركيا وبطيّبِها، يعيدون لنا أمجادًا تليدة. نعم لقد "عمنا على شبر ماء" فها هي تركيا وطيّبها يتصدرون هذا العام عملية إفشال إبحار "أسطول حرية" ثان. وها هو "الخليفة المنقذ" يعود إلى أحضان حلفائه: أمريكا وإسرائيل والناتو، يخطط ويرسم ويحلم كيف بدعمهم ورضاهم سيتمكن من إحكام سيطرته وزيادة نفوذه في منطقتنا، فهو قبل عام، وهو اليوم، خطط ويخطط لصالح بلده ومنفعة قومه، ولذا الحرية لم تكن بالضرورة عنوان ومحرك أسطوله وطائراته.
اليوم ونحن نقرأ سيلًا مما يكتب عن علاقات تركيا وتحديدًا رجب طيّب أردوغان وحزبه مع أمريكا وإسرائيل وفرنسا، يستفزني صمت كل من هلّل وكبّر في تلك الأيام "الصحوة" لهذا المغوار والقائد الفذ الذي ساواه البعض بصلاح الدين والآخرون حاولوا إقناعنا بأنه جمال عبد الناصر وإن كان تركيًا.
هل تتذكرون كيف استفاضت قرائح وانحلت عقد وانسابت غدد من فرح ونشوة بنصر عربي إسلامي يقبع خلف الباب ولا يؤخّره إلّا كرّة أخرى من أسطول بحريٌ أو سرب طائرات سيقودها، حتمًا، "الطيّب" وصحبه!.
"كيف نجح من نجح بدفع مئات ممن كتبوا بالتحليل والتمحيص والتدليل عن قصد تركيا وأهدافها من وراء هذه التجربة؟ وطفق يتحزب هذا إلى تركيا المسلمة، وآخر ينتشي بعودة الخلافة العثمانية الزاحفة والمعيدة أمجادًا لا ناقة لنا فيها ولا جمل. كُتب الكثير عن تركيا ودورها وهذا شأن مشروع وضروري، لكني أعتقد أن تحميل هذا النقاش على ظهر هذه السفن يضر بالتجربة ولا يخدمها".. هكذا كتبت قبل عام تمامًا وأعود أذكّر بذلك اليوم لأنني ما زلت أنادي، كما ناديت في حينه، بوجوب دراسة تجربة مشاركة أربعة من قياديي الجماهير العربية في إسرائيل في أسطول الحرية. أعتقد أن تقييم التجربة بشكل موضوعيّ ومسؤول من شأنه أن يفيد تجربة هذه الجماهير. قلت هذا في حينه واليوم يتبيّن أن هنالك حاجة أمَسّ لمثل هذه الدراسة، خاصة وأن بعض المشاركين في تلك التجربة أعلنوا أنهم لن يشاركوا هذه المرة وأنّ المشاركة لن تكون في صالحهم وصالح جماهيرهم. فماذا تغير واختلف؟
والأهم يبقى الدرس عن تركيا وأخواتها وعن مصلحتنا. مصلحة هذه الجماهير وضرورة عدم إقلاعها على أساطيل الأحلام وأسراب التمني. "فلا يختلف اثنان على أن دور تركيا الرسمية والشعبية كان الدور الأبرز. ولكننا نخطئ حين نحيّد أممية المشاركين وشمولية انتماءاتهم وهوياتهم السياسية والوطنية وحتى الدينية. هؤلاء جاؤوا ليكونوا معنا مع فلسطين وشعبها المظلوم. فكيف ولماذا ومن المعني بتحويل السؤال ليغدو نحن مع من؟ ويتحول هذا بالتخصيص المؤذي إلى: هل نحن مع تركيا؟ أم مع إيران؟ أم مع مصر؟ أو مع سوريا؟" ... هكذا كتبت قبل عام وأعتقد أنه على كل من زغرد و"سحج" لتركيا أن يراجع نفسه اليوم، وعلى كل من كتب وأبحر على أمواج "أردوغان" آن يصحح مواقفه ويعتبر من التجربة فالهم يبقى همّنا والحلم حلمنا والأفق ما نراه من هنا. ومن هنا تبدأ الحكاية ومن هنا تقتلنا النكاية! فهل سنرضى بإبقاء مشروعنا بين "مرمرة" تركية والمرمرة الإسرائيلية .


jawaddb@yahoo.com

CONVERSATION

0 comments: